بيان
تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.
و قد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام
الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.
و نورا خاصا يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم و عبادته تجارة و لا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، و حرمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكل من ماء.
و الآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: «و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين» و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.
على أن الآيات قرآن و قد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: «و أنزلنا إليكم نورا مبينا»: النساء: 174.
قوله تعالى: «الله نور السماوات و الأرض» إلى آخر الآية.
المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوة غير نافذة و هي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.
و الدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.
و قوله: «الله نور السماوات و الأرض» النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر.
هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشم و الذوق و اللمس.
ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.
و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود و نور يتصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله: «الله نور السماوات و الأرض» حيث أضيف النور إلى السماوات و الأرض ثم حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدس.
و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه» إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلون له و يسبحونه فهو نظير قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء: 44، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: «الله نور السماوات و الأرض» نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء و هو مساو لوجود كل شيء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامة.
و قوله: «مثل نوره» يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - و ظاهره الإضافة اللامية - دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: «يهدي الله لنوره من يشاء» إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.
و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره»: الصف: 8، و قوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122 و قوله: «يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد: 28، و قوله: «أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه»: الزمر: 22، و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم و هو نور الإيمان و المعرفة.
و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده.
على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: «لهم أجرهم و نورهم»: الحديد: 19 و قوله: «يقولون ربنا أتمم لنا نورنا»: التحريم: 8، و القرآن ليس وصفا لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.
و قوله: «كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة» المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح «إلخ» لا مجرد المشكاة و إلا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.
و قوله: «الزجاجة كأنها كوكب دري» تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.
و قوله: «يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار» خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقية و لا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي و لا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: «يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار» فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية و لا غربية.
و أما قول بعضهم: إن المراد بقوله: «لا شرقية و لا غربية» أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.
و قوله: «نور على نور» خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.
و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، و لا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.
و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف و دقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدد بتعددهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمد منه.
و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.
فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف و هو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة و الجودة.
فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جو البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.
و قوله: «يهدي الله لنوره من يشاء» استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: «من يشاء» القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.
و المعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، و ليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.
و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: «و لله ملك السماوات و الأرض» إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.
و قوله: «و يضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم» إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:
«و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون»: العنكبوت: 43.
قوله تعالى: «في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه» الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.
و بذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: «أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك».
و قوله: «في بيوت» متعلق بقوله في الآية السابقة: «كمشكوة» أو قوله: «يهدي الله» إلخ، و المال واحد، و من المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، و قد قال تعالى: «و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا»: الحج: 40.
قوله تعالى: «يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال» إلى آخر الآية.
تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدو جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه و يهمه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح.
قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.
و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلب القلوب و الأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.
و قوله: «يسبح له فيها بالغدو و الآصال» صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: «و يذكر فيها اسمه»، و كون التسبيح بالغدو و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.
و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم
يبق معه غيره و تمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.
و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.
و قوله: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع» التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.
و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة و لذلك كررت لفظة «لا» لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.
و قوله: «عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة» الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.
و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كل منها ركنا في بابه.
و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما - و خاصة الصلاة -
من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عملي.
فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: «عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة» أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم و ذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر و لا موقت عن الذكر المستمر و الموقت، فافهم ذلك.
و قوله: «يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار» هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعم قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.
و أما تقلب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22، و قال: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون: الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات.
فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور الإيمان و المعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: «و أشرقت الأرض بنور ربها،»: الزمر: 69 و قال: «يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم»: الحديد: 12، و قال: «و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى»: الإسراء: 72، و قال: «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»: القيامة: 23 و قال: «كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15.
و قد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى
نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة و يبصر به.
و ثانيا: أن المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.
و ثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: «تتقلب فيه القلوب و الأبصار» لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب و الأبصار، و إنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.
قوله تعالى: «ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله و الله يرزق من يشاء بغير حساب» الظاهر أن لام «ليجزيهم» للغاية، و الذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.
و يؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: «و الله يرزق من يشاء بغير حساب» فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.
و قوله: «و يزيدهم من فضله» الفضل العطاء، و هذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.
و قد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: «أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين»: الزمر: 34، و قال: «أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء و مصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين»: الفرقان: 16، و قال: «لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين»: النحل: 31.
فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشرهم به فأجد التدبر فيه.
و قوله: «و الله يرزق من يشاء بغير حساب» استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: «يهدي الله لنوره من يشاء» على ما مر بيانه.
