بيان
تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أن الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.
قوله تعالى: «و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك «إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.
فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كله.
فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: «آمنا بالله و بالرسول» فأشير إلى تعدد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: «و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله»: النساء: 150.
فقوله: «و يقولون آمنا بالله و بالرسول و أطعنا» أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرعنا به و على أن الرسول لا يخبر إلا بالحق و لا يحكم إلا بالحق.
و قوله: «ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك» أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: «آمنا بالله و بالرسول و أطعنا» عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.
و قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.
قوله تعالى: «و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون» يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في ذلك نزلت الآيات.
و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء: 105.
فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم و القضاء.
و بذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أن الظاهر أن ضمير «ليحكم» للرسول، و إنما أفرد الفاعل و لم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.
و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.
قوله تعالى: «و إن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين» الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصة قوله: «يأتوا إليه» أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، و المعنى و إن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنهم يتبعون الهوى و لا يريدون اتباع الحق.
قوله تعالى: «أ في قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله» إلى آخر الآية.
الحيف الجور.
و ظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى: «فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض»: الأحزاب: 32، و قوله: «لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم»: الأحزاب: 60، و غير ذلك من الآيات.
و أما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: «و ما أولئك بالمؤمنين» فإنه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: «بل أولئك هم الظالمون».
و قوله: «أم ارتابوا» ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشك أن يكون المراد هو
شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.
و قوله: «أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله» أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبنية على الجور و إماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يراعي الحق في قضائه.
و قوله: «بل أولئك هم الظالمون» إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، و أما الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.
و الظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: «و ما أولئك بالمؤمنين» أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم و يدل عليه أيضا الآية التالية.
و قد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم و إما لزواله بالارتياب و إما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحق إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.
و قد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد و الإضراب و لعل فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا» إلى آخر الآية سياق قوله: «إنما كان قول المؤمنين» و قد أخذ فيه «كان» و وصف الإيمان في «المؤمنين» يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة
الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الرد.
و على هذا فالمراد بقوله: «إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم» دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدل عليه تصدير الجملة بلفظة «إذا» و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.
و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل «دعوا» المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله.
نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.
و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيدا.
و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في «سمعنا و أطعنا» يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله: «بل أولئك هم الظالمون» على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.
و قد ختمت الآية بقوله: «و أولئك هم المفلحون» و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.
قوله تعالى: «و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون» ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقا في باطنه خشية الله و في
ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.
و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعو جميعا.
قوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة» إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله: «أقسموا بالله جهد أيمانهم» أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.
و الظاهر أن المراد بقوله: «ليخرجن» الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا»: التوبة: 47.
و قوله: «قل لا تقسموا» نهي عن الإقسام، و قوله: «طاعة معروفة خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جيء بالفصل، و قوله: «إن الله خبير بما تعملون» من تمام التعليل.
و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.
و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله: «طاعة معروفة» مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.
و فيه أن هذا المعنى و إن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا
تولوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن و هو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل «ليخرجن» على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.
قوله تعالى: «قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم» إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله: «قل» إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، و قد أكده بقوله: «و أطيعوا الرسول» دون أن يقول: و أطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتم الحجة.
و لذلك عقب الكلام: أولا بقوله: «فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم» أي فإن تتولوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف و لا يمسكم منه شيء و عليكم ما حملتم من التكليف و لا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.
و ثانيا بقوله: «و إن تطيعوه تهتدوا» أي و إن كان لكل منكم و منه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.
و ثالثا بقوله و ما على الرسول إلا البلاغ المبين و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ و إذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.
قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إلى آخر الآية.
ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنية و لم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها و خاصة ذيلها.
فالآية على هذا وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.
فقوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات من فيه تبعيضية لا بيانية و الخطاب لعامة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاص بالذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضا.
و قوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم و داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة: البقرة - 30 و قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض: ص - 26 و قال و ورث سليمان داود: النمل - 16 فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.
و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين: الأعراف - 128 و قال إن الأرض يرثها عبادي الصالحون: الأنبياء - 105 فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين و لنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد: إبراهيم - 14 فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و أما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكنهم فيها كما قال تعالى فيهم
و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض: القصص - 6.
ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.
و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم و هم بنو إسرائيل كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك أمم أشد قوة و أكثر جمعا منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الأولى و ثمود إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح: الأعراف - 69 و قال إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد: الأعراف - 74 و قد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال و هو الذي جعلكم خلائف الأرض: الأنعام - 165 و قال هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره: فاطر - 39.
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله و ليمكنن لهم دينهم إلى آخر الوعد قلت نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به و أن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.
و قوله و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم تمكين الشيء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشيء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم: البقرة - 213.
و المراد بدينهم الذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفا لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.
و قوله و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا هو كقوله و ليمكنن لهم عطف على قوله ليستخلفنهم و أصل المعنى و ليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله من بعد خوفهم و التقدير و ليبدلن خوفهم أو كون أمنا بمعنى آمين.
و المراد بالخوف على أي حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفار و المنافقين.
و قوله يعبدونني لا يشركون بي شيئا الأوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير و ليبدلنهم أي و ليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا.
و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم و تأكيد يعبدونني بقوله لا يشركون بي شيئا و وقوع النكرة شيئا في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الإطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي و بالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا آمنا لا يعبد فيه إلا الله و لا يتخذ فيه رب غيره.
و قوله و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ظاهر السياق كون ذلك إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون كفر من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زي العبودية.
و قد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية.
فقيل إنها واردة في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمنا بما أعز الإسلام بعد رحلة النبي في أيام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الثلاثة الأول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم قتل بنو فلان و إنما قتل بعضهم.
و قيل هي عامة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل
خوفهم أمنا إيراثهم الأرض كما أورثها الله الأمم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على اختلاف التقرير و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخروا الأقطار.
و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحققه و لم يكن مرجوا ذلك يومئذ.
و قيل إنها في المهدي الموعود (عليه السلام) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا و أن المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
و الذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الأمة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصة منهم و هم الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نص في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي و أئمة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أن المراد بالذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الأمة و إنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه.
و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الذين من قبلهم من الأمم الماضين أولي القوة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم و أما إرادة الخلافة الإلهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسف (عليهما السلام) و هي السلطنة الإلهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ الذين من قبلهم و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ رسل من قبلك أو رسل من قبلي أو نحوها بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و المراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقه بحيث لا
يزلزله اختلافهم في أصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.
و المراد من تبديل خوفهم أمنا انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم.
و قول بعضهم إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.
تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعى على أن الآية في مقام الامتنان و أي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمته البلية لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرية فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.
و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى.
و المتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامة و لا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكم المتحكمين.
و هذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقق و لم ينعقد منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدي (عليه السلام) على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له (عليه السلام) وحده.
فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهدي (عليه السلام) أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟ قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية و الاجتماعية أعني الخطاب المتوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأول لا يتعدى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك
يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدى إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف و يسري إليه ما تضمنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم.
و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين و الكفار، و منه الخطابات الذامة لأهل الكتاب و خاصة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.
و من هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم»: الإسراء: 7 فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا»: الكهف: 98، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: «ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة»: الأعراف: 187، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة.
فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي (عليه السلام) و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الأمة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالأمة المسلمة و عدهم الإسلام دينا لهم و إن تفرقوا فيه ثلاثا و سبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله و لا يشركون به شيئا عزة الأمة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حج و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودعهم الحق و الحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الأمة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلامية.
و أما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الأول أو خصوص علي
(عليه السلام) فلا سبيل إليه البتة.
قوله تعالى: «و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الرسول لعلكم ترحمون» مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها.
فقوله: «و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله: «و أطيعوا الرسول» إنفاذ لولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) في القضاء و الحكومة.
و قوله: «لعلكم ترحمون» تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فينجز لكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير.
قوله تعالى: «لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض و مأواهم النار و لبئس المصير» من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمنا.
يخاطب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الوعد - بخطاب مؤكد - أن لا يظن أن الكفار معجزين لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أكرم به أمته و أن أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات.
و لكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله: «و مأواهم النار» إلخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «و يقولون آمنا بالله» الآيات قيل: نزلت الآيات في
رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. و حكى البلخي أنه كانت بين علي و عثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات:، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو قريب منه: أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحاك: أن النزاع كان بين علي و المغيرة بن وائل و ذكر قريبا من القصة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «إنما كان قول المؤمنين» الآية: و روي عن أبي جعفر: أن المعني بالآية أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «فإن تولوا فإنما عليه ما حمل - و عليكم ما حملتم» الآية:، أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا و يمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم.
أقول: و في معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الإسلام بما فيه من روح إحياء الحق و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلا و قد اتضح بالأبحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم و اتباعهم لأهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا و أخبث أثرا من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق و العدل.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم» الآية: و اختلف في الآية و المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد.
قال: و روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أنه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا و هو مهدي هذه الأمة،
و هو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا: و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك.
و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى.
و قد عرفت أن المراد به عام و الرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال (عليه السلام): هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء: في قوله: «وعد الله الذين آمنوا منكم» الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.
أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.
و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح و لا يصبحون إلا فيه فقالوا: أ ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات» الآية.
أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول و أما أن المراد بالذين آمنوا من هم؟ و أن الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرض له به.
و نظيرته روايته الأخرى: لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات» الآية قال: بشر هذه الأمة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.
فإن تبشير الأمة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الأمة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.
و في نهج البلاغة،: في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلة، و هو دين الله الذي أظهره، و جنده الذي أعزه و أيده حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق و رب متفرق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك. فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة.
أقول: و قد استدل به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الإلهي لم يتم أمر إنجازه بعد و أنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أن الدين لم يمكن بعد و لا الخوف بدل أمنا و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات» إلى آخر الآية.
أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلته (صلى الله عليه وآله وسلم) أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر و تقليبهم الأمور؟.
|