بيان
قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين: «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا» و أجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.
قوله تعالى: «إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة» قال في المجمع:، البغي طلب العتو بغير حق.
قال: و المفاتح جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عما يفتح به الأغلاق.
قال: و ناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه.
انتهى.
و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله و هو الأوفق للآية.
و قال في المجمع، أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض.
و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلا عن أبي صالح، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، و قيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.
انتهى.
و يزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف: «و نحن عصبة»: يوسف: 8، و هم تسعة نفر.
و المعنى: أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق و أعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.
قوله تعالى: «إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» فسر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى: «و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور»: الحديد: 23.
و لذا أيضا علل النهي بقوله: «إن الله لا يحب الفرحين».
قوله تعالى: «و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة» إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.
و قوله: «و لا تنس نصيبك من الدنيا» أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسي و اعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له.
و قيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - و قد أقبلت عليك - شيء قليل مما أوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلا و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيد.
و هناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق.
و قوله: «و أحسن كما أحسن الله إليك» أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: «و لا تنس نصيبك من الدنيا» على أول الوجهين السابقين و متممة له على الوجه الثاني.
و قوله: «و لا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.
قوله تعالى: «قال إنما أوتيته على علم عندي» إلى آخر الآية.
لا شك أن قوله «إنما أوتيته على علم عندي» جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به و كان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه و فضلا منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.
فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق و دعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدره في أنواع التنعم و بسط السلطة و العلو و البلوغ إلى الآمال و الأماني.
و هذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز و ساق إليه القوة و الجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة و قدرته النفسانية لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة و قوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.
و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: «و إذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة و لكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون»: الزمر: 52، و قال: «أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشد قوة و آثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون»: المؤمن: 83، و عرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه.
و في قوله: «إنما أوتيته» من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: «فيما آتاك الله» نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.
و قوله: «أ و لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا» استفهام توبيخي و جواب عن قوله: «إنما أوتيته على علم عندي» بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتعه منه هو علمه الذي عنده و هو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا، و كان ما له من القوة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر و يتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلا و إحسانا لنجاهم من الهلاك و متعهم من أموالهم و دافعوا بقوتهم و انتصروا بجمعهم.
و قوله: «و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون» ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول و القوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، و ربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.
و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق و يكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنما يؤاخذه بذنبه، و أيضا يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل أخرى: فقيل: المراد بالعلم في قوله: «إنما أوتيته على علم عندي» علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها.
و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب.
و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزا و دفائن كثيرة.
و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: أوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله: «عندي» هو كذلك في ظني و رأيي.
و قيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، و المعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و «على» على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوز أن تكون للتعليل.
و قيل: المراد بالسؤال في قوله: «و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون» سؤال يوم القيامة و المنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أما قوله تعالى: «و قفوهم إنهم مسئولون»: الصافات: 24 فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.
و قيل: الضمير في قوله: «عن ذنوبهم» لمن هو أشد و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.
و هذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: «فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم» الحظ هو النصيب من السعادة و البخت.
و قوله: «يريدون الحياة الدنيا» أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم»: النجم: 30 و لذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.
قوله تعالى: «و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا» إلخ، الويل الهلاك و يستعمل للدعاء بالهلاك و زجرا عما لا يرتضي، و هو في المقام زجرا عن التمني.
و القائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون و عدوه سعادة عظيمة على الإطلاق، و مرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.
و قوله: «و لا يلقاها إلا الصابرون» التلقية التفهيم و التلقي التفهم و الأخذ، و الضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق، و المعنى: و ما يفهم هذه الكلمة - و هي قولهم: ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا - إلا الصابرون.
و قيل: الضمير للسيرة أو الطريقة و معنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.
و الصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد و على الطاعات و عن المعاصي، و وجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي - و هو لا ينفك عن الإيمان و العمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء و الحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع و عصيان النفس الأمارة.
قوله تعالى: «فخسفنا به و بداره الأرض» إلى آخر الآية، الضميران لقارون و الجملة متفرعة على بغيه.
و قوله: «فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين» الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، و في النصر و الانتصار معنى المنع و الامتناع، و محصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب و ما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه و لم تفده قوته من دون الله و بان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.
فالفاء في قوله: «فما كان» لتفريع الجملة على قوله: «فخسفنا به» إلخ، أي فظهر بخسفنا به و بداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق و الاستغناء عن الله سبحانه و أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه و قد اكتسبهما بنبوغه العلمي.
قوله تعالى: «و أصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر» إلخ، ذكروا أن «وي» كلمة تندم و ربما تستعمل للتعجب و كلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد و إن كان التندم أسبق إلى الذهن.