و محصله أنهم عملوا صالحا و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: «و توفى كل نفس ما عملت»: النحل: 111، و ما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى و أرفع من أن تتعلق به مشيتهم و هذه أيضا موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.
غير أنه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله: «فورب السماء و الأرض إنه لحق»: الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لأصله و هو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.
قوله تعالى: «و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء» إلى آخر الآية.
السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.
لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أن الله الذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.
فقوله: «و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا» شبه أعمالهم - و هي التي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من
عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.
و إنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتب عليه قوله: «حتى إذا جاءه لم يجده شيئا»، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و التعبير بقوله: «جاءه» دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظارا و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله: «و وجد الله عنده فوفاه حسابه» فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلتهم و هو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته و جبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.
ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.
فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم و الأعمال المقربة إليهم و فيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم و لا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
و قوله: «و الله سريع الحساب» إنما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدم و المتأخر على حد سواء.
و اعلم أن الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل و خاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع و يراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة التي يقدرها له، و إن كان ممن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر و الطبيعة و المادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.
فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثر غيره و يرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلا سرابا لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا و عاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
قوله تعالى: «أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب» تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: «و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات»: البقرة: 257، و قوله: «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122، و قوله: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»: المطففين: 15.
و قوله: «أو كظلمات في بحر لجي» معطوف على «سراب» في الآية السابقة، و البحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر و هي تردد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.
و قوله: «يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب» صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.
و قوله: «ظلمات بعضها فوق بعض» تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، و قد أكد ذلك بقوله: «إذا أخرج يده لم يكد يراها» فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.
فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون و لا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.
و قوله: «و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور» نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات» إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.
فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدل عليه أن ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.
فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء و يدل على منوره بما أشرق عليه من النور و أن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، و الفاقة التي لزمته، و النقص الذي لا ينفك عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه و سلب أي إله و رب يدبر الأمر دونه تعالى.
و إلى ذلك يشير قوله: «أ لم تر أن الله يسبح له من في السماوات و الأرض و الطير صافات كل قد علم صلاته و تسبيحه» و به يحتج تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره و وجوده.
و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافات و هم العقلاء و بعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده».
و لعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ «من في السماوات و الأرض» من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.
و يظهر من بعضهم أن المراد بقوله: «من في السماوات» إلخ، جميع الأشياء و إنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.
و فيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: «كل قد علم صلاته و تسبيحه».
و منها: تصدير الكلام بقوله: «أ لم تر» و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: «أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض»: إبراهيم: 19، و الخطاب فيه عام لكل ذي عقل و إن كان خاصا بحسب اللفظ.
و من الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.
و منها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: الإسراء: 44، و ستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
و قول بعضهم: إن الضمير في قوله: «قد علم» راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصة لقوله بعده: «و الله عليم بما يفعلون» و نظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.
و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان و يؤيده قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده» و لعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.
و أما قوله: «كل قد علم صلاته و تسبيحه» فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.
و منها: أن الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعم المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذر: «و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين»: الأعراف: 172، و قوله: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22 إلى غير ذلك، و نور خاص و هو الذي تذكره الآيات و يختص بأوليائه من المؤمنين.
فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام و خاص و قد قال تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء»: الأعراف: 156، و قوله: «فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته»: الجاثية: 30، و قد جمع بينهما في قوله: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا»: الحديد: 28، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.
و قوله: «و الله عليم بما يفعلون» و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية.
و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسنا، و إيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم.
قوله تعالى: «و لله ملك السماوات و الأرض و إلى الله المصير» سياق الآية و قد وقعت بين قوله: «أ لم تر أن الله يسبح له» إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العام لكل شيء، و بين قوله: «أ لم تر أن الله يزجي» إلخ، و ما يتعقبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شيء و كونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام و تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
فقوله: «و لله ملك السماوات و الأرض» يخص الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شيء، و إذ كان لا مليك إلا هو و إليه مرجع كل شيء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
و من هنا يظهر أن المراد - و الله أعلم - بقوله: «و إلى الله المصير» مرجعيته تعالى في الأمور دون المعاد نظير قوله: «ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى: 53.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله» إلى آخر الآية.
الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.
و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، و المعنى: أ لم تر أنت و كل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.
و قوله: «و ينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» السماء جهة العلو، و قوله: «من جبال فيها» بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله: «من برد» بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالا فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.
و الكلام معطوف على قوله: «يزجي»، و المعنى: أ لم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.
و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أن الأمر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء.
قوله تعالى: «يقلب الله الليل و النهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار» بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط.
و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و الله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع» بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسي و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.
و قوله: «يخلق الله ما يشاء» تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الأمر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه
على جميع خلقه كالنور العام، و الرحمة العامة و له أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص و الرحمة الخاصة.
و قوله: «إن الله على كل شيء قدير» تعليل لقوله: «يخلق الله ما يشاء» فإن إطلاق القدرة على كل شيء يستوجب أن لا يتوقف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته و إلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.
و هذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاتضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.
بحث فلسفي
إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيرا منها - و خاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، و إذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا علة تامة وحدها.
نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره و كذا الصادر الأول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، و أما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدات.
هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الأجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.
و هاهنا نظر آخر أدق و هو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معداته يقضي بنوع من الاتحاد و الاتصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبط به متصل الهوية بغيرها.
فالإنسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب
تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولد في زمان كذا و مكان كذا المتقدم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.
فهذه هو حقيقة زيد مثلا و من الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شيء غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيدة، و هو قوله تعالى: «يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
قوله تعالى: «لقد أنزلنا آيات مبينات و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» يريد آية النور و ما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين»: الحمد: 7، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.
و تذييل الآية بقوله: «و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» هو الموجب لعدم تقييد قوله: «لقد أنزلنا آيات مبينات» بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات: «لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلا من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين».
إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و الله يهدي.
تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم و أن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الذين في قلوبهم مرض و الله العالم.
بحث روائي
في التوحيد، بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «الله نور السماوات و الأرض» فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.
و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.
أقول إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصة و هي الهداية إلى السعادة الدينية
كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامة و هي إيصال كل شيء إلى كماله انطبق على ما تقدم.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: «زيتونة لا شرقية و لا غربية» ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم.
و في تفسير القمي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية «الله نور السماوات و الأرض» قال: بدأ بنور نفسه «مثل نوره» مثل هداه في قلب المؤمن «كمشكوة فيها مصباح» و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الذي جعله الله في قلبه. «يوقد من شجرة مباركة» قال: الشجرة المؤمن «زيتونة لا شرقية و لا غربية» قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، و لا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها «يكاد زيتها يضيء» يكاد النور الذي في قلبه يضيء و إن لم يتكلم. «نور على نور» فريضة على فريضة، و سنة على سنة «يهدي الله لنوره من يشاء» يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء «و يضرب الله الأمثال للناس» فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: «فلا تضربوا لله الأمثال».
أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، و قد اكتفى (عليه السلام) في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: «يكاد زيتها يضيء» و قوله: «نور على نور».
و أما قوله: «سبحان الله ليس لله مثل فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور
الذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أما الضمير في قوله: «مثل نوره» فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.
و في التوحيد، و قد روي عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله عز و جل: «الله نور السماوات و الأرض - مثل نوره كمشكوة فيها مصباح» فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي و الأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم) من دلالات الله و آياته التي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرون من أهل بيته (عليهم السلام) و إلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) و الأوصياء و الأولياء.
نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» إلخ.
و قد وردت عدة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته (عليهم السلام) و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و فيها: أن المشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المصباح النور الذي فيه العلم، و الزجاجة علي أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية و لا غربية إبراهيم (عليه السلام) ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و قوله: «يكاد زيتها يضيء» إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة و إن لم ينزل عليهم ملك.
و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الزجاجة صدر علي «يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار» يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل «نور على نور» إمام مؤيد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمد.
و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة فاطمة (عليها السلام)، و المصباح الحسن (عليه السلام)، و الزجاجة الحسين (عليه السلام)،
و الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام)، و لا شرقية و لا غربية ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و نور على نور إمام بعد إمام، و يهدي الله لنوره من يشاء يهدي الله للأئمة (عليهم السلام) من يشاء و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «زيتونة لا شرقية و لا غربية» قال: قلب إبراهيم لا يهودي و لا نصراني.
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية «في بيوت أذن الله أن ترفع» فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها:. أقول: و رواه في المجمع، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا، و روى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت علي (عليه السلام) منها.
و هو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم.
و في نهج البلاغة،: من كلام له (عليه السلام) عند تلاوته «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه. كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع»: و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممن لم يتجر.
أقول: أي لم يتجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.
و في الدر المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله» قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.
أقول: كأن الرواية غير تامة و تمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلوا.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الله سريع الحساب» و سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.
و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز و جل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عز و جل يصيب بها من يشاء من عباده.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فمنهم من يمشي على بطنه - و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع» قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيات، و على أربع البهائم، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.
|