بيان
قوله تعالى: إن الذين كفروا، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر و تمكن الجحود من قلوبهم، و يدل عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار و عدمه فيهم، و لا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش و كبراء مكة الذين عاندوا و لجوا في أمر الدين و لم يألوا جهدا في ذلك و لم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر و غيره، و يؤيده أن هذا التعبير و هو قوله: سواء عليهم، أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار و إلا انسد باب الهداية و القرآن ينادي على خلافه، و أيضا هذا التعبير إنما وقع في سورة يس و هي مكية و في هذه السورة و هي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة نزلت و لم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا، هاهنا و في سائر الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في أول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: الذين آمنوا، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب تشريفا.
و قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم و على سمعهم «إلخ» يشعر تغيير السياق: حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم و حجابا من الله تعالى عقيب كفرهم و فسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين: من ذاتهم و من الله تعالى، و سيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا».
و اعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة و الضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.
بحث روائي
في الكافي، عن الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز و جل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر الله، و كفر البراءة، و كفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية و هو قول من يقول: لا رب و لا جنة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم و لا تحقيق لشيء مما يقولون: قال عز و جل: إن هم إلا يظنون، أن ذلك كما يقولون، و قال: إن الذين كفروا - سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر. و أما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال الله عز و جل: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا»، و قال الله عز و جل: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به - فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهي الجحود، و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر - و من شكر فإنما يشكر لنفسه - و من كفر فإن ربي غني كريم، و قال: لئن شكرتم لأزيدنكم - و لئن كفرتم إن عذابي لشديد، و قال: فاذكروني أذكركم و اشكروا لي و لا تكفرون. و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز و جل به، و هو قول عز و جل: «و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم - و لا تخرجون أنفسكم من دياركم - ثم أقررتم و أنتم تشهدون - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم - و تخرجون فريقا منكم من ديارهم - تظاهرون عليهم بالإثم و العدوان - و إن يأتوكم أسارى تفادوهم - و هو محرم عليكم إخراجهم - أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض»، فكفرهم بترك ما أمر الله عز و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل ذلك منكم - إلا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب - و ما الله بغافل عما تعملون. و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة و ذلك قول الله عز و جل يحكي قول إبراهيم: كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا - حتى تؤمنوا بالله وحده، يعني تبرأنا منكم، و قال: يذكر إبليس و تبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة إني كفرت بما أشركتمون من قبل، و قال: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا - مودة بينكم في الحيوة الدنيا - ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا، يعني يتبرأ بعضكم من بعض.
أقول: و هي في بيان قبول الكفر الشدة و الضعف كما مر
|