بيان
الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله: يا أيها الذين ءامنوا، كما أن الآيات السابقة بأوامرها و نواهيها توطئة لهذه الآيات التي تشتمل على أصل المقصود من أمر و نهي و ثناء و توبيخ.
قوله تعالى: «و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين» الوهن: هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب، و المراد به هنا ضعفهم من حيث العزيمة و الاهتمام على إقامة الدين و قتال أعدائه، و الحزن خلاف الفرح و إنما يعرض الإنسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له.
و في قوله تعالى: و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، دلالة على أن سبب وهنهم و حزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم، و استعلاء الكفار عليهم، فإن المشركين و إن لم ينالوا كل الغلبة و الظفر على المؤمنين و لم تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد و أوجع و هو شهادة سبعين من سراتهم و شجعانهم، و وقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم و حزنهم، و وقوع قوله: و أنتم الأعلون «إلخ» موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهيا عن وهن و حزن واقعين لا مقدرين و لا متوقعين.
و قد أطلق قوله: الأعلون من غير تقييد و لكن اشترط بالإيمان فمحصل المعنى: لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم، و لا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم، و الانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان، فإن الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو يلازم التقوى و الصبر و فيهما ملاك الفتح و الظفر، و أما القرح الذي أصابكم فلستم بمتفردين فيه بل القوم - و هم المشركون - قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شيء حتى يوجب ذلك وهنكم و حزنكم.
و اشتراط علوهم بالإيمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للإشارة إلى أن الجماعة و إن كانوا لا يفقدون الإيمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر و التقوى و إلا لأثر أثره.
و هذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقا و الضعيف إيمانا و المريض قلبا، و يكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم، و عظة لضعيفهم و عتابا و تأنيبا لمريضهم.
قوله تعالى: «إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله» القرح - بفتح القاف - الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج، و القرح - بالضم - أثرها من داخل كالبثرة و نحوها - قاله الراغب - و كأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه و هو قتل من قتل منهم، و جراحة من جرح منهم، و فوت النصر و الفتح بعد ما أطلا عليهم.
و هذه الجملة أعني قوله: إن يمسسكم «إلخ» و ما بعدها من الجمل المتسقة إلى قوله: و يمحق الكافرين في موضع التعليل كما مر - لقوله: و لا تهنوا و لا تحزنوا اه كما أن قوله: و أنتم الأعلون تعليل آخر.
و الفرق بين النوعين من التعليل أن الأول أعني قوله: و أنتم الأعلون إلخ، تعليل من طريق التخطئة لظنهم، فإنهم إنما وهنوا و حزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطاهم الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين، و قد قال تعالى: و كان حقا علينا نصر المؤمنين: «الروم: 47».
و أما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين - المؤمنين و المشركين - أو بيان الحكم و المصالح التي ترجع إلى أصل واحد و هو السنة الإلهية الجارية بمداولة الأيام بين الناس.
قوله تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس» اليوم هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث، و قد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس و غروبها، و ربما استعمل في الملك و السلطنة و القهر و نحوها بعلاقة الظرف و المظروف، فيقال يوم جماعة كذا و يوم آل فلان أي تقدمهم و حكومتهم على غيرهم، و قد يقال لنفس الزمان الذي وقع فيه ذلك، و المراد بالأيام في الآية هو هذا المعنى.
و المداولة جعل الشيء يتناوله واحد بعد آخر.
فالمعنى: أن السنة الإلهية جرت على مداولة الأيام بين الناس من غير أن توقف على قوم و يذب عنها قوم لمصالح عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها.
قوله تعالى: «و ليعلم الله الذين ءامنوا و يتخذ منكم شهداء» إلخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الأفهام و لا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها، و الذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله: و ليعلم الله الذين ءامنوا و يتخذ منكم شهداء إلخ و بقوله: و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين.