و قوله: «كان الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر» اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون و هم يصدقونه أن القوة و الجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه و جودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق و ضيقه بمشية من الله.
و المقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك و التردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم «كان» للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون و قد قبلوه و صدقوه من قبل و هذه صنعة شائعة في الاستعمال.
و الدليل على ذلك قولهم بعده: «لو لا أن من الله علينا لخسف بنا» على طريق الجزم و التحقيق.
و قوله: «ويكأنه لا يفلح الكافرون» تندم منهم ثانيا و انتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون.
قوله تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين» الآية و ما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.
و قوله: «تلك الدار الآخرة» الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها و بهائها و علو مكانتها و هو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة و لذا فسروها بالجنة.
و قوله: «نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا» أي نختصها بهم و إرادة العلو هو الاستعلاء و الاستكبار على عباد الله و إرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإنسان على مقتضيات فطرته و خلقته و لا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإنسانية الأرضية فكل معصية تقضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس»: الروم: 41.
و من هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد و إنما أفردت و خصت بالذكر اعتناء بأمرها، و محصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله و لا بأي معصية أخرى.
و الآية عامة يخصصها قوله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما»: النساء: 31.
و قوله: «و العاقبة للمتقين» أي العاقبة المحمودة الجميلة و هي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا و الآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.
قوله تعالى: «من جاء بالحسنة فله خير منها» أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»: الأنعام: 160.
قوله تعالى: «و من جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون» أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا و فيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل.
و كان مقتضى الظاهر في قوله: «فلا يجزى الذين عملوا» إلخ، الإضمار و لعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية و أحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، و قوله: «كانوا يعملون» الدال على الإصرار و الاستمرار، و أما من جاء بالسيئة و الحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم»: التوبة: 102.
و ليعلم أن الملاك في الحسنة و السيئة على الأثر الحاصل منها عند الإنسان و بها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة و عليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإنسان أو يعاقب، قال تعالى: «و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: البقرة: 284.
و به يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة و لا يعقل خير منه و أفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.
و ذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه و إن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.
على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة و الضعف و الزيادة و النقيصة و إذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه و كان يبتغي العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى و حسده. فقال له موسى (عليه السلام): إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة و جاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم. فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تصلوا الرحم و كذا و كذا و قد أمرني في الزاني إذا زنى و قد أحصن أن يرجم. قالوا: و إن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟. فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (عليه السلام): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني و جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي و أنا أشهد أنك بريء و أنك رسول الله. فخر موسى (عليه السلام) ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي و تضرعوا إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: و ذلك قوله تعالى: «فخسفنا به و بداره الأرض» خسف به إلى الأرض السفلى.
أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة: لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملإ من بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) بالفجور و تشكوه إلى قارون فجاءت إليه و اعترفت عند الملإ بالحق فبلغ ذلك موسى (عليه السلام) فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه.
و روى القمي في تفسيره،: في القصة أن موسى (عليه السلام) جاء إلى قارون و بلغه حكم الزكاة فاستهزأ به و أخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به و بداره الأرض، و الرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة و لذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس و ابن نوفل أيضا موقوفتان.
على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى (عليه السلام) و الذي تقصه الآيات بغيه على بني إسرائيل، و تشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم و ظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة و نحوها.
و قد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإصحاح السادس عشر من سفر العدد: و أخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي و داثان و أبيرام ابنا ألياب و أون بن فالت بنور أوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين و خمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى و هارون و قالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة و في وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟. فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح و جميع قومه قائلا: غدا يعلن الرب من هو له؟ و من المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح و كل جماعته و اجعلوا فيها نارا و ضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي. ثم سيقت القصة و ذكر فيها حضورهم غدا و مجيؤهم بالمجامر و فيها النار و البخور و اجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم و فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم و كل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم و كل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، و كل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، و خرجت نار من عند الرب و أكلت المائتين و الخمسين رجلا الذين قربوا البخور.
انتهى موضع الحاجة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «إن قارون كان من قوم موسى»: و هو ابن خالته: عن عطاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ما إن مفاتحه لتنوء» الآية، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة.
و في المعاني، بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و لا تنس نصيبك من الدنيا» قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك و نشاطك أن تطلب بها الآخرة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فخرج على قومه في زينته» قال: في الثياب المصبغات يجرها بالأرض.
و في المجمع، و روى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضال و يعين الضعيف و يمر بالبياع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: «تلك الدار الآخرة - نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا» و يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس.
و فيه، روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية «تلك الدار الآخرة» الآية.
أقول: و عن السيد ابن طاووس في سعد السعود، أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.
و في الدر المنثور، أخرج المحاملي و الديلمي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية قال: التجبر في الأرض و الأخذ بغير الحق.
|