بيان
السياق و خاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، و خاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عندهم علم الدين و الكتاب، و لذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، و كان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك و يظهر نوره، و ينتشر دعوته، و لما هاجر النبي إلى المدينة و كان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، و الطمع يأسا، و لذلك يقول سبحانه: أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم إلخ، يعني أن كتمان الحقائق و تحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا و نقضهم ما أبرموا.
قوله تعالى: أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي و الذين آمنوا و وضعهم موضع الغيبة و كان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة و عدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مر، أريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.
قوله تعالى: و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا إلخ، لا تقابل بين الشرطين و هما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون»: البقرة - 14، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم و جهالتهم.
أحدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صونا لأنفسهم من الإيذاء و الطعن و القتل.
و ثانيهما: أنهم يريدون تعمية الأمر و إبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم و علانيتهم و ذلك أن العامة منهم، و هم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك و لازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الأمر، دون سره و باطنه و هذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: «أ و لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون» الآية فإن هذا النوع من العلم - و هو ما يتعلق بظاهر الأمر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان و المكان مولود لعلل أخرى مادية و ما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.
و هذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لإذعانهم بأصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الأحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة، مستعليا قاهرا عليه، و لكن بعين ما تفعل علة مادية و تستعلي و تقهر على معلول مادي، و هذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن بأصالة المادة من المليين و غيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحياة و العلم و القدرة و الاختيار و الإرادة و القضاء و الحكم و تدبير الأمر و إبرام القضاء إلى غير ذلك، و هذا داء لا ينجع معه دواء، و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق و لا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا إن المسلمين يروون عن نبيهم أن الله خلق آدم على صورته و هم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع أحكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم و إن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلا إن ما يبين أوصافه تعالى من الألفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي فلقولنا: إنه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها و لا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، و لا زائل، و لا جاهل، و لا عاجز و لا ميت فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بأنهم يؤمنون بما لا يدرون، و يعبدون ما لا يفهمون، و يدعون إلى ما لا يعقلون، و لا يعقله أحد من الناس، و قد كفتهم الدعوة الدينية مئونة هذه الأباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول و لب الحقيقة بين التشبيه و التنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شيء لا كالأشياء و إن له علما لا كعلومنا، و قدرة لا كقدرتنا، و حياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، و على الخاصة أن يتدبروا في آياته و يتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب»: الزمر - 9، و الخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.
قوله تعالى: و منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، الأمي من لا يقرأ و لا يكتب منسوب إلى الأم لأن عطوفة الأم و شفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم و تسلمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الأم، و الأماني جمع أمنية، و هي الأكاذيب، فمحصل المعنى أنهم بين من يقرأ الكتاب و يكتبه فيحرفه و بين من لا يقرأ و لا يكتب و لا يعلم من الكتاب إلا أكاذيب المحرفين.
قوله تعالى: فويل للذين يكتبون، الويل هو الهلكة و العذاب الشديد و الحزن و الخزي و الهوان و كل ما يحذره الإنسان أشد الحذر و الاشتراء هو الابتياع.
قوله تعالى: فويل لهم مما كتبت أيديهم و ويل لهم إلخ، الضمائر إما راجعة إلى بني إسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم و لكل وجه و على الأول يثبت الويل للأميين منهم أيضا.
قوله تعالى: بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته إلخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، و لذلك أتى بإحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب السيئة و إحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان الهداية لإحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها و لو كان في قلبه شيء من الإيمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الأخلاق و الملكات، كالإنصاف و الخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية و السعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق إلا بالشرك الذي قال تعالى فيه: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و من جهة أخرى إلا بالكفر و تكذيب الآيات كما قال سبحانه: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة - 39، فكسب السيئة، و إحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار.
و اعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين إلخ»: البقرة - 62، و إنما الفرق أن الآيتين أعني قوله: بلى من كسب سيئة، في مقام بيان أن الملاك في السعادة إنما هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون الدعاوي و الآيتان المتقدمتان أعني قوله: إن الذين آمنوا إلخ في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون التسمي بالأسماء.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله: و إذا لقوا الذين، الآية عن الباقر (عليه السلام) قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهى كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه الآية و في الكافي، عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: بلى من كسب سيئة، قال: إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
أقول: و روى قريبا من هذا المعنى الشيخ في أماليه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الروايتان من الجري و التطبيق على المصداق، و قد عد سبحانه الولاية حسنة في قوله: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى و من يقترف حسنة نزد له فيها حسنا»: الشورى - 23، و يمكن أن يكون من التفسير لما سيجيء في سورة المائدة أنها العمل بما يقتضيه التوحيد و إنما نسب إلى علي (عليه السلام) لأنه أول فاتح من هذه الأمة لهذا الباب فانتظر.
|