بيان
الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.
و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات و الأرض و مدبر الشمس و القمر - و عليهما مدار الأرزاق - هو الله و أن منزل الماء من السماء و محيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحق و يكفرون بنعمة الله.
و ما ختمت به السورة من قوله: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» يلائم ما في مفتتح السورة «أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون - إلى أن قال - و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه» إلخ.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض و سخر الشمس و القمر ليقولن الله فأنى يؤفكون».
خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر - و ذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض - من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.
و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا و هو قوله: «فأنى يؤفكون» أي فإذا كان الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام و عبادته.
قوله تعالى: «الله يبسط الرزق لمن يشاء من عبادسرابيةه و يقدر له إن الله بكل شيء عليم» في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: «إن الله بكل شيء عليم» للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكل شيء عليم لأنه الله.
و المعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده و يضيقه على من يشاء - و لا يشاء إلا على طبق المصلحة - لأنه بكل شيء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها» - إلى قوله - لا يعقلون» المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع.
و قوله: «قل الحمد لله» أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام.
و قوله: «بل أكثرهم لا يعقلون» أي لا يتدبرون الآيات و لا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله و يميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.
قوله تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون» اللهو ما يلهيك و يشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.
و اللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان و الحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و يتولعون به ساعة ثم يتفرقون و سرعان ما يتفرقون.
على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدم و التصدر و الرئاسة و المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف الوهم و الخيال.
و أما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها و الجد الذي لا لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الذي لا فناء معه، و اللذة التي لا ألم، عندها و السعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.
و هذا معنى قوله سبحانه: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان».
و في الآية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللهو و اللعب و الإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده بأدوات التأكيد كان و اللام و ضمير الفصل و الجملة الاسمية.
و قوله: «لو كانوا يعلمون» أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا.
قوله تعالى: «فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون» تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنهم يؤفكون و أن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد فإذا ركبوا «إلخ».
و الركوب الاستعلاء بالجلوس على الشيء المتحرك و هو متعد بنفسه و تعديته في الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضا آخر و كفرانا للنعمة.
قوله تعالى: «ليكفروا بما آتيناهم و ليتمتعوا فسوف يعلمون» اللام في «ليكفروا» و «ليتمتعوا» لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن تهدده: «افعل ما شئت»، قال تعالى: «اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير»: حم السجدة: 40.
و احتمل كون اللام للغاية، و المعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة التي آتيناهم و إلى التمتع، و أول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية: «فسوف يعلمون»، و يؤيده قوله في موضع آخر: «ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون»: الروم: 34، و لذا قرأه من قرأ «و ليتمتعوا» بسكون اللام إذ لا يسكن غير لام الأمر.
قوله تعالى: «أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم» الحرم الأمن هو مكة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) و التخطف كالخطف استلاب الشيء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب لكنهم يحترمون الحرم و لا يتعرضون لمن أقام بها فيها.
و المعنى: أ و لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب و الحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.
و قوله: «أ فبالباطل يؤمنون و بنعمة الله يكفرون» توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها إلا الاسم.
قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أ ليس في جهنم مثوى للكافرين» تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم و أعظمه و هو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أن الله اتخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب الإنسان بالحق لما جاءه و الوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و كذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محل إقامتهم في الآخرة جهنم.
قوله تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين» الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو و الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.
و قوله: «جاهدوا فينا» أي استقر جهادهم فينا و هو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.
و قوله: «لنهدينهم سبلنا» أثبت لنفسه سبلا و هي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: «و الذين اهتدوا زادهم هدى»: محمد: 17.
و مما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: «فينا» إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في شأننا.
و قوله: «و إن الله لمع المحسنين» قيل أي معية النصرة و المعونة و تقدم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك.
انتهى.
و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة و العناية فيشمل معية النصرة و المعونة و غيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبىء عنه قوله تعالى: «و هو معكم أينما كنتم»: الحديد: 4.
و قد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان و هو يسعى لدار الغرور.
و فيه، أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا و العرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: «أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا» الآية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و الذين جاهدوا فينا - لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه الآية لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و لأشياعهم.
|