أما قوله: و ليعلم الله الذين ءامنوا، فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه و خفائه، فإن علمه تعالى بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الأشياء معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا و إدراكاتنا و هو ظاهر، و لازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشيء هي إرادة تحققه و ظهوره و حيث قال: و ليعلم الله الذين ءامنوا، فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم، و إذا كان ذلك على سنة الأسباب و المسببات لم يكن بد من وقوع أمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.
و أما قوله: و يتخذ منكم شهداء، فالشهداء شهداء الأعمال و أما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، و إنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية، كما مر في قوله تعالى: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء: البقرة - 143، على أن قوله: و يتخذ، أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة، فلا يقال: اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله و شهيدا كما يقال: اتخذ الله إبراهيم خليلا، و اتخذ الله موسى كليما، و اتخذ الله النبي شهيدا يشهد على أمته يوم القيامة.
و قد غير السياق فقال: و يتخذ منكم شهداء، و لم يقل: و يتخذهم شهداء لأن الشهادة و إن أضيفت إلى الأمة في قوله: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس: البقرة - 143، إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل، و الشهداء بعض الأمة دون كلهم، و قد مر بيان ذلك في سورة البقرة، و يمكن أن يتأيد هذا الذي ذكرناه بقوله بعده: و الله لا يحب الظالمين.
و أما قوله: «و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين» فالتمحيص هو تخليص الشيء من الشوائب الخارجة، و المحق إنفاد الشيء تدريجا و إزالته شيئا فشيئا، و هذا التمحيص من حكم مداولة الأيام و مصالحها، و هو غير العلم بالذين آمنوا الذي هو أيضا من حكم مداولة الأيام، فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر و تخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر و النفاق و الفسوق أمر آخر، و لذلك قوبل بالمحق للكافرين، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر و نحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه، فيكون خالصا لله، و يبيد أجزاء الكفر و الشرك و الكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شيء.
فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيام بين الناس، و عدم استمرار الدولة بين قوم خاص، و لله الأمر كله يفعل ما يشاء، و لا يفعل إلا الأصلح الأنفع كما قال: كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض: الرعد - 17، و قال الله تعالى قبيل هذه الآيات: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شيء، و قصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء.
و هذا الكلام أعني ما يبين أن الأيام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان و تمييز المؤمن من الكافر و تمحيص المؤمنين و محق الكافرين مع ما مر من نفي رجوع الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب تام في غلبتهم أينما غزوا و ظهورهم على الباطل كيفما كانوا، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك، و قد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم و نزول ملائكة النصر، و هذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان و التمحيص و في ذلك بطلان مصلحة الأمر و النهي و الثواب و العقاب، و يؤدي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبني على خرق العادة الجارية و السنة الإلهية القائمة في الوجود بابتناء الغلبة و الهزيمة على أسبابهما العادية.
شرح سبحانه - بعد بيان أن الأيام دول متداولة لغرض الامتحان و الابتلاء - في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل و بيان حقيقة الحال فقال: أم حسبتم إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله» إلى آخر الآيتين و هذا أعني ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا لازم الظن المذكور آنفا، و هو أنهم لما كانوا على الحق و الحق لا يغلب عليه فأمر الظفر و الغلبة إليهم، لن ينهزموا و لن يغلبوا أبدا، و من المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي و لحق بجماعة المؤمنين سعيدا في دنياه بالغلبة و الغنيمة، و سعيدا في آخرته بالمغفرة و الجنة، و يبطل الفرق بين ظاهر الإيمان و حقيقته و يرتفع التمايز بين الدرجات، فإيمان المجاهد و إيمان المجاهد الصابر واحد، و من تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه.
و على هذا فقوله: أم حسبتم أن تدخلوا «إلخ» من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز المستحق لها منكم من غير المستحق، و صاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟.
و أما قوله تعالى: و لقد كنتم تمنون الموت الآية ففيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت و رأوه رأي العين لم يقدموا و لم يتناولوا ما كانوا يتمنونه، بل فشلوا و تولوا عن القتال، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمني من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا.
