بيان
خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها و يرجع آخرها إلى أولها، و هذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، و سياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال و تشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، و مصيبة ستصيبهم، و لا كل بلاء و مصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت و مرض و خوف و جوع و غم و حرمان، سنة الله التي جرت في عباده و خلقه، فالدار دار التزاحم، و النشأة نشأة التبدل و التحول، و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.
و البلاء الفردي و إن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا و المحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله و عزمه و ثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، و أما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي و جملة الرأي و الحزم و التدبير من الهيأة المجتمعة، و يختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف و تتراكم الوحشة و يضطرب عندها العقل و الشعور و تبطل العزيمة و الثبات، فالبلاء العام و المحنة الشاملة أشق و أمر، و هو الذي تلوح له الآيات.
و لا كل بلاء عام كالوباء و القحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، و أجابوا دعوة الحق، و تخالفهم فيه الدنيا و خاصة قومهم، و ما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، و استيصال كلمة العدل، و إبطال دعوة الحق، و لا وسيلة تحسم مادة النزاع و تقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة و بث الفتنة، و إلقاء الوسوسة و الريبة و غيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي و الوسوسة و الفتنة و الدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال و الاستعانة به على سد سبيل الحق، و إطفاء نور الدين اللامع المشرق.
هذا من جانب الكفر، و الأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، و بث دين الحق، و حكم العدل، و قطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، و لن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة و القوة.
و بالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، و توصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، و لا صفة سوء، و هو أنه ليس بموت بل حياة، و أي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، و تخبرهم أن أمامهم بلاء و محنة لن تنالوا مدارج المعالي، و صلاة ربهم و رحمته، و الاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، و تحمل مشاقها، و يعلمهم ما يستعينون به عليها، و هو الصبر و الصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع و اختلال أمر التدبير، و أما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، و انقطاع إلى من بيده الأمر، و أن القوة لله جميعا.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلوة إن الله مع الصابرين الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر و الصلاة في تفسير قوله: «و استعينوا بالصبر و الصلوة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين»: البقرة - 45 و الصبر من أعظم الملكات و الأحوال التي يمدحها القرآن، و يكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: «إن ذلك من عزم الأمور»: لقمان - 17، و قيل: «و ما يلقيها إلا الذين صبروا و ما يلقيها إلا ذو حظ عظيم»: فصلت - 35، و قيل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»: الزمر - 10.
و الصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: العنكبوت - 45، و ما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها و أولها.
ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، و إنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: و استعينوا بالصبر و الصلوة و إنها لكبيرة الآية، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال، و مقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، و هذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: «و هو معكم أينما كنتم»: الحديد - 4، فإنها معية الإحاطة و القيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.
قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و أذعنوا بالحياة الآخرة، و لا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق و سمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، و هم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، و جميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، و الذكر الجميل على مر الدهور، و بذلك فسره جمع من المفسرين.
و يرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، و مثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، و هو تعالى يدعو إلى، الحق و يقول: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس - 32، و أما الذي سأله إبراهيم في قوله «و اجعل لي لسان صدق في الآخرين»: الشعراء - 84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، و لسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه و جميل ذكره بعده فحسب.
نعم هذا القول الباطل، و الوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، و أصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس و بطلانها بالموت و نفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس و تأثرها بالسعادة و الشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية و التضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت و يقتل فيها أقوام ليحيا و يعيش آخرون، و لو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان و خاصة إذا اعتقد بالموت و الفوت أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، و لا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا و يأخذ بدله و أما الإعطاء من غير بدل، و الترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، و الحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال و حظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام و الخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر و جميل الثناء، و يجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع و الحضارة، و يتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف و العلاء.
و ليت شعري إذا لم يكن إنسان، و بطل هذا التركيب المادي، و بطل بذلك جميع خواصه، و من جملتها الحياة و الشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة و هذا الشرف؟ و من الذي يدركه و يلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.
و ثانيا: أن ذيل الآية - و هو قوله تعالى: و لكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، و ثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية و تطييب النفس.
و ثالثا: أن نظيرة هذه الآية - و هي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران - 196، إلى آخر الآيات و معلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.
و رابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، و أما ما بين الموت إلى الحشر - و هي الحياة البرزخية - فهي و إن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، و المسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة و أن الإنسان يبطل وجوده بالموت و انحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، و إن علم به آخرون.
و بالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، و قد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا و بوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: «و أحلوا قومهم دار البوار»: إبراهيم - 28، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، و الإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: «و أن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»: العنكبوت - 64، و إنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، و أما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه و بين الفناء فتوهموه فناء، و ما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن و الكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل أحياء و لكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم»: التكاثر - 6.
فمعنى الآية - و الله أعلم - و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، و لا تعتقدوا فيهم الفناء و البطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، و مقابلته مع الحياة، و كما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء و لكن حواسكم لا تنال ذلك و لا تشعر به، و إلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، و عدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم و تنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، و الاضطراب و القلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا و هو هين في قبال مرضاة الله سبحانه و ما ناله القتيل من الحياة الطيبة، و النعمة المقيمة، و رضوان من الله أكبر، و هذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الآية، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الموقنين بآيات ربه، و لكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، و ظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.
نشأة البرزخ
فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها و هي قوله: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران - 169، و الآيات في ذلك كثيرة.
و من أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، و لقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: و استعينوا بالصبر و الصلاة الآية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.
و ليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ و على أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت و القتل، و انحلال تركيبه و بطلانه؟ أ هو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم و سائر الأنبياء و المرسلين و الأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، و لا إعجاز في محال، و لو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل و الشرب و سائر التمتعات - و هم غائبون عن الحس - و ما ناله الحس من أمرهم بالقتل و قطع الأعضاء و سقوط الحس و انحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء و يغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، و لو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، و الإشكال - و هو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا و الواقع ليس بواقع، و كيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ و هل هو إلا سفسطة؟.
و قد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب و السنة، كالملائكة و أرواح المؤمنين و سائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، و أجسام لطيفة تقبل الحلول و النفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان و نحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، و لها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير و التبدل و التركيب و انحلاله، و الحياة و الموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، و إذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.
و هذا القول منهم مبني على إنكار العلية و المعلولية بين الأشياء، و لو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، و الأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية و لم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير و التأثر المادي الطبيعي، و هو ظاهر.
فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، و هي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت و القيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.
و من الآيات الدالة عليه - و هي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله و فضل و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين»: آل عمران - 171، و قد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، و لو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، و التنعم بعد الموت.
و من الآيات قوله تعالى: «حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون»: المؤمنون - 100، و الآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية و حياتهم بعد البعث، و سيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.
و من الآيات قوله تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة» و من المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم و هو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر «لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا. و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا. و يوم تشقق السماء بالغمام و هو يوم القيامة و نزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا: الفرقان - 26، و دلالتها ظاهرة.
و سيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.
و من الآيات قوله تعالى: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل»: المؤمن - 11، فهنا إلى يوم البعث - و هو يوم قولهم هذا - إماتتان و إحيائان، و لن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة و إحياء في البرزخ و إحياء في يوم القيامة، و لو كان أحد الإحيائين في الدنيا و الآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، و قد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: «كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا فأحياكم»: البقرة - 28 فارجع.
و من الآيات قوله تعالى: «و حاق بآل فرعون سوء العذاب النار. يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب»: المؤمن - 46، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه و لا عشي فهو يوم غير اليوم.
و الآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومىء إليها كثيرة، كقوله تعالى: «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم و لهم عذاب أليم»: النحل - 63، إلى غير ذلك.
تجرد النفس
و يتبين بالتدبر في الآية، و سائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، و هي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن و حكمها غير حكم البدن و سائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور و الإرادة و سائر الصفات الإدراكية، و التدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، و لا يفنى بفنائه، و انحلال تركيبه و تبدد أجزائه، و أنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم، و نعيم مقيم، أو في شقاء لازم، و عذاب أليم، و أن سعادته في هذه العيشة، و شقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته و أعماله، لا بالجهات الجسمانية و الأحكام الاجتماعية.
فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، و واضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، و تتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.
و مما يدل عليه من الآيات قوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى»: الزمر - 42، و التوفي و الاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه و كماله، و ما تشتمل عليه الآية: من الأخذ و الإمساك و الإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس و البدن.
و من الآيات قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون»: السجدة - 11، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، و هو أنا بعد الموت و انحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، و تبدد أجزاؤنا، و تتبدل صورنا فنضل في الأرض، و يفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ و هذا استبعاد محض، و قد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: قل: يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الآية، و حاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم و يأخذكم، و لا يدعكم تضلوا و أنتم في قبضته و حفاظته، و ما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ كم فإنه يتوفاكم.
و من الآيات قوله تعالى: «و نفخ فيه من روحه» الآية: السجدة - 9، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: «يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي»: الإسراء - 85، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس - 83 فأفاد أن الروح من الملكوت، و أنها كلمة كن ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر - 50، و التعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الأمر الذي هو كلمة كن موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده و تقييده بزمان أو مكان، و من هنا يتبين أن الأمر - و منه الروح شيء غير جسماني و لا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان و المكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، و إن كان لها تعلق بها.
و هناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: «منها خلقناكم»: طه - 55، و قال تعالى: «خلق الإنسان من صلصال كالفخار»: الرحمن - 14 و قال تعالى «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: السجدة - 8، ثم قال: سبحانه و تعالى «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون - 14، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور و إرادة، يفعل أفعالا: من الشعور و الإرادة و الفكر و التصرف في الأكوان، و التدبير في أمور العالم بالنقل و التبديل و التحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام و الجسمانيات، فلا هي جسمانية، و لا موضوعها الفاعل لها.
فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - و هو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة و الضوء من الدهن بوجه بعيد، و بهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، و تبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: و هناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء و التلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، و الله الهادي.
قوله تعالى: و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر و الصلاة، و نهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، و هو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي و لا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، و الدين الحنيف إلا به، و هو الحرب و القتال، لا يدور رحى النصر و الظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين و يتأيدوا بهاتين القوتين، و هما الصبر و الظفر، و يضيفوا إلى ذلك ثالثا و هو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم و حازوا الغاية القصوى من كمالهم، و اشتد بأسهم و طابت نفسهم، و هو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت و لا فقيد، و أن سعيهم بالمال و النفس غير ضائع و لا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، و قد أبادوا عدوهم و ما كان يريده من حكومة الجور و الباطل عليهم - و إن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - و لم يتحكم الجور و الباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.
و عامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف و الجوع و نقص الأموال و الأنفس فذكرها الله تعالى، و أما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال و الشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، و ربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، و هي التمر و المراد بالأموال غيرها و هي الدواب من الإبل و الغنم.
قوله تعالى: و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، و يبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، و يظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر - و هو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، و يبين جزاءه العام - و هو الصلاة و الرحمة و الاهتداء - رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، و لم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا و جميلا، و قد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا و كذا عند إصابة المصيبة، و هي الواقعة التي تصيب الإنسان، و لا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، و من المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، و لا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، و هي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، و أن مرجعه إلى الله سبحانه و به يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع و الأسف، و يغسل رين الغفلة.
بيانه أن وجود الإنسان و جميع ما يتبع وجوده، من قواه و أفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره و موجده فهو قائم به مفتقر و مستند إليه في جميع أحواله من حدوث و بقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء و ليس للإنسان من الأمر شيء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده و قواه و أفعاله حقيقة.
ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، و من هناك يقال: للإنسان وجود، و كذا نسبة قواه و أفعاله و من هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع و البصر، و يقال: للإنسان أفعال كالمشي و النطق، و الأكل و الشرب، و لو لا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان و لا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.
و قد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن و لا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: «لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار»: المؤمن - 16، و فيه رجوع الإنسان بجميع ما له و معه إلى الله سبحانه.
فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان و لا غيره، و ملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه و ولده و ماله و غير ذلك و هو لله سبحانه حقيقة، و للإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، و نسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، و تذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان و من جملتها ملك نفسه لنفسه و ماله و ولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة و لا مجازا، و إذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، و يحزن بفقدانه، و أما إذا أذعن و اعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر و لم يحزن، و كيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟.
الأخلاق
اعلم أن إصلاح أخلاق النفس و ملكاتها في جانبي العلم و العمل، و اكتساب الأخلاق الفاضلة، و إزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها و مزاولتها، و المداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، و تتراكم و تنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن و اقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد و المهاول التي تزلزل القلوب و تقلقل الأحشاء، و كلما ورد في مورد منها و شاهد أنه كان يمكنه الورود فيه و أدرك لذة الإقدام و شناعة الفرار و التحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، و حصول هذه الملكة العلمية و إن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق و اكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، و العلوم و الآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة و قناعة الإنسان بما عنده و الكف عما عند الناس توجب العزة و العظمة في أعين الناس و الجاه عند العامة، و إن الشره يوجب الخصاصة و الفقر، و إن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، و إن العلم يوجب إقبال العامة و العزة و الوجاهة و الأنس عند الخاصة، و إن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، و يدرك كل محبوب و إن الجهل عمى، و إن العلم يحفظك و أنت تحفظ المال، و إن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون و الحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن و التهور، و إن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، و هي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم و حسن الذكر و جميل الثناء و المحبة في القلوب.
و هذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، و المأثور من بحث الأقدمين من يونان و غيرهم فيه.
و لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، و الأخذ بما يستحسنه الاجتماع و ترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: «و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة»: البقرة - 150 دعا سبحانه إلى العزم و الثبات، و علله بقوله: لئلا يكون، و كقوله تعالى: «و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا»: الأنفال - 46، دعا سبحانه إلى الصبر و علله بأن تركه و إيجاد النزاع يوجب الفشل و ذهاب الريح و جرأة العدو، و قوله تعالى «و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور»: الشورى - 43، دعا إلى الصبر و العفو، و علله بالعزم و الإعظام.
المسلك الثاني: الغايات الأخروية، و قد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة»: التوبة - 111، و قوله تعالى: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»: الزمر - 10، و قوله تعالى: «إن الظالمين لهم عذاب أليم»: إبراهيم - 22، و قوله تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات»: البقرة - 257، و أمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
و يلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير» فإن الآية دعت إلى ترك الأسى و الفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم و ما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي و قدر مقدر، فالأسى و الفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه» فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، و هي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادىء السابقة الحقيقية من القدر و القضاء و التخلق بأخلاق الله و التذكر بأسماء الله الحسنى و صفاته العليا و نحو ذلك.
فإن قلت: التسبب بمثل القضاء و القدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، و في ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، و اختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر و الثبات و ترك الفرح و الأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، و مقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، و كسب كل كمال مطلوب، و الاتقاء عن كل رذيلة خلقية و غير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، و الدفاع عن الحق، و نحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، و كذا يجوز أن نترك السعي في كسب كل كمال، و ترك كل نقص بالاستناد التي حتم القضاء و حقيقة الكتاب، و في ذلك بطلان كل كمال.
قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الإشكال، فقد ذكرنا ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، و من المعلوم أن المعاليل و المسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها و أجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، و إما مقضي العدم، و على كل حال فلا تأثير للأكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطإ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.
فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، و إليه تنتسب سعادته و شقاؤه، و هو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال و الملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته و اختياره من زمرة العلل، و إبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، و علة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء آخر من أجزاء العالم و العلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب و الكبر و البخل، و الفرح و الأسى، و الغم و نحو ذلك.
يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا و تركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - و هو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، و هي ألوف و ألوف لو لم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئا، و لا أغنى عن شيء - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، و هو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى ألوف و ألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، و إن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.
فإذا عرفت ما ذكرنا و هو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم و الكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.
فما كان من الأفعال أو الأحوال و الملكات يوجب استنادها إلى القضاء و القدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: «و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آباءنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون»: الأعراف - 28.
و ما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، و كونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، و مستغنيا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء و يهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطىء بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلا، و لا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: «و آتوهم من مال الله الذي آتاكم»: النور - 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، و كما في قوله تعالى: «و مما رزقناهم ينفقون»: البقرة - 3، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، و كما في قوله تعالى: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا»: الكهف - 7، نهى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحزن و الغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شيء أمور مجعولة عليها للابتلاء و الامتحان إلى غير ذلك.
و هذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، و منه شيء كثير في القرآن، و فيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.
و هاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، و تعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، و لا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، و هو تربية الإنسان وصفا و علما باستعمال علوم و معارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، و بعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.
و ذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها و يحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: «إن العزة لله جميعا»: يونس - 65، و يقول: «إن القوة لله جميعا»: البقرة - 165، و التحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، و لا سمعة، و لا خوف من غير الله و لا رجاء لغيره، و لا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الإنسان و تحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، و التعزز بالله و غيرهما من مناعة و كبرياء و استغناء و هيبة إلهية ربانية.
و أيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، و أن له ملك السماوات و الأرض و أن له ما في السماوات و الأرض و قد مر بيانه مرارا، و حقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشيء من الموجودات استقلالا دونه، و استغناء عنه بوجه من الوجوه فلا شيء إلا و هو سبحانه المالك لذاته و لكل ما لذاته، و إيمان الإنسان بهذا الملك و تحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا و وصفا و فعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، و لا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشيء، أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه تعالى، و بالجملة لا يريد و لا يطلب شيئا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شيء، و لا يعرض إعراضا و لا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا و لا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
و كذلك قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى»: طه - 8، و قوله: «ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء»: الأنعام - 102، و قوله: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة - 7، و قوله: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه - 111 و قوله: «كل له قانتون»: البقرة - 116، و قوله: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه»: الإسراء - 23، و قوله: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد»: فصلت - 53، و قوله: «ألا إنه بكل شيء محيط»: فصلت - 54، و قوله: «و أن إلى ربك المنتهى»: النجم - 42.
و من هذا الباب الآيات التي نحن فيها و هي قوله تعالى: «و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون» إلى آخرها فإن هذه الآيات و أمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، و لا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن و القبح و المسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية و مجازاتها، و هذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه و آله أفضل الصلاة هذا.
فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، و حاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شئون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، و المزايا و الخصائص التي خلفها و ورثها فيهم من تقدم الحضارة و تعالي المدنية، و أما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، و يدعو إليها جميع الأنبياء هذا.
و أنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، و خبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، و الآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد و نتائج لنوع العلوم و المعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، و ليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل و كمال متوسط و قول يدعو إلى محض الحق و أقصى الكمال، و هذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، و ثانيها يدعو إلى الحق الواقعي و الكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، و ثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، و يبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، و ينتج العبودية المحضة، و كم بين المسالك من فرق!.
و قد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جما غفيرا من العباد الصالحين، و العلماء الربانيين، و الأولياء المقربين رجالا و نساء، و كفى بذلك شرفا للدين.
على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، و إيثار جانب الرب على جانب العبد و من المعلوم أن الحب و الوله و التيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، و للحب أحكام، و سيجيء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون الآية.
التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، و يشهد به جمع الصلاة و إفراد الرحمة، و قد قال تعالى: «هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيما»: الأحزاب - 43، و الآية تفيد كون قوله: و كان بالمؤمنين رحيما، في موقع العلة لقوله: هو الذي يصلي عليكم، و المعنى أنه إنما يصلي عليكم، و كان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، و أنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها و كالنسبة التي بين الالتفات و النظر، و التي بين الإلقاء في النار و الإحراق مثلا، و هذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: إنها الانعطاف و الميل، فالصلاة من الله سبحانه انعطاف إلى العبد بالرحمة و من الملائكة انعطاف إلى الإنسان بالتوسط في إيصال الرحمة، و من المؤمنين رجوع و دعاء بالعبودية و هذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة و من مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، و الموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء»: الأعراف - 156، و قال تعالى: «و ربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين»: الأنعام - 133، فالإذهاب لغناه و الاستخلاف و الإنشاء لرحمته، و هما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق و أمر رحمة، كما أن كل خلق و أمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: «و ما كان عطاء ربك محظورا: الإسراء - 20، و من عطيته الصلاة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، و من هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة و إفراد الرحمة في الآية.
قوله تعالى: و أولئك هم المهتدون، كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة، و لذلك جدد اهتداءهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، و لم يقل: صلوات من ربهم و رحمة و هداية، و لم يقل: و أولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، و الصلوات كالمقدمات لهذه الهداية و اهتداءهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلاة و الرحمة و الاهتداء غير الآخر و إن كان الجميع رحمة بنظر آخر.
فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه و هو يريد دارك، و يسأل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر و الكرامة، فتورده مستقيم الطريق و أنت معه تسيره، و لا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزلة من دارك و تعاهده في الطريق بمأكله و مشربه، و ركوبه و سيره، و حفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه، و كل تعاهد تعاهد و إكرام خاص، و الهداية غير الإكرام، و غير التعاهد، و هو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد، و كل منها هداية و كل منها إكرام خاص، و الجميع إكرام.
فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، و التعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، و النزول في الدار بمنزلة الاهتداء.
و الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: و أولئك هم المهتدون، و الابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، و ضمير الفصل ثانيا و تعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم و تفخيمه - و الله أعلم -.
بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت
في تفسير القمي، عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، و أول يوم من الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: و الله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: و الله إني كنت لكم لمحبا، و إني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك و نواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: و الله إني كنت فيك لزاهدا، و إنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، و يوم حشرك، حتى أعرض أنا و أنت على ربك، فإن كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا، و أزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله و ريحان و جنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أرتحل من الدنيا إلى الجنة، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يعجله فإذا دخل قبره أتاه ملكان، و هما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، و يحبران الأرض بأنيابهما، و أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: الله ربي، و محمد نبيي، و الإسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب و ترضى، و هو قول الله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مد بصره، و يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، و هو قوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا. و إذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، و أنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، و تصلية جحيم، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك؟ و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت و لا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق الله دابة إلا و تذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره و لحمه، و يسلط الله عليه حيات الأرض و عقاربها و هوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، و إنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر.
و في منتخب البصائر، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم.
و في أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر، فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك! إذا كان ذلك أتاه رسول الله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام)، و معهم ملائكة الله عز و جل المقربون، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، و للنبي بالنبوة و الولاية لأهل البيت، شهد على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) و الملائكة المقربون معهم و إن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبه من ذلك، فشهد به، و شهد على شهادة النبي: علي و فاطمة و الحسن و الحسين على جماعتهم من الله أفضل السلام و من حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.
و في المحاسن، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الأرواح، أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون؟ قال: نعم يتساءلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان.
و في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، و يستر عنه ما يكره، و إن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره و يستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعة، و منهم من يزور على قدر عمله.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): أن الأرواح في صفة الأجساد في شجر من الجنة، تعارف و تساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان، و ما فعل فلان فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى.
أقول: و الروايات في باب البرزخ كثيرة، و إنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، و في المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، و فيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة.
بحث فلسفي
هل النفس مجردة عن المادة؟ و نعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا و بتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام و زمان و مكان.
إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، و لا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حياتنا و شعورنا، و ليس هو شيئا من أعضائنا، و أجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر و اللمس و نحو ذلك، و أعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس و التجربة.
فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها و عن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، و لا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن و غير أجزائه.
و أيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجود فيها - و هي جميعا مادية، و من حكم المادة التغير التدريجي و قبول الانقسام و التجزي - لكان ماديا متغيرا و قابلا للانقسام و ليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، و ذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد و تغير، كما يجد بدنه، و أجزاء بدنه و الخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها و شكلها، و سائر أحوالها و صورها، و كذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام و التجزي، كما يجد البدن و أجزاءه و خواصه - و كل مادة و أمر مادي كذلك - فليست النفس هي البدن، و لا جزءا من أجزائه، و لا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، و من حكم المادة التغير، و قبول الانقسام، و المفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.
و أيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الأجزاء و لا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه و يرى أنه هو و ليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة و لا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن و هو التعلق التدبيري و هو المطلوب.
و قد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، و جمع من الإلهيين من المتكلمين، و الظاهريين من المحدثين، و استدلوا على ذلك، و ردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.
قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها و بلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها و تجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، و لم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.
قالوا: و سلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي و هو الجزء الدماغي على التوالي و في نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها و لا يدرك بطلان بعضها، و قيام الآخر مقامه، و هذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، و نحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن و غير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي و التوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب و وقوفها عن أفعالها و هو الموت، و الذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته و عدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية و سرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب و يخرج من جانب بما يساويه و هو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، و هو بحسب الواقع لا واحد و لا ثابت، و كذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا و ليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، و على هذا النحو وجود الثبات و الوحدة و الشخصية التي نرى في النفس.
قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، و هي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير و التأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، و جزء المركب العصبي، و وحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس و التجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، و لا وجدت حكما من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة و خواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، و إثبات ما هو من سنخها، و كذا الخواص و الأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، و أما ما وراء المادة و الطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا و لا إثباتا، و غاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، و عدم الوجدان غير عدم الوجود، و ليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، و لا بين أحكام المادة و خواصها التي هي نتائج بحثها أمرا مجردا خارجا عن سنخ المادة و حكم الطبيعة.
و الذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء و لم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدأ لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، و نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
و هو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك و لم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، و بعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة و إلى النفس بواسطتها، و إنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة و هو علم الإنسان بنفسه و مشاهدته ذاته كما مر.
و أما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة من الإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي و في نهاية السرعة - و لها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له و لا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، و كأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ و اشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية و ليت شعري إذا فرض أن هناك أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، و هذه الأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلا نفسها، و أن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ و من أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا؟ و الذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة و إنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة و الخط الواحد مثلا، لا في نفسه، و المفروض في محل كلامنا أن الإدراكات و الشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، و هي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، و ليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، و لو قيل: إن المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض أن إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الإدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية و انتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك.
و الكلام في كيفية حصول الثبات و البساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته.
مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ و القوة التي فيه، و الشعور الذي لها، و المعلوم الذي عندها، و هي جميعا أمور مادية، و من شأن المادة و المادي الكثرة، و التغير، و قبول الانقسام، و ليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف و النعوت، و ليس غير المادة و المادي هناك شيء؟.
و قولهم: إن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط و الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة و النسبة، لا من الأمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، و نغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، و كثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل و توجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، و أما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا البتة.
و الأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا و قوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة و الثبات و البساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج و أما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها البتة، و لا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: أنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.
فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس و التجربة إنما ينتج عدم الوجدان، و قد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود و هو مدعاهم مكان عدم الوجدان، و ما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس و التجربة، و لا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.
و أما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس و هو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الإدراك و الإرادة و الرضا و الحب و غيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا و يضعه موضوعا لبحثه، و إنما الكلام فيه من حيث وجوده و عدمه في الخارج و الواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض و عدمه، و هو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
و قال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح و الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة و السلولات التي هي الأصول في حياة الإنسان و سائر الحيوان، و تتعلق بها، فالروح خاصة و أثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحا لنفسه و يحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد و الاجتماع، و من المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية و الخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم و السلولات و تفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، و أما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشيء لا يقبله و لا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس و التجربة، هذا.
أقول: و أنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق و نزيدها أنها مخدوشة أولا: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح و الحياة لا ينتج عدم وفائها أبدا و لا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟.
و ثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - و هي الحوادث المادية - إلى المادة، و بعضها الآخر و هي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - و هو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، و لا يرتضيه المادي و لا الإلهي، و جميع أدلة التوحيد يبطله.
و هنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية و الكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل و الإمعان فيما مر من البرهان، و عدم التثبت في تعقل الغرض منه، و لذلك أضربنا عن إيرادها، و الكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، و الله الهادي.
