بيان
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، و أنه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه و وله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.
و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلا هو، في قوله تعالى: «و إلهكم إله واحد:» البقرة - 163، و ضمير هو و إن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات و إن كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالإطلاق إليها، فقوله: لا إله إلا هو، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله.
و أما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام و الثبات.
و الناس في بادىء مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار و سائر الجمادات، و قسم منها ربما تغيرت حاله و تعطلت قواه و أفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، و ذلك كالإنسان و سائر أقسام الحيوان و النبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها و مشاعرها و أفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، و بذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات و الإدراكات العلمية و الأفعال المبتنية على العلم و الإرادة و هو المسمى بالحياة و يسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم و القدرة.
و قد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها:» الحديد - 17، و قال تعالى: «إنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى:» فصلت - 39، و قال تعالى: «و ما يستوي الأحياء و لا الأموات:» الفاطر - 22، و قال تعالى: «و جعلنا من الماء كل شيء حي:» الأنبياء - 30، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان و الحيوان و النبات.
و كذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى: «و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها»: يونس - 7، و قال تعالى: «ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين:» المؤمن - 11، و الإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، و الثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.
و الله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:» الرعد - 26، و قوله تعالى: «تبتغون عرض الحياة الدنيا:» النساء - 94، و قوله تعالى: «تريد زينة الحياة الدنيا:» الكهف - 28، و قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو:» الأنعام - 32، و قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور:» الحديد - 20، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا و المتاع ما يقصد لغيره، و عدها عرضا و العرض ما يتعرض ثم يزول، و عدها زينة و - الزينة - هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لأجله فيقع غير ما قصد و يقصد غير ما وقع، و عدها لهوا و - اللهو - ما يلهيك و يشغلك بنفسه عما يهمك، و عدها لعبا و اللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية، و عدها متاع الغرور و هو ما يغر به الإنسان.
و يفسر جميع هذه الآيات و يوضحها قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:» العنكبوت - 64، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة و كمالها، و هي الحياة التي لا موت بعدها، قال تعالى: «آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:» الدخان - 56، و قال تعالى: لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:» ق - 35، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، و لا يعترضهم نقص في العيش و تنغص، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له.
فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية و المحيي للإنسان في الآخرة، و بيده تعالى أزمة الأمور، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة و مسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.
و من هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها و لا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها و لا طارئة عليها بتمليك الغير و إفاضته، قال تعالى: «و توكل على الحي الذي لا يموت:» الفرقان - 58، و على هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، و هي كون وجوده بحيث يعلم و يقدر بالذات.
و من هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو» قصر حقيقي غير إضافي، و أن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت و لا يعتريها فناء و زوال هي حياته تعالى.
فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية، و كذا في قوله تعالى: «الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم:» آل عمران - 1 أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره.
و أما اسم القيوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة و - القيام - هو حفظ الشيء و فعله و تدبيره و تربيته و المراقبة عليه و القدرة عليه، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب و بين كل منها.
و قد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت:» الرعد - 33، و قال تعالى و هو أشمل من الآية السابقة -: «شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم:» آل عمران - 18، فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي و لا يمنع شيئا في الوجود و ليس الوجود إلا الإعطاء و المنع إلا بالعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين أن هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء و بحكمته يعدل فيه.
و بالجملة لما كان تعالى هو المبدىء الذي يبتدي منه وجود كل شيء و أوصافه و آثاره لا مبدأ سواه إلا و هو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور و خلل، و ليس ذلك لغيره قط إلا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف و فتور، و ليس لغيره إلا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، و حصره على القيام، و أول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله الله القيوم، و الحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة و لا نوم.
و قد ظهر من هذا البيان أن اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعا و هي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق و الرازق و المبدىء و المعيد و المحيي و المميت و الغفور و الرحيم و الودود و غيرها.
قوله تعالى: لا تأخذه سنة و لا نوم، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في أول النوم، و النوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه، و الرؤيا غيره و هي ما يشاهده النائم في منامه.