و بهذا يظهر أن في الكلام تقديرا، و المعنى: فقد رأيتموه و أنتم تنظرون فلم تقدموا عليه، و يمكن أن يكون قوله: تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرد النظر من غير إقدام، و فيه عتاب و توبيخ.
كلام في الامتحان و حقيقته
لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال: الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى،: طه: - 50، فعمم الهداية لكل شيء من ذوي الشعور و العقل و غيرهم، و أطلقها أيضا من جهة الغاية، و قال أيضا: الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى،: الأعلى - 3، و الآية من جهة الإطلاق كسابقتها.
و من هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها و أثبت مكانها الضلال في طوائف و الهداية العامة لا تنفي عن شيء من خلقه، قال تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين: الجمعة - 5، و قال: و الله لا يهدي القوم الفاسقين: الصف - 5، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و كذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن و الكافر كما في قوله تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا: الدهر - 3، و قوله: و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى:، حم السجدة - 17، فإن ما في هاتين الآيتين و نظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور و العقل و قد عرفت أن ما في قوله: ثم هدى و قوله: و الذي قدر فهدى عام من حيث المورد و الغاية جميعا، على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير، و الهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب و العلل لسوق الشيء إلى غاية خلقته، و إن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك.
و كيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شيء إلى كمال وجوده، و إيصاله إلى غاية خلقته، و هي التي بها نزوع كل شيء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء و استكمال و أفعال و حركات و غير ذلك، و للكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.
و الغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها و آجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ، و قد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه و هو لا يخلف الميعاد، كما قال تعالى: إن علينا للهدى و إن لنا للآخرة و الأولى: الليل - 13، و الآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات و الهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان.
فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها و هدايتها إلى كمالها المشرع لها، و قد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين و كيف يحيط به القضاء و القدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية و عملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة، جيدة أو ردية، فلا بد لسائق التكوين أن يهيىء له سلسلة من الأوامر و النواهي الشريعة و سلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية و الفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى و يظهر ما في مكمن وجوده، و عند ذلك ينطبق على هذه الحوادث و هذا التشريع اسم المحنة و البلاء و نحوهما.
توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية و استوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر و النواهي الإلهية و يخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء و إن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده، فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم و يخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم، قال تعالى: و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين: آل عمران - 54، و قال: و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله،: فاطر - 43، و قال: ليمكروا فيها و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون،: الأنعام - 123، و قال: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين،: الأعراف - 183، فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة و التمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى: «أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون»: العنكبوت - 4، و من أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى «فلله المكر جميعا»: الرعد - 42.
فجميع هذه المماكرات و المخالفات و المظالم و التعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية، و كل ما يستقبلهم من حوادث الأيام و يظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم و دعتهم إلى ذلك أهواؤهم، مكر إلهي و إملاء و استدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم و خاتمته و قد فعل، و الله غالب على أمره.
و هذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر و المعاصي إغواء منه لهم، و النزوع إليها دعوة و وسوسة و نزعة و وحيا و إضلالا، و الحوادث الداعية و ما يجري مجراها زينة له و وسائل و حبائل و شبكات منه على ما سيجيء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
و أما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات و العبادات و كذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك، ينطبق عليها مفهوم التوفيق و الولاية الإلهية و الهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق، قال تعالى: «و الله يؤيد بنصره من يشاء»: آل عمران - 13، و قال: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران - 68، و قال: «الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور»: البقرة - 257، و قال: «يهديهم ربهم بإيمانهم»: يونس - 9، و قال: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام - 122، هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه، و أما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا و تسديدا منهم، قال تعالى: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة - 22.
ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى: «و الذي قدر فهدى»: الأعلى - 3، فإن المقادير التي تحملها العلل و الأسباب المحتفة بوجود الشيء هي التي تحول الشيء من حال أولى إلى حال ثانية و هلم جرا فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.
و كما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال و هي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى: «ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى و الذين كفروا عما أنذروا معرضون»: الأحقاف - 3، فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها و