بيان
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة.
قوله تعالى: «فلما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا» إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء.
و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: «لعلي آتيكم منها بخبر» إلخ قوله: «لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى:» طه: 10، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق.
و كذا في قوله خطابا لأهله: «امكثوا» إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح معه خطاب الجمع.
قوله تعالى: «فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة» إلخ قال في المفردات:، شاطىء الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.
و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطىء و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.
و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطىء الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: «فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى»: طه: 12.
و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شيء محيط، قال تعالى: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»: الشورى: 51.
و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.
و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليهم السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ.
و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.
و قوله: «أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين» أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا - و الرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه.
ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية» الآيات: طه: 14 - 16.
قوله تعالى: «و أن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى: مدبرا و لم يعقب» تقدم تفسيره في سورة النمل.
قوله تعالى: «يا موسى أقبل و لا تخف إنك من الآمنين» بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: «يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون»: النمل: 10 و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شيء.
قوله تعالى: «اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء» المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه، و المراد بالسوء - على ما قيل - البرص.
و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج.
قوله تعالى: «و اضمم إليك جناحك من الرهب» إلى آخر الآية، الرهب بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح قيل: المراد به اليد و قيل: العضد.
قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.
و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.
و الوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعني قوله: «و اضمم» إلخ، من تتمة قوله: «أقبل و لا تخف إنك من الآمنين» و هذا لا يلائم تخلل قوله: «اسلك يدك في جيبك» إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.
و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.
و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: «و اخفض جناحك للمؤمنين»: الحجر: 88 على بعض المعاني.
قوله تعالى: «قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون» إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا.
قوله تعالى: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون» قال في المجمع:، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره.
انتهى.
و قوله: «إني أخاف أن يكذبون» تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: «قال رب إني أخاف أن يكذبون و يضيق صدري و لا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون»: الشعراء: 13.
فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.
قوله تعالى: «قال سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون» شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.
و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها.
ثم قال: «أنتما و من اتبعكما الغالبون» و هو بيان لقوله: «و نجعل لكما سلطانا» إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس.
و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: «بآياتنا» متعلقا بقوله: «الغالبون» لا بقوله: «فلا يصلون إليكما» و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: «فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى» إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.
و الإشارة في قوله: «ما هذا إلا سحر مفترى» إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.
و الإشارة في قوله: «و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: «فلنأتينك بسحر مثله»: طه: 58، على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.
فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: «ربي أعلم بمن جاء بالهدى» إلخ.
قوله تعالى: «و قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده و من تكون له عاقبة الدار» إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: «و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي - و هو رب العالمين له الخلق و الأمر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى - و هو دين التوحيد - و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.
فقوله: «ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده» يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.
و قوله: «و من تكون له عاقبة الدار» المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: «و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء»: الزمر: 74، و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: «قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين»: الأعراف: 128، و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: «إنه لا يفلح الظالمون».
و في قوله: «إنه لا يفلح الظالمون» تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.
قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: «و قال موسى ربي أعلم» إلخ، على قولهم: «ما هذا إلا سحر مفترى» إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد.
انتهى.
و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.
قوله تعالى: «و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري» إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره.
فقوله: «ما علمت لكم من إله غيري» سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: «ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد»: المؤمن: 29.
فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.
و بذلك يظهر أن قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها.
و قوله: «فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا» المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه.
و قوله: «لعلي أطلع إلى إله موسى» نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم.
و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: «يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا»: المؤمن: 37.
و قوله: «و إني لأظنه من الكاذبين» ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات و الأرض»: إسراء: 102.
و ذكر بعضهم أن قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: «قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و الأرض»: يونس: 18، و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.
قوله تعالى: «و استكبر هو و جنوده في الأرض بغير الحق و ظنوا أنهم إلينا لا يرجعون» أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا».
قوله تعالى: «فأخذناه و جنوده» إلخ النبذ الطرح، و اليم البحر و الباقي ظاهر.
و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.
قوله تعالى: «و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون» الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه.
و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شيء.
و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: «و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا»: الزخرف: 19.
و فيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه.
على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.
و قوله: «و يوم القيامة لا ينصرون» أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.
قوله تعالى: «و أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة هم من المقبوحين» بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم.
فالآية في معنى قوله: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم»: العنكبوت: 13 و قوله: «و نكتب ما قدموا و آثارهم»: يس: 12، و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها.
و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.
بحث روائي
في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما.
أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.
و في المجمع، روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا «قال لأهله امكثوا إني آنست نارا».
و عن كتاب طب الأئمة، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): «و أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء» يعني من غير برص.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا - فأرسله معي ردءا يصدقني» قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز و جل عليها؟ قال: ثلاثة أيام. قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه و أمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز و جل يقول: «يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي»؟ فقلت: فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: كان الوحي ينزل على موسى و موسى يوحيه إلى هارون. فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي كان ذلك إليهما؟ قال: كان موسى الذي يناجي ربه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل و هارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى و ماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرية له.
أقول: و آخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، و في التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.
في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: «و استكبر هو و جنوده» قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز و جل: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.
و في الكافي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز و جل إمامان قال الله تبارك و تعالى: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا» لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم و حكم الله قبل حكمهم. قال: «و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار» يقدمون أمرهم قبل أمر الله و حكمهم قبل حكم الله و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل.
كلام حول قصص موسى و هارون (عليهما السلام)
في فصول 1 - منزلة موسى عند الله و موقفه العبودي:
كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء و لهم كتاب و شريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا»: الأحزاب: 7، و قال: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى»: الشورى: 13. و لقد امتن الله سبحانه عليه و على أخيه في قوله: «و لقد مننا على موسى و هارون»: الصافات: 114 و سلم عليهما في قوله: «سلام على موسى و هارون»: الصافات: 120.
و أثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا»: مريم: 52، و قال: «و كان عند الله وجيها»: الأحزاب: 69، و قال: «و كلم الله موسى تكليما»: النساء: 164.
و ذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية 84 - 88 فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين و أنه فضلهم على العالمين و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم.
و ذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية 58 منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.
فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص و التقريب و الوجاهة و الإحسان و الصلاح و التفضيل و الاجتباء و الهداية و الإنعام و قد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب و كذا البحث عن معنى النبوة و الرسالة و التكليم.
و ذكر الكتاب النازل عليه و هو التوراة فوصفها بأنها إمام و رحمة سورة الأحقاف: 12 و بأنها فرقان و ضياء و ذكر: الأنبياء: 48 و بأن فيها هدى و نور: المائدة: 44 و قال: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء»: الأعراف: 145.
غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها و اختلفوا فيها.
و قصة بخت نصر و فتحه فلسطين ثانيا و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).
2 - قصص موسى (عليه السلام)
في القرآن: هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوه - في مائة و ستة و ستين موضعا من كلامه تعالى، و أشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شيء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المن و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك.
و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق و جل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و أممهم.
و هذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت أمه إياه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون.
ثم بلغ أشده و قتل القبطي و هرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون و ملئه أن يقتلوه قصاصا.
ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) و تزوج إحدى بنتيه.
ثم لما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا و قد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه.
فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحق و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضه بسحر السحرة و قد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين و حيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون و أصر فرعون على جحوده و هدد السحرة و لم يؤمن.
فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات و هم يصرون على استكبارهم، و كلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.
فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.
و لما أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البر و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظللهم الغمام.
ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، و لما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.
فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل و نسفه في اليم و طرد السامري و قال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و أما القوم فأمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.
ثم إنهم ملوا المن و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.
و من قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتى فارقه.
3 - منزلة هارون (عليه السلام)
عند الله و موقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنه من المحسنين و من عباده المؤمنين الصافات: 114 - 122 و عده مرسلا طه: 47 و نبيا مريم: 53 و أنه ممن أنعم عليهم مريم: 58 و أشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية الإنعام: 84 - 88.
و في دعاء موسى ليلة الطور: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا»: طه: 35.
و كان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره و يعينه على جميع مقاصده.
و لم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين.
4 - قصة موسى (عليه السلام)
في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاويين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته و ما أوحي إليه من الشرائع و الأحكام.
غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.
و من أهمها أنها تذكر أن نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله و كلمه بما كلمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.
و منها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى و رباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.
و منها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.
و منها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) و ذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها.
فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.
و في الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها.
و هناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.
و أيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.
و أيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده.
و أيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحا الشهادة.
إلى غير ذلك من الاختلافات.
|