و قد أورد على قوله: سنة و لا نوم إنه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي، و الترقي في الإثبات إنما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، و فلان يجود بالمئات بل بالألوف و في النفي بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين و لا عشرة، و لا يجود بالألوف و لا بالمئات، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم و لا سنة.
و الجواب: أن الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات و النفي دائما كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة و لا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي و هي مختلفة بحسب الموارد، و لما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا و أضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفي تأثير السنة و أخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيرا، و يعود معنى لا تأخذه سنة و لا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره و لا ما هو أقوى منه.
قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات و الأرض و ما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم إلا بالقيومية، و لذلك ألحقها بها أيضا.
و هاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، و قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، مع قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
فأما قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى بالكسر للموجودات و ملكه تعالى بالضم لها، و الملك بكسر الميم و هو قيام ذوات الموجودات و ما يتبعها من الأوصاف و الآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فالجملة تدل على ملك الذات و ما يتبع الذات من نظام الآثار.
و قد تم بقوله: القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السماوات و ما في الأرض إن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا و هو له و منه، فيقع من ذلك في الوهم أنه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب و العلل الموجودة في العالم ما شأنها؟ و كيف يتصور فيها و منها التأثير و لا تأثير إلا لله سبحانه؟ فأجيب بأن تصرف هذه العلل و الأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف، و بعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، و الشفاعة - و هي بنحو توسط في إيصال الخير أو دفع الشر، و تصرف ما من الشفيع في أمر المستشفع - إنما تنافي السلطان الإلهي و التصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله، و لم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة و ما من سبب من الأسباب و لا علة من العلل إلا و تأثيره بالله و نحو تصرفه بإذن الله، فتأثيره و تصرفه نحو من تأثيره و تصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه و لا قيومية إلا قيوميته المطلقة عز سلطانه.
و على ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب و الوسائط أعم من الشفاعة التكوينية و هي توسط الأسباب في التكوين، و الشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب و السنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا:» البقرة - 48، و ذلك أن الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيومية و الملك المطلق الشاملين للتكوين و التشريع معا، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية و السلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.
فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قوله تعالى: «الله الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع:» الم السجدة - 4، و قد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله و جوده و رحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء و المسألة، قال تعالى: «يسأله من في السماوات و الأرض كل يوم هو في شأن:» الرحمن - 29، و قال تعالى: «و آتيكم من كل ما سألتموه:» إبراهيم - 34، و قد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: «و إذا سألك عبادي عني»: البقرة - 186.
قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون:» الأنبياء - 28، فالظاهر أن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم و ما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة و التوسط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه و لا يرضى به في ملكه، و لا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوءا من شفاعتهم و وساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره.
و إلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم - 64، و قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا»: الجن - 28، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة و الأنبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده، و لا يتنزلوا إلا بأمره، و لا يبلغوا إلا ما يشاؤه.
و على ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، و بما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، و يؤول المعنى إلى الشهادة و الغيب.
و بالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم و بما هو غائب عنهم آت خلفهم، و لذلك عقبه بقوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية و السلطة الإلهية أي أنه تعالى عالم محيط بهم و بعلمهم و هم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
و لا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل و هو قوله «هم» في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية و التشريعية، و أن الشفعاء هم مطلق العلل و الأسباب، و ذلك لأن الشفاعة و الوساطة و التسبيح و التحميد لما كان المعهود من حالها أنها من أعمال أرباب الشعور و العقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة.
و على ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم:» الإسراء - 44، و قوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين»: فصلت - 11، إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير و كماله، فإن من كمال التدبير أن يجهل المدبر بالفتح بما يريده المدبر بالكسر من شأنه و مستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر بالكسر تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم و مرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، و في أين نزلوا، و إلى أين يقصد بهم.
فيبين تعالى بهذه الجملة أن التدبير له و بعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل لها، و بقية الأسباب و العلل و خاصة أولوا العلم منها و إن كان لها تصرف و علم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به و يستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى و بمشيته و إرادته، فهو من شئون العلم الإلهي، و ما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الإلهي و أنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلا و هو بعض التدبير.