بحث أخلاقي
علم الأخلاق و هو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية و الحيوانية و الإنسانية، و تميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلي و الاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام و الثناء الجميل من المجتمع الإنساني يظفر ببحثه أن الأخلاق الإنسانية تنتهي إلى قوى عامة ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند و تنتهي إليها أفعال النوع و تهيئتها و تعبيتها عنده، و هي القوى الثلاث: الشهوية و الغضبية و النطقية الفكرية، فإن جميع الأعمال و الأفعال الصادرة عن الإنسان إما من قبيل الأفعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالأكل و الشرب و اللبس و غيرها، و إما من الأفعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الإنسان عن نفسه و عرضه و ماله و نحو ذلك، و هذه الأفعال هي الصادرة عن المبدأ الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدأ الشهوي، و إما من الأعمال المنسوبة إلى التصور و التصديق الفكري، كتأليف القياس و إقامة الحجة و غير ذلك، و هذه الأفعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، و لما كانت ذات الإنسان كالمؤلفة المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها و حصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، و يبلغ الإنسان سعادته التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع أن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الإفراط أو التفريط، و تميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة و النقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب و في ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب و لازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع.
و حد الاعتدال في القوة الشهوية - و هي استعمالها على ما ينبغي كما و كيفا - يسمى عفة، و الجانبان في الإفراط و التفريط الشره و الخمود، و حد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة، و الجانبان التهور و الجبن، و حد الاعتدال في القوة الفكرية تسمى حكمة، و الجانبان الجربزة و البلادة، و تحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، و هي التي تسمى عدالة، و هي إعطاء كل ذي حق من القوى حقه، و وضعه في موضعه الذي ينبغي له، و الجانبان فيها الظلم و الانظلام.
فهذه أصول الأخلاق الفاضلة أعني: العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة، و لكل منها فروع ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الأصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود و السخاء، و القناعة و الشكر، و الصبر و الشهامة
و الجرأة و الحياء، و الغيرة و النصيحة، و الكرامة و التواضع، و غيرها، هي فروع الأخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الأخلاق و هاك شجرة تبين أصولها و تفرع فروعها و علم الأخلاق يبين حد كل واحد منها و يميزها من جانبيها في الإفراط و التفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم و العمل أعني الإذعان بأنها حسنة جميلة، و تكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.
مثاله أن يقال: إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع و عدم الوقوع، و المساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح و الإنسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يخاف.
فإذا لقن الإنسان نفسه هذا القول ثم كرر الإقدام و الورود في المخاوف و المهاول زالت عنه رذيلة الخوف، و هكذا الأمر في غيره من الرذائل و الفضائل.
فهذا ما يقتضيه المسلك الأول على ما تقدم في البيان و خلاصته إصلاح النفس و تعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة و الثناء الجميل.
و نظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، و هو مسلك الأنبياء و أرباب الشرائع، و إنما التفاوت من حيث الغرض و الغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الأول الفضيلة المحمودة عند الناس و الثناء الجميل منهم، و غايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للإنسان و هو استكمال الإيمان بالله و آياته، و الخبر الأخروي و هي سعادة و كمال في الواقع لا عند الناس فقط، و مع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى و الغرض فيها الفضيلة الإنسانية من حيث العمل.
و أما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الأولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانية و لذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الأولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما و على هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد و الإزدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربه، و استحضار أسمائه الحسنى، و صفاته الجميلة المنزهة عن النقص و الشين و لا تزال تزيد نفسه انجذابا، و تترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه و أن ربه يراه، و يتجلى له في مجالي الجذبة و المراقبة و الحب فيأخذ الحب في الاشتداد لأن الإنسان مفطور على حب الجميل، و قد قال تعالى: «و الذين آمنوا أشد حبا لله»: البقرة - 165، و صار يتبع الرسول في جميع حركاته و سكناته لأن حب الشيء يوجب حب آثاره، و الرسول من آثاره و آياته كما أن العالم أيضا آثاره و آياته تعالى، و لا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شيء، و لا يحب إلا ربه، و لا يخضع قلبه إلا لوجهه فإن هذا العبد لا يعثر بشيء، و لا يقف على شيء و عنده شيء من الجمال و الحسن إلا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد و جمال لا يتناهى و حسن لا يحد، فله الحسن و الجمال و الكمال و البهاء، و كل ما كان لغيره فهو له، لأن كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، و الآية لا نفسية لها، و إنما هي حكاية تحكي صاحبها و هذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، و لا يزال يستولي، و لا ينظر إلى شيء إلا لأنه آية من آيات ربه، و بالجملة فينقطع حبه عن كل شيء إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه و في الله سبحانه.
و حينئذ يتبدل نحو إدراكه و عمله فلا يرى شيئا إلا و يرى الله سبحانه قبله و معه، و تسقط الأشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم و الإدراك غير ما عند الناس لأنهم إنما ينظرون إلى كل شيء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، و كذلك الأمر من جهة العمل فإنه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله و ابتغاء وجهه الكريم، و لا يطلب و لا يقصد و لا يرجو و لا يخاف، و لا يختار، و لا يترك، و لا ييأس، و لا يستوحش، و لا يرضى، و لا يسخط إلا لله و في الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض و تتبدل غاية أفعاله فإنه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل و يقصد الكمال لأنه فضيلة إنسانية، و يحذر الفعل أو الخلق لأنه رذيلة إنسانية.
و أما الآن فإنما يريد وجه ربه، و لا هم له في فضيلة و لا رذيلة، و لا شغل له بثناء جميل، و ذكر محمود، و لا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، و إنما همه ربه، و زاده ذل عبوديته، و دليله حبه.
روت لي أحاديث الغرام صبابة.
بإسنادها عن جيرة العلم الفرد.
و حدثني مر النسيم عن الصبا.
عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.
عن الدمع عن عيني القريح عن الجوى.
عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد.
بأن غرامي و الهوى قد تحالفا.
على تلفي حتى أوسد في لحدي.
و هذا البيان الذي أوردناه و إن آثرنا فيه الإجمال و الاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب و تبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة و الرذيلة، و يتبدل فيه الغاية و الغرض أعني الفضيلة الإنسانية إلى غرض واحد، و هو وجه الله، و ربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه و بالعكس.
