بيان
الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهل السنة أن المقذوفة في قصة الإفك هي أم المؤمنين عائشة، و روت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كل من الحديثين لا يخلو عن شيء على ما سيجيء في البحث الروائي الآتي.
فالأحرى أن نبحث عن متن الآيات في معزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الإفك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما زوجه و إما أم ولده و ربما لوح إليه قوله تعالى: «و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم» و كذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم و أفاضوا فيه و سائر ما يومىء إليه من الآيات.
و المستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، و كان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات و دافع عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» إلخ، الإفك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا و الأصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل - و الفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، و القول المصروف عن الصدق إلى الكذب، و قد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني.
و ذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، و قيل: إنها عشرة إلى أربعين.
و الخطاب في الآية و ما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الإيمان أعم من المؤمن بحقيقة الإيمان و المنافق و من في قلبه مرض، و أما قول بعضهم: إن المخاطب
بالخطابات الأربعة الأول أو الثاني و الثالث و الرابع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المقذوفة و المقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الأول و هي نيف و عشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب.
و أسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الأربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة.
و المعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب - و اللام في الإفك للعهد - جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، و في ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يفضحوه بين الناس.
و هذا هو فائدة الخبر في قوله: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» لا تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تسليته و تسلية من ساءه هذا الإفك كما ذكره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه.
و قوله: «لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم» مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم و إثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ و الفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم و ينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم، و خاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم و يذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم و يتفطنوا لما يهمهم.
و الدليل على ما ذكرنا قوله بعد: «لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم» فإن الإثم هو الأثر السيىء الذي يبقى للإنسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الإفك الجائين به يعرفون بإثمه و يتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما أرادوا أن يفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالإفك كما أن أهل الإفك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة و قد عرفت فساده.
و قوله: «و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم» فسروا كبره بمعنى معظمه
و الضمير للإفك، و المعنى: و الذي تولى معظم الإفك و أصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.
قوله تعالى: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك مبين» توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه و لم يظنوا بمن رمي به خيرا.
و قوله: «ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم» من وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل «ظننتم بأنفسكم» و الوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الإيمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء و المنكر في القول و الفعل فعلى المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، و أن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالإيمان و لوازمه و آثاره.
فالمعنى: و لو لا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض و المرمي به من أنفسكم و على المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا و لا يصفه بما لا علم له به.
و قوله: «قالوا هذا إفك مبين» أي قال المؤمنون و المؤمنات و هم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لأن الخبر الذي لا علم لمخبره به و الدعوى التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، و الدليل عليه قوله في الآية التالية: «فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون».
قوله تعالى: «لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون» أي لو كانوا صادقين فيما يقولون و يرمون لأقاموا عليه الشهادة و هي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لأن الدعوى من غير بينة كذب و إفك.
قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم» إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.
و قوله: «و لو لا فضل الله» إلخ، عطف على قوله: «لو لا إذ سمعتموه» إلخ، و فيه كرة ثانية على المؤمنين، و في تقييد الفضل و الرحمة بقوله: «في الدنيا و الآخرة» دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا و الآخرة.
و المعنى: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: «إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم» إلخ، الظرف متعلق بقوله: «أفضتم» و تلقي الإنسان القول أخذه القول الذي ألقاه إليه غيره، و تقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت و تدبر فيه.
و على هذا فقوله: «و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم» من قبيل عطف التفسير، و تقييده أيضا بقوله: «بأفواهكم» للإشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت و تبين قلبي و لم يكن له موطن إلا الأفواه لا يتعداها.
و المعنى: أفضتم و خضتم فيه إذ تأخذونه و تنقلونه لسانا عن لسان و تتلفظون بما لا علم لكم به.
و قوله: «و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم» أي تظنون التلقي بألسنتكم و القول بأفواهكم من غير علم سهلا و هو عند الله عظيم لأنه بهتان و افتراء، على أن الأمر مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم و يفسد أمر الدعوة الدينية.
قوله تعالى: «و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم» عطف بعد عطف على قوله: «لو لا إذ سمعتموه» إلخ، و فيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، و قوله: «سبحانك» اعتراض بالتنزيه لله سبحانه و هو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه.
و البهتان الافتراء سمي به لأنه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتانا عظيما لأنه افتراء في عرض و خاصة إذ كان متعلقه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم و دعوى من غير بينة كما تقدم في قوله: «فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون» و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا» إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا» إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الإفك و متصلة بما تقدمها و موردها الرمي بالزنا بغير بينة كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الإفك لكونه فاحشة و إشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة.
فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا و القذف و غير ذلك.
و حب شيوعها و منها القذف في المؤمنين يستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا و الآخرة.
و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في «الفاحشة» للعهد و المراد بها القذف و كان حب الشيوع كناية عن قصة الشيوع بالإفاضه و التلقي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه.
على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا نكتة تستدعي ذلك.
و قوله: «و الله يعلم و أنتم لا تعلمون» تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و غضبه و إن جهله الناس.
قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته» تكرارا للامتنان و معناه ظاهر.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان و من يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء و المنكر» تقدم تفسير الآية في الآية 208 من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.
قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا» إلى آخر الآية.
رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الإفك متعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس إلا لكرامته على الله سبحانه.
و قد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله: «ما زكى منكم من أحد أبدا» و هذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و التعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: «بيدك الخير»: آل عمران: 26، و قال: «ما أصابك من حسنة فمن الله»: النساء: 79.
و قوله: «و لكن الله يزكي من يشاء و الله سميع عليم» إضراب عما تقدمه فهو تعالى يزكي من يشاء فالأمر إلى مشيته، و لا يشاء إلا تزكية من استعد لها و سأله بلسان استعداده
ذلك، و إليه يشير قوله: «و الله سميع عليم» أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من استعد لها.
قوله تعالى: «و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولي القربى و المساكين و المهاجرين في سبيل الله» إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و كل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم و السعة يعني الأغنياء في إيتاء أولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - و ليعفوا عنهم و ليصفحوا - ثم حرضهم بقوله: «أ لا تحبون أن يغفر الله لكم و الله غفور رحيم».
و في الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتصالها بها - دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و حثه على إدامة الإيتاء كما سيجيء.
قوله تعالى: «إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم» أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من الإحصان بمعنى العفة و الغفلة و الإيمان سبب تام في كون الرمي ظلما و الرامي ظالما و المرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامة و إن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصا.
قوله تعالى: «يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون» الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: «و لهم عذاب عظيم».
و المراد بقوله: «بما كانوا يعملون» كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه بقية الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصتا بالذكر.
و بالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى:
«شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون»: حم السجدة: 20، و قوله: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا»: إسراء - 36، و قوله: «اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون»: يس: 65، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين» المراد بالدين الجزاء كما في قوله: «مالك يوم الدين»: الحمد: 4، و توفية الشيء بذله تاما كاملا، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا و يعلمون أن الله هو الحق المبين».
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدمها، و أما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة و هو سنة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون أكثر مناسبة لقوله: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين».
و الآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين» ينبىء أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه و لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، و هذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين.
و إلى مثله يشير قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22.
قوله تعالى: «الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات» إلخ ذيل الآية «أولئك مبرءون مما يقولون» دليل على أن المراد بالخبيثات و الخبيثين و الطيبات و الطيبين نساء و رجال متلبسون بالخباثة و الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة.
فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرءين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
السابقة هو المعنى الذي يقتضيه تلبسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات مع الإحصان طيبون و طيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و الإحصان مصونون مبرءون شرعا من الرمي بغير بينة، محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: «و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم»: الأحقاف: 31 و لهم رزق كريم، و هو الحياة الطيبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»: النحل: 97.
و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر و قد خصت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرءين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكما بالتلبس -.
فظهر بما تقدم: أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.
و ثانيا: أنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة.
و ثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، و الكفار على خلاف ذلك.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و البخاري و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب و أنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك و قفل.
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، و هم يحسبون أني فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت. و كان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك. و كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني
و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي أم مسطح قبل المناصع و هي متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا و أم مسطح فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. و دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلا خيرا، و أما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول ص يخفضهم حتى سكتوا و سكت. فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جلس و لم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني و الله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة و الله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، و الله لا أجد لي و لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أني بريئة و أن الله مبرئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرى عنه و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، و أنزل الله: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره: و الله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: «و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة - أن يؤتوا أولي القربى و المساكين إلى قوله رحيم» قال أبو بكر: و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا، قالت: و هي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، و طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك:
أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا و عن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاري و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف: و فيها إن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبي بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريا من السابقين الأولين من المهاجرين، و حسان بن ثابت، و حمنة أخت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين و إنما حده حدين لأنه من قذف زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليه حدان.
و في الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه: أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الإفك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام اشتكائها و بعدها حتى نزلت الآيات، و يدل عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنها قالت لأبيها و قد أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في الرواية الأخرى عنها: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شيء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، و من المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي في ريب من أمرها.
كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: «فكان في قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما قالوا».
و بالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، و هذا مما يجل عنه مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف؟ و هو سبحانه يقول: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك مبين» فيوبخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظن و عدم ردهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظن بالمؤمنين، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق من يتصف بذلك و يتحرز من سوء الظن الذي من الإثم و له مقام النبوة و العصمة الإلهية.
على أنه تعالى ينص في كلامه على اتصافه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذ يقول: «و منهم الذين
يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»: التوبة: 61.
على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعا لا ظاهرا فحسب، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.
و ثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الإفك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حد أصحاب الإفك هذه المدة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتى يشيع بين الناس و تتلقاه الألسن و تسير به الركبان و يتسع الخرق على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا.
فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، و لعل صبره (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المدة الطويلة إنما كان لأجله.
قلت: لا دلالة في شيء من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، و إنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء.
أما الآيات العشر الأول التي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: «لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون» و قد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة.
و أما الآيات الست الأخيرة فقوله: «الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات إلخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين
من غير قيام بينة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية.
و الحق أن لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنما نزلت بعده، و إنما كان سبب توقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماوي.
و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إياه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.
و ثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبد الله بن أبي و مسطحا و حسانا و حمنة ثم تذكر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حد عبد الله بن أبي حدين و كلا من مسطح و حسان و حمنة حدا واحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعليه حدان، و هذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.
نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الأمة إن هذا الوصف يوجب حدين.
و لا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: «الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم» هو ثبوت حدين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم» الآية فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة.
حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي
يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) و أمره بقتله. فذهب علي (عليه السلام) و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط فضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة و صعد علي (عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء. فانصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت؟ قال: لا بل تثبت. قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.
و فيه، في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل القبطي و قد علم أنها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي (عليه السلام) فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما انصرف علي (عليه السلام) حتى يقتله، و لكن إنما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتد عليها قتل رجل مسلم.
أقول: و هناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و أرسله معها ليخدمها.
و هذه الروايات لا تخلو من نظر: أما أولا: فلأن ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيما قوله: «إن
الذين جاءوا بالإفك» الآية و قوله: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا» الآية، و قوله: «تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم» الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زمانا و هم لا يراعون حرمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.
اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.
و أما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة و ظهور براءتها إجراء الحد و لم يجر، و لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.
و الذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا - كما عرفت - أن آيات الإفك نزلت قبل آية حد القذف، و لم يشرع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.
و لو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعا مع نزول آيات الإفك لأشير فيها إليه، و لا أقل باتصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: «إن الذين جاءوا بالإفك» الآيات منقطعة عما قبلها.
و لو كان على من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حدان لأشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على القاذفين.
و يتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإن لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز و جل: «إن الذين يحبون إلى قوله و الآخرة»:. أقول: و رواه القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه (عليه السلام)
و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه (عليه السلام)، و المفيد في الاختصاص، عنه (عليه السلام) مرسلا.
و فيه، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.
و في المجمع،: قيل: إن قوله: «و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة» الآية، نزلت في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من جملة البدريين و كان فقيرا، و كان أبو بكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلما خاض في الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما كان، و قال: و الله إني لأحب أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبدا: عن ابن عباس و عائشة و ابن زيد.
و فيه،: و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك و لا يواسوهم: عن ابن عباس و غيره. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة - أن يؤتوا أولي القربى» و هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «و المساكين و المهاجرين في سبيل الله - و ليعفوا و ليصفحوا» يقول يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضا فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عز و جل: «أ لا تحبون أن يغفر الله لكم و الله غفور رحيم».
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و نزل بالمدينة «و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا - و أولئك هم الفاسقون - إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا - فإن الله غفور رحيم». فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز و جل: «أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون» و جعله من أولياء إبليس قال: «إلا
إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه» و جعله ملعونا فقال: «إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم - بما كانوا يعملون». و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عز و جل: «فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم و لا يظلمون فتيلا» و في المجمع،: في قوله تعالى: «الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات - و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات» الآية، قيل في معناه أقوال إلى أن قال الثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء عن أبي مسلم و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). قالا: هي مثل قوله: «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.
و في الخصال، عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.
و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليهما السلام): في حديث له مع معاوية و أصحابه و قد نالوا من علي (عليه السلام): «الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات» هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك «و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات» إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.
|