و في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله لله و لا يوجد من العلم عند عالم إلا و هو شيء من علمه تعالى، و نظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة و العزة و الحياة بالله تعالى، قال تعالى: «و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا:» البقرة - 165، و قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا:» النساء - 139، و قال تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو»: المؤمن - 65، و يمكن أن يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله: «إنه هو العليم الحكيم:» يوسف - 83، و قوله تعالى: «و الله يعلم و أنتم لا تعلمون:» آل عمران - 66، إلى غير ذلك من الآيات، و في تبديل العلم بالإحاطة في قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه، لطف ظاهر.
قوله تعالى: وسع كرسيه السموات و الأرض، الكرسي معروف و سمي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض، و ربما كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي الملك، و يراد منطقة نفوذه و متسع قدرته.
و كيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السموات و ما في الأرض «إلخ»، تفيد أن المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية، فيتعين للكرسي من المعنى: أنه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات و الأرض من حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، و يتعين للسعة من المعنى: أنها حفظ كل شيء مما في السماوات و الأرض بذاته و آثاره، و لذلك ذيله بقوله: و لا يؤوده حفظهما.
قوله تعالى: و لا يؤوده حفظهما و هو العلي العظيم، يقال: آده يؤوده أودا إذا ثقل عليه و أجهده و أتعبه، و الظاهر أن مرجع الضمير في يؤوده، هو الكرسي و إن جاز رجوعه إليه تعالى، و نفي الأود و التعب عن حفظ السماوات و الأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفي السنة و النوم في القيومية على ما في السماوات و الأرض.
و محصل ما تفيده الآية من المعنى: أن الله لا إله إلا هو له كل الحياة و له القيومية المطلقة من غير ضعف و لا فتور، و لذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده و فتورا في أمره، و لعظمته لا يجهده كثرة الخلق و لا يطيقه عظمة السماوات و الأرض، و جملة: و هو العلي العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، و هذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق، فإن العلو و العظمة من الكمال و حقيقة كل كمال له تعالى، و أما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو و العظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات و الأرض عن العلو و العظمة في قبال علوه و عظمته تعالى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال: آية الكرسي، ما السماوات السبع و الأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال: و إن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة: أقول: و روى صدر الرواية السيوطي في الدر المنثور، عن ابن راهويه في مسنده عن عوف بن مالك عن أبي ذر، و رواه أيضا عن أحمد و ابن الضريس و الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي: أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي، قال: قال رجل: يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، الحديث.
أقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الإسلام حتى في زمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و عن الصحابة.
و ليس إلا للاعتناء التام بها و تعظيم أمرها، و ليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى و رقته و لطفه، و هو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله: الله لا إله إلا هو، و معنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه، و تفصيل جريان القيومية في ما دق و جل من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من حيث إنه خارج منها داخل فيها، و لذلك ورد فيها أنها أعظم آية في كتاب الله، و هو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى:» طه - 8، و إن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، و لذا ورد في بعض الأخبار: أن آية الكرسي سيدة آي القرآن: رواها في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ورد في بعضها: أن لكل شيء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسي:، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي أمامة الباهلي: أنه سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها. قلت: و ما سوادها؟ قال: جميعها حتى يقرأ هذه الآية: الله لا إله إلا هو - الحي القيوم فقرأ الآية إلى قوله: و لا يؤوده حفظهما - و هو العلي العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، و لم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها، الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبيد و ابن أبي شيبة و الدارمي و محمد بن نصر و ابن الضريس عنه (عليه السلام)، و رواه أيضا عن الديلمي عنه (عليه السلام)، و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في فضلها كثيرة، و قوله (عليه السلام): إن رسول الله قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن البخاري في تاريخه، و ابن الضريس عن أنس أن النبي قال: أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسي تحت العرش و محاطا له و سيأتي الكلام في بيانه.
و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: وسع كرسيه السموات و الأرض، السماوات و الأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات و الأرض؟ فقال (عليه السلام): إن كل شيء في الكرسي.
أقول: و هذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال و الجواب و هو بظاهره غريب، إذ لم يرو قراءة كرسيه بالنصب و السماوات و الأرض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال، و الظاهر أنه مبني على ما يتوهمه الأفهام العامية أن الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة أعني فوق عالم الأجسام منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات و الأرض وسعته إذ كان موضوعا عليها كهيئة الكرسي على الأرض، فيكون معنى السؤال أن الأنسب أن السماوات و الأرض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟، و قد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فأجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض... و في المعاني، عن حفص بن الغياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: وسع كرسيه السموات و الأرض، قال: علمه.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): في الآية: السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.
أقول: و يظهر من الروايتين: أن الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره، و في معناهما روايات أخرى.
و كذا يظهر منهما و مما سيجيء: أن في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أن فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها أمور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية، و التعينات الوجودية التي لوجوداتنا، و هي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أن وجودها عين العلم، كما أن الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي أن وجودها نفس علمه تعالى بها و حضورها عنده، و لعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى: «و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض:» يونس - 61.
و ما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله (عليه السلام) في الرواية، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، و من المعلوم أن عدم التقدير و التحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير متناه، و كل عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، و لو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه أيضا علما و إن كان محدودا، بل عدم التناهي و التقدير إنما هو من جهة كمال الوجود أي إن الحدود و القيود الوجودية يوجب التكثر و التميز و التمايز بين موجودات عالمنا المادي، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف و الأفراد، و الأفراد بالحالات، و الإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر - 21، و سيجيء تمام الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
و هذه الموجودات كما أنها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها و هذا هو الكرسي على ما يستظهر.
و ربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، حيث جعل المعلوم: ما بين أيديهم و ما خلفهم، و هما أعني ما بين الأيدي و ما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية و نحوها، و ليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة و لا مقدرة و إلا لم يصح الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه، فهو مرحلة العلم بالمحدودات و المقدرات من حيث هي محدودة مقدرة و الله أعلم.
و في التوحيد، عن حنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال (عليه السلام) إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب و صنع في القرآن صفة على حدة، فقوله: رب العرش العظيم يقول: رب الملك العظيم، و قوله: الرحمن على العرش استوى، يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منه الأشياء كلها، و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: رب العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال (عليه السلام): إنه صار جارها لأن علم الكيفوفية فيه و فيه، الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز.
أقول: قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالا، فمرتبة العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود مما لا قدر له و لا حد، و سيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السموات:» الأعراف - 54، و قوله (عليه السلام): و بمثل صرف العلماء، إشارة إلى أن هذه الألفاظ من العرش و الكرسي و نظائرها أمثال مصرفة مضروبة للناس و ما يعقلها إلا العالمون.
و في الإحتجاج، عن الصادق (عليه السلام): في حديث: كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي.
أقول: و قد تقدم توضيح معناه، و هو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الأخبار أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه و رسله، و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق (عليه السلام) كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش و الكرسي، أو أنه مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة.
و في تفسير العياشي، عن علي (عليه السلام) قال: إن السماء و الأرض و ما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بأمر الله، أقول: و رواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام)، و لم يرو عنهم (عليهم السلام) للكرسي حملة إلا في هذه الرواية، بل الأخبار إنما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله تعالى كما قال: «الذين يحملون العرش و من حوله الآية:» المؤمن - 7، و قال تعالى، «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية:» الحاقة - 17، و يمكن أن يصحح الخبر بأن الكرسي - كما سيجيء بيانه - يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشيء بباطنه.
و بذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر.
و في تفسير العياشي، أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال: نحن أولئك الشافعون.
أقول: و رواه البرقي أيضا في المحاسن، و قد عرفت أن الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية و التشريعية معا، فتشمل شفاعتهم (عليهم السلام)، فالرواية من باب الجري
|