بقي هنا شيء و هو أن هاهنا نظرية أخرى في الأخلاق تغاير ما تقدم، و ربما عد مسلكا آخر، و هي أن الأخلاق تختلف أصولا و فروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن و القبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، و قد ادعي أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول و التكامل في المادة.
قالوا: إن الاجتماع الإنساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الإنسان أن يرفعها بالاجتماع، و يتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، و حيث إن الطبيعة محكومة لقانون التحول و التكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، و متوجها في كل حين إلى ما هو أكمل و أرقى، و الحسن و القبح و هما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال و عدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، و جمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، و لا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الأمكنة و الأزمنة، و إذا كان الحسن و القبح نسبيين متحولين وجب التغير في الأخلاق، و التبدل في الفضائل و الرذائل و من هنا يستنتج أن الأخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيلة إلى نيل الكمال المدني و الغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن و القبح لذلك فما كان به التقدم و الوصول إلى الغاية و الغرض كان هو الفضيلة و فيه الحسن، و ما كان يدعو إلى الوقوف و الارتجاع كان هو الرذيلة، و على هذا فربما كان الكذب و الافتراء و الفحشاء و الشقاوة و القساوة و السرقة و الوقاحة حسنة و فضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، و الصدق و العفة و الرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، و النظرية غير حديثة، على ما زعموا، فقد كان الكلبيون من قدماء - اليونان - على ما ينقل على هذه المسلك، و كذا المزدكيون و هم أتباع مزدك الذي ظهر بإيران على عهد كسرى و دعا إلى الاشتراك كان عملهم على ذلك، و يعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية و غيرهم.
و كيف كان فهو مسلك فاسد و الحجة التي أقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء و المبنى معا.
توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، و يلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر و يفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية و نوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، و عمرو شخص آخر، و هما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها و هذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الأمر.
و ينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فإن المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان و مفهوم الإنسان الطويل، و مفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا، و أما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي و الجزئي، و كذا تقسيمهم الجزئي إلى الإضافي و الحقيقي فإنما هو تقسيم بالإضافة و النسبة، إما نسبة أحد المفهومين إلى الآخر و إما نسبته إلى الخارج، و هذا الوصف الذي في المفاهيم - و هو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالإطلاق كما نسمي مقابله بالشخصية أو الوحدة.
ثم الموجود الخارجي و نعني به الموجود المادي خاصة لما كان واقعا تحت قانون التغير و الحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود و قطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الأخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، و مع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير و التبدل لأن أحد شيئين إذا عدم من أصله، و الآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.
و من هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعة الأخرى، و أما نفس الحركة فسيلان و جريان واحد شخصي، و نحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود.
و من هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأول فإن الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا.
ثم إنا لا نشك أن الإنسان موجود طبيعي ذو أفراد و أحكام و خواص و أن الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنساني إلا أن الخلقة لما أحست بنقص وجوده، و احتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحدة، جهزه بأدوات و قوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع و ضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أولا و بالذات و الاجتماع مقصود لها ثانيا و بالتبع.
و أما حقيقة أمر الإنساني مع هذا الاجتماع الذي تقتضيه و تتحرك إليه الطبيعة الإنسانية إن صح إطلاق الاقتضاء و العلية و التحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الإنسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته و وحدته، و هو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، و من هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، و هو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، و هذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد و التناسل و اشتقاق الفرد من الفرد - و هي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالأفراد و إن تبدلت و عرض لها الفساد و الكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجودة متوجهة إلى الكمال الفردي، و الطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.
و هذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده و تحققه في نظام الطبيعة، و هو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الإنساني مثلا متوجه إلى الكمال، و إن الإنسان اليوم أكمل وجودا من الإنسان الأولى، و كذا ما تحكم به فرضية تحول الأنواع، فلولا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.
و الكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، و نوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمر باستمراره و المتحول بتحوله لو صح أن الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية! نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصية و النوعية في التقييد و الإطلاق.
فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الإنسان و تبدله و له وحدة من بادىء الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - و هذا الواحد المتغير بواسطة نسبته و إضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، و كل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، و أشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم و فرده، و حكم المطلق مطلق الحكم لا كلي الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهومي فلا تغفل و نحن لا نشك أن الفرد من الإنسان و هو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا أنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعي أنه يتغذى و يفعل بالإرادة و يحس و يتفكر - و هو موجود مع الإنسان و باق - ببقائه و إن تبدل طبق تبدله في نفسه، و كذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.
و لما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانية و خواصها فمطلق الاجتماع نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الإنسانية المستمرة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذا من خواص النوع الإنساني المطلق، موجود معه باق ببقائه، و أحكام الاجتماع التي أوجدها و اقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، و إن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، و حينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن و القبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد و إن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، و الحسن المطلق و الخاص كالاجتماع المطلق و الخاص بعينه.
ثم إنا نرى أن الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده و بقائه إلى كمالات و منافع يجب له أن يجتلبها و يضمها إلى نفسه، و الدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده و تجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي و جهاز التناسل مثلا، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، و ليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، و ليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواه الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، و هذا التوسط هي العفة، و طرفاه الشره و الخمود، و كذلك نرى الفرد في وجوده و بقائه متوسطا بين نواقص و أضداد و مضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، و الدليل عليه الاحتياج و التجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة و الدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج و التجهيز المربوطين، و هذا التوسط هي الشجاعة، و طرفاها التهور و الجبن و نظير الكلام جار في العلم و مقابليه أعني الجربزة و البلادة، و في العدالة و مقابليها و هما الظلم و الانظلام.
