بيان
الآيات خاتمة السورة و فيها وعد جميل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره و نفوذ كلمته و تقدم دينه و انبساط الأمن و السلام عليه و على المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى و بني إسرائيل، و قد كانت قصة موسى و بني إسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك.
قوله تعالى: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» إلى آخر الآية الفرض - على ما ذكره - بمعنى الإيجاب فمعنى «فرض عليك القرآن» أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الأحكام ففيه مجاز في النسبة.
و أحسن منه قول بعضهم: إن المعنى أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل به و ذلك لكونه أوفق لقوله: «لرادك إلى معاد» بما سيجيء من معناه.
و قوله: «لرادك إلى معاد» المعاد اسم مكان أو زمان من العود و قد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته إلى مكة ثانيا، و قيل: هو الموت، و قيل: هو القيامة، و قيل: هو المحشر، و قيل هو المقام المحمود و هو موقف الشفاعة الكبرى، و قيل: هو الجنة، و قيل: هو بيت المقدس، و هو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول: و قيل: هو الأمر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة أو كلها.
و الذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده.
فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل و موسى (عليهما السلام) في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالأمن و السلام و العزة و التمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم يستحيون نساءهم، و قد كانت القصة تدل بالالتزام - و مطلع السورة يؤيده - على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة و الشدة و العسرة و يظهر دينهم على الدين كله و يمكنهم في الأرض بعد ما كانوا لا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم.
ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدي الناس إلى الحق تذكرة و إتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الأولى و كما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كذبوا به عنادا للحق و إيثارا للدنيا على الآخرة.
و هذا السياق يرجي السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه و خاصة مع الابتداء بقوله: «إن الذي فرض عليك القرآن» و قد قدم تنظير التوراة بالقرآن و قد كان ما قصه في إنجاء بني إسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها و العمل بها أئمة و يكونوا هم الوارثين.
فمعنى الآية: إن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس و تبلغه و تعملوا به سيردك و يصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا و يكون هو معادا لك كما فرض التوراة على موسى و رفع به قدره و قدر قومه، و من المعلوم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بمكة على ما فيها من الشدة و الفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا و ثبتت قواعد دينه و استحكمت أركان ملته و كسرت الأصنام و انهدم بنيان الشرك و المؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.
و في تنكير قوله: «معاد» إشارة إلى عظمة قدر هذا العود و أنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها و التاريخ يصدقه.
و قوله: «قل ربي أعلم من جاء بالهدى و من هو في ضلال مبين» يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى (عليه السلام) - لما كذبوه و رموا آياته البينات بأنها سحر مفترى -: «ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده و من تكون له عاقبة الدار» فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه و رموه بالسحر ما قال موسى لآل فرعون لما كذبوه و رموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما و سير دعوتهما كما يظهر من القصة و يظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: «إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا»: المزمل: 15.
و لعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى (عليه السلام) و السكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: «و من تكون له عاقبة الدار» لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة و الإيماء كما يستشم من سياق قوله: «لرادك إلى معاد» أيضا حيث خص الخطاب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نكر معادا.
و كيف كان فالمراد بقوله: «من جاء بالهدى» النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه و بقوله: «و من هو في ضلال مبين» المشركون من قومه، و اختلاف سياق الجملتين - حيث قيل في جانبه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من جاء بالهدى» و في جانبهم: «من هو في ضلال مبين» فقوبل بين ضلالهم و بين مجيئه بالهدى لا بين ضلالهم و اهتدائه - لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.
و قد ذكروا في قوله: «أعلم من جاء بالهدى» أن «من» منصوب بفعل مقدر يدل عليه «أعلم» و التقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و ذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم و هو بمعنى عالم و لا دليل عليه، و ما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض و إن لم يظهر فيه النصب لبنائه و التقدير ربي أعلم بمن جاء بالهدى، و لا دليل على منعه.
1614 16 قوله تعالى: «و ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين» صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» أي أنه سيردك إلى معاد - و ما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه -.
و قيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا وجه وجيه و تقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد و فيه ارتفاع ذكره و تقدم دعوته و انبساط دينه خط له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد و مراقبة فبين له أن إلقاء الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى و تترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه و قد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة و في تقدم دعوته و بلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين و لا يطيعهم و يدعو إلى ربه و لا يكون من المشركين و لا يدعو معه إلها آخر.
و قوله: «إلا رحمة من ربك» استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من ربك و ليس بإلقاء عادي يرجى مثله.
و قوله: «فلا تكونن ظهيرا للكافرين» تفريع على قوله: «إلا رحمة من ربك» أي فإذا كان إلقاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها و هو فوق رجائك فتبرء من الكافرين و لا تكن معينا و ناصرا لهم.
