بيان
تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة أعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا «إلخ»، تشتمل على تقسيم لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، و هذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق و الخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.
قوله تعالى: و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا «إلخ»، أعجبه الشيء - أي راقه و سره، و قوله: في الحياة الدنيا، متعلق بقوله: يعجبك، أي إن الإعجاب في الدنيا من جهة أن هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلا على الظاهر، و أما الباطن و السريرة فتحت الستر و وراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان و هو متعلق الحياة بالدنيا إلا أن يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار و يناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: و يشهد الله على ما في قلبه، و المعنى أنه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، و العناية بصلاح الخلق، و تقدم الدين و الأمة و هو أشد الخصماء للحق خصومة و قوله: ألد، أفعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، و الخصام جمع خصم كصعب و صعاب و كعب و كعاب، و قيل: الخصام مصدر، و معنى ألد الخصام أشد خصومة.
قوله تعالى: و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها «إلخ»، التولي هو تملك الولاية و السلطان، و يؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالإثم، الدال على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، و السعي هو العمل و الإسراع في المشي، فالمعنى و إذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل و أوتي سلطانا و تولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، و يمكن أن يكون التولي بمعنى الإعراض عن المخاطبة و المواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، و تبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح و الخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد و الإفساد.
قوله تعالى: و يهلك الحرث و النسل، ظاهره أنه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها أي يفسد فيها بإهلاك الحرث و النسل، و لما كان قوام النوع الإنساني من حيث الحياة و البقاء بالتغذي و التوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أما التوليد فظاهر، و أما التغذي فإنما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان و النبات، و الحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل و يستحفظ بالحرث و هو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث و النسل فالمعنى أنه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان و إبادة هذا النوع بإهلاك الحرث و النسل.
قوله تعالى: و الله لا يحب الفساد المراد، بالفساد ليس ما هو فساد في الكون و الوجود الفساد التكويني فإن النشأة نشأة الكون و الفساد، و عالم التنازع في البقاء و لا كون إلا بفساد، و لا حياة إلا بموت، و هما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، و حاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدره و قاضيه.
و إنما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله إنما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم و ملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانية و الجامعة البشرية، و عند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا و حياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة.
فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، و تغيير حكم الله عما هو عليه، و التصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق و اختلاف الكلمة، و في ذلك موت الدين، و فناء الإنسانية، و فساد الدنيا، و قد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال و ركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية، و تصرفهم في أمر الدين و الدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا، و للمسلمين إلا انحطاطا، و للأمة إلا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، و لا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، و ذلك بهلاك الدين أولا، و هلاك الإنسانية ثانيا، و لهذا فسر قوله و يهلك الحرث و النسل في بعض الروايات بهلاك الدين و الإنسانية كما سيأتي إن شاء الله.
قوله تعالى: و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد، العزة معروفة، و المهاد الوطاء، و الظاهر أن قوله: بالإثم متعلق بالعزة، و المعنى أنه إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالإثم و النفاق المستبطن في نفسه، و ذلك أن العزة المطلقة إنما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: «تعز من تشاء و تذل من تشاء:» آل عمران - 26، و قال تعالى: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين:» المنافقين - 8، و قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا:» النساء - 139.
و حاشا أن ينسب تعالى شيئا إلى نفسه و يختصه بإعطائه ثم يستعقب إثما أو شرا فهذه العزة إنما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.
و من هنا يظهر أن قوله: بالإثم ليس متعلقا بقوله: أخذته، بأن يكون الباء للتعدية، و المعنى حملته العزة على الإثم و رد الأمر بالتقوى، و تجيبه الأمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببية، و المعنى ظهرت فيه العزة و المناعة بسبب الإثم الذي اكتسبه، و ذلك أن إطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية و تسميته بالعزة يستلزم إمضاءها و التصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية و ليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالإثم.
و أما قوله تعالى: «بل الذين كفروا في عزة و شقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص:» ص - 2، فليس من قبيل التسمية و الإمضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم أهلكنا من قبلهم «إلخ»، فهي هناك عزة صورية غير باقية و لا أصيلة.
قوله تعالى: و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله «إلخ»، مقابلته مع قوله تعالى: و من الناس من يعجبك قوله «إلخ»، يفيد أن الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله: و من الناس من يعجبك، بيان أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالإصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين و الإنسانية إلا الفساد و الهلاك كذلك المراد من قوله: و من الناس من يشري نفسه «إلخ»، بيان أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه و لا اعتزاز له إلا بربه و لا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين و الدنيا، و يحيى به الحق، و يطيب به عيش الإنسانية، و يدر به ضرع الإسلام، و بذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: و الله رءوف بالعباد، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق و الإفساد لانهدمت أركان الدين، و لم تستقر من بناء الصلاح و الرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق و يتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض:» البقرة - 251، و قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا:» الحج - 40، و قال تعالى: «فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين:» الأنعام - 89، فالفساد الطارىء على الدين و الدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، و لا هوى له إلا في ربه، و إصلاح الأرض و من عليها، و قد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به:» التوبة - 111، إلى غير ذلك من الآيات.
بحث روائي
في الدر المنثور، عن السدي: في قوله تعالى: و من الناس من يعجبك الآية، أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و قال: جئت أريد الإسلام و يعلم الله إني لصادق فأعجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك منه فذلك قوله تعالى: و يشهد الله على ما في قلبه، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين و حمر فأحرق الزرع و عقر الحمر فأنزل الله: و إذا تولى سعى في الأرض الآية.
و في المجمع، عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما يبطن، قال: و هو المروي عن الصادق (عليه السلام).
أقول: و لكنه غير منطبق على ظاهر الآيات.
و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.
و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و يهلك الحرث و النسل: أن المراد بالحرث هاهنا الدين، و النسل الإنسان.
أقول: و قد مر بيانه، و قد روي: أن المراد بالحرث الذرية و الزرع، و الأمر في التطبيق سهل.
و في أمالي الشيخ، عن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: و من الناس من يشري نفسه الآية، قال: نزلت في علي (عليه السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين أنها نزلت في شأن ليلة الفراش، و رواه في تفسير البرهان، بخمس طرق عن الثعلبي و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا و لا مال لك و تخرج أنت و مالك، و الله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أ رأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ربح البيع صهيب مرتين: أقول: و رواه بطرق أخرى في بعضها و نزلت: و من الناس من يشري نفسه الآية، و في بعضها نزلت في صهيب و أبي ذر بشرائهما أنفسهما بأموالهما و قد مر أن الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.
و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أن المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
أقول: و هو بيان لعموم الآية و لا ينافي كون النزول لشأن خاص.
|