فهذه أربع ملكات و فضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة بأدواتها: العفة و الشجاعة، و الحكمة، و العدالة - و هي كلها حسنة - لأن معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء و كماله و سعادته، و هي جميعا ملاءمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، و مقابلاتها رذائل قبيحة، و إذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته و في نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، و كيف يمكن أن يبطل الاجتماع - و هو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية؟ و هل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، و ليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم و بلوغها إلى غاية أمنيتها؟.
و إذا كان الفرد من الإنسان في نفسه و في ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع و باجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعدالة الاجتماعية - و هي إعطاء كل ذي حق حقه، و بلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم و الانظلام - و كل هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنساني بحسنها المطلق و يعد مقابلاتها رذائل و يقضي بقبحها.
فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الإنساني حسنا و قبحا لا يخلو عنهما قط و أن أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائما، و مقابلاتها رذائل قبيحة دائما، و الطبيعة الإنسانية الاجتماعية تقضي بذلك، و إذا كان الأمر في الأصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، و إن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.
إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق و هاك بيانه.
أما قولهم: إن الحسن و القبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن و القبح و هو متغير مختلف باختلاف المناطق و الأزمنة و الاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهومي بمعنى الكلية و الإطلاق الوجودي بمعنى استمرار الوجود، فالحسن و القبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية و الإطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، و أما الحسن و القبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، و لا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة و المفروضة للاجتماع كيف ما، فرض فهناك أفعال موافقة و مخالفة دائما فهناك حسن و قبح دائما.
و على هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض و لا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطى كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة؟ و هذه هي العدالة و العفة، و الشجاعة، و الحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الإنساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها و كونها فضائل إنسانية، و كذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض و الانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، و هو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط و تغير النفس في هتك المقدسات و هضم الحقوق، و هو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعية، و هو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس و تحقيرهم بالاستكبار و البغي بغير الحق، و هو التواضع؟ و هكذا الأمر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.
و أما ما يزعمونه من اختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل و صيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة و آخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق و عدم انطباقه مثل أن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت ترى لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، و ليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة و الملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم.
و مثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، و لم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة و فنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.
و مثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، و كذا الحياء من النساء و كذا الغيرة من رجالهن، و كذا عدة من الفضائل كالقناعة و التواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لأن اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة و الحياء و الغيرة و القناعة و التواضع، لا لأن هذه الفضائل ليست فضائل عندهم.
و الدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في حكمه و القاضي في قضائه، و يمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، و يمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال و الحضارة و عن جميع مقدساتهم، و يمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، و يمدحون التواضع لأئمتهم و هداتهم في الاجتماع.
و أما قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي و استنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين و لا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الإخلال بانتظامها و جريها، و لا محالة لها أحكام: من الحسن و القبح و الفضيلة و الرذيلة، و المراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئة جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعني أن الاجتماع و المرام الاجتماعي متغايران بالفعلية و القوة، و التحقق و فرض التحقق، فكيف يصير حكم أحدهما عين حكم الآخر، و كيف يكون الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة التي عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الإنسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذي ليس إلا فرضا من فارض؟.
و لو قيل: أن لا حكم للاجتماع العام الطبيعي من نفسه بل الحكم للمرام، و خاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة، و أنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.
على أن هاهنا محذورا آخر و هو أن الحسن و القبح و سائر الأحكام الاجتماعية - و هي التي تعتمد عليها الحجة الاجتماعية و تتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، و من الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى ارتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، و لم يكن التقدم و النجاح حينئذ إلا للقدرة و التحكم، و كيف يمكن أن يقال: إن الطبيعة الإنسانية ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها و لا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع؟ و هل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة و اقتضائها الوجودي؟.
بحث روائي آخر في متفرقات متعلقة بما تقدم
عن الباقر (عليه السلام) قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا و إن مت فقد وقع أجرك على الله الحديث.
و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: «و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله»: النساء - 100، و فيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله و رسوله.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في إسماعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال (عليه السلام) إنما سمي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز و جل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك الحديث.
أقول: و هذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له (عليه السلام) حتى عظم قدره و رفع ذكره بقوله: «و اذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا و كان يأمر أهله بالصلوة و الزكوة و كان عند ربه مرضيا»: مريم - 55، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره و لله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، و كلمة الله هي العليا، و نظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي و الأئمة و الأولياء.
فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.
قلت: أما حكم العقل في ما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، و قد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقي للعقل موضوعا يحكم فيه و عليه، و هذا سبيل المعارف الإلهية و الظاهر أن إسماعيل النبي (عليه السلام) كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك هاهنا حتى تعود إلي ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد و الكذب في الوعد و حفظا لما ألقى الله في روعه و أجراه على لسانه، و قد روي نظيره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه و وعده النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه و لم يرجع، فانتظره النبي ثلاثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلاثة، و هو جالس ينتظر و الرجل قد نسي الوعد، الحديث.
و في الخصائص، للسيد الرضي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: و قد سمع رجلا يقول: إنا لله و إنا إليه راجعون يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، و إنا إليه راجعون إقرار منا بالهلاك. أقول: و قد اتضح معناه بما تقدم و رواه في الكافي، مفصلا.
و في الكافي،: عن إسحاق بن عمار و عبد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز و جل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، و من لم يقرضني قرضا و أخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: الذين إذا أصابتهم مصيبة - قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، و رحمة اثنتان، و أولئك هم المهتدون ثلاث، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.
أقول: و الرواية مروية لطرق أخرى متقاربة و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): الصلاة من الله رحمة، و من الملائكة التزكية، و من الناس دعاء.
أقول: و في معناه عدة روايات أخر، و بين هذه الرواية و ما تقدمها تناف ظاهرا حيث إن الرواية السابقة تعد الصلاة غير الرحمة، و يساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم و رحمة، و هذه الرواية تعدها رحمة و يرتفع التنافي بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.
|