و من المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى (عليه السلام) - لما قتل القبطي: «رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين» و على هذا يكون في النهي عن إعانتهم إشارة إلى أن إلقاء الكتاب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نعمة أنعمها الله عليه يهدي به إلى الحق و يدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم و لا يميل إلى صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى (عليه السلام) ربه بما أنعم عليه من الحكم و العلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، و سيأتي أن قوله: «و لا يصدنك» إلخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.
قوله تعالى: «و لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك» إلى آخر الآية، نهي له (صلى الله عليه وآله وسلم) على الانصراف عن آيات الله بلسان نهي الكفار عن الصد و الصرف و وجهه كون انصرافه مسببا لصدهم و هو كقوله لآدم و زوجه: «فلا يخرجنكما من الجنة» أي لا تخرجا منها بإخراجه لكما بالوسوسة.
و الظاهر أن الآية و ما بعدها في مقام الشرح لقوله: «فلا تكونن ظهيرا للكافرين» و فائدته تأكيد النهي بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين اكتتبها، و أمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، و نهاه ثالثا أن يكون من المشركين و فسره بأن يدعو مع الله إلها آخر.
و قد كرر صفة الرب مضافا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) للدلالة على اختصاصه بالرحمة و النعمة و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها.
قوله تعالى: «و لا تدع مع الله إلها آخر» قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: «و لا تكونن من المشركين».
قوله تعالى: «لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون» كلمة الإخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: «و لا تدع مع الله إلها آخر» أي لأنه لا إله غيره و ما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح.
و قوله: «كل شيء هالك إلا وجهه» الشيء مساو للموجود و يطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: «قل أي شيء أكبر شهادة قل الله»: الأنعام: 19، و الهلاك البطلان و الانعدام.
و الوجه و الجهة واحد كالوعد و العدة، و وجه الشيء في العرف العام ما يستقبل به غيره و يرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه و وجه الإنسان النصف المقدم من رأسه و وجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه و يتوجه إليه خلقه به و هو صفاته الكريمة من حياة و علم و قدرة و سمع و بصر و ما ينتهي إليها من صفات الفعل كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و الرحمة و كذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.
فكل شيء هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه الله عليه و أما ما لا ينسب إليه تعالى فليس إلا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال و ذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة إلا أنها حجارة أو خشبة أو شيء من الفلزات و أما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست إلا أسماء سماها عبدتهم و كالإنسان ليس له من الحقيقة إلا ما أودعه فيه الخلقة من الروح و الجسم و ما اكتسبه من صفات الكمال و الجميع منسوبة إلى الله سبحانه و أما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة و سلطة و رئاسة و وجاهة و ثروة و عزة و أولاد و أعضاد فليس إلا سرابا هالكا و أمنية كاذبة و على هذا السبيل سائر الموجودات.
فليس عندها من الحقيقة إلا ما أفاض الله عليها بفضله و هي آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة و رزق و فضل و إحسان و غير ذلك.
فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة و آياته الدالة عليها و الجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة.
هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل و على هذا يكون محصل تعليل كلمة الإخلاص بقوله: «كل شيء هالك إلا وجهه» أن الإله و هو المعبود بالحق إنما يكون إلها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك و لا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت و كل شيء غيره تعالى هالك باطل في نفسه إلا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود إله غيره سبحانه.
و الوثنيون و إن كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى و من جهته إلا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، و لذلك يعبدونها من دون الله، و لا استقلال لشيء في شيء عنه تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو.
و هاهنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشيء فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار و وجه الطريق لنفسهما و إن أمكنت المناقشة فيه، و ذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم و هو من المجاز المرسل أو الاستعارة و على كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة و الممكن و إن كان موجودا بإيجاده تعالى فهو معدوم بالنظر إلى حد ذاته هالك في نفسه و الذي لا سبيل للبطلان و الهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها.
و محصل التعليل على هذا المعنى: أن الإله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شيء من تدبير العالم، و التدبير الكوني لا ينفك عن الخلق و الإيجاد فلا معنى لأن يوجد الحوادث شيء و يدبر أمرها شيء آخر - و قد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - و لا يكون الخالق الموجد إلا واجب الوجود و لا واجب إلا هو تعالى فلا إله إلا هو.
و قولهم: إنه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام و غيرهم ليكونوا شفعاء عنده.
مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه و هو حاصل بالضرورة.
و أما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء بناء على ما قيل: إن اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شيء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلا وجهه.
نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها و بطلانها بعده و في غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب.
و هلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي و خلو النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى و رجوعها إلى الله و استقرارها عنده، و أما البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شيء مرجعه إلى الله و أنه المنتهى و إليه الرجعى و هو الذي يبدىء الخلق ثم يعيده.
فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شيء سيخلي مكانه و يرجع إليه إلا صفاته الكريمة التي هي مبادىء فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له و الإله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته و لا انقطاع لصفاته الفياضة و ليس شيء غيره تعالى بهذه الصفة فلا إله إلا هو.
و لو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شيء سيستقبله الهلاك و الفناء بالرجوع إلى الله سبحانه إلا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - و الصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - و الإله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه و ليس شيء غيره بهذه الصفة فلا إله إلا هو.
و بما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة و النار و العرش فإن الجنة و النار لا تنعدمان بعد الوجود و تبقيان إلى غير النهاية، و العرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش.
وجه الاندفاع أن المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود و الرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي، و أما الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شيء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى.
قال تعالى: «ما عندكم ينفد و ما عند الله باق»: النحل: 96، و قال: «و ما عند الله خير للأبرار»: آل عمران: 198، و قال: «سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله و عذاب شديد»: الأنعام: 124، و نظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه»: الحجر: 21، و كذا اللوح المحفوظ كما قال: «و عندنا كتاب حفيظ»: ق: 4.
و أما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: «إن ربكم الله» الآية،: الأعراف: 54.
و يمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه و هي الناحية التي يقصد منها و يتوجه إليه بها، و تؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله: «يريدون وجهه»: الأنعام: 52، و قوله: «إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى»: الليل: 20، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
و عليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فإن كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه و يكون من مصاديقه أسماؤه و صفاته و أنبياؤه و خلفاؤه و دينه الذي يؤتى منه.
و إن خص الوجه بالدين فحسب - كما وقع في بعض الروايات إن لم يكن من باب التطبيق - كان المراد بالهلاك الفساد و عدم الأثر، و كانت الجملة تعليلا لقوله: «و لا تدع مع الله إلها آخر» و كان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشيء الدين و الأعمال المتعلقة به و كان محصل المعنى: و لا تتدين بغير دين التوحيد لأن كل دين باطل لا أثر له إلا دينه.
و الأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم منه و من التكويني و المعنى: كل دين هالك إلا دينه لأن تشريع الدين إليه و إليه ترجعون لا إلى مشرعي الأديان الأخر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة.
فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة و بالهلاك الانعدام، و المعنى: كل شيء في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، و الكلام على هذا مبني على التشبيه أي كل شيء غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.
و قيل: الوجه بمعنى الذات و المراد به ذات الشيء و الضمير لله باعتبار أن وجه الشيء مملوك له، و المعنى: كل شيء هالك إلا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشيء و وجوده.
و قيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة و الضمير لله، و المعنى: كل شيء هالك بجميع ما يتعلق به إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى و هو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه.
و قيل: الوجهة هو الجهة المقصودة و المراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل شيء و الضمير للشيء، و المعنى: كل شيء هالك إلا الله الذي هو الجهة المطلوبة له.
و قيل: المراد بالهلاك هلاك الموت و العموم مخصوص بذوي الحياة و المعنى: كل ذي حياة فإنه سيموت إلا وجهه.
و قيل: المراد بالوجه العمل الصالح و المعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لأمره تعالى أبقاه الله من غير إحباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لأن الجزاء قائم مقامه و هو باق.
و قيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس.
و قيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا و الآخرة و المعنى كل شيء متغير الذات دائما إلا وجهه.
و هذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية و بين ما لا ينجح به حجتها و بين ما هو بعيد عن الفهم، و بالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.
و قوله: «له الحكم و إليه ترجعون» الحكم هو قضاؤه النافذ في الأشياء و عليه يدور التدبير في نظام الكون، و أما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فإن فصل القضاء متفرع عليه.
و كلتا الجملتين مسوقتان للتعليل و كل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده.
تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الإخلاص، و قد تقدم إمكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس: في قوله تعالى: «لرادك إلى معاد» قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها.
أقول: و روي عنه و عن أبي سعيد الخدري: أن المراد به الموت، و أيضا عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن المراد به الجنة و انطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء.
و روى القمي في تفسيره، عن حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أن المراد به الرجعة و لعله من البطن دون التفسير.
و في الإحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: و أما قوله «كل شيء هالك إلا وجهه» فالمراد كل شيء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء و يبقى الوجه. هو أجل و أعظم من ذلك و إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال: «كل من عليها فان و يبقى وجه ربك» ففصل بين خلقه و وجهه؟.
و في الكافي، بإسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه» فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما إنما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه.
أقول: و روى مثله في التوحيد، بإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه (عليه السلام) و لفظه: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «كل شيء هالك إلا وجهه» قال: كل شيء هالك إلا من أخذ طريق الحق.
و في محاسن البرقي،: مثله إلا أن آخره «من أخذ الطريق الذي أنتم عليه».
و التشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فإن كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه و كان من صقعه تعالى و من جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية.
و إن كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان و عدم التأثير و كان المعنى: لا إله إلا هو كل دين باطل إلا دينه الحق الذي يؤتى منه فإنه سينفع و يثاب عليه، و قد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فلا تكونن ظهيرا للكافرين» قال: المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى للناس، و قوله: «و لا تدع مع الله إلها آخر» المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى للناس، و هو قول الصادق (عليه السلام) إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): بإياك أعني، و اسمعي يا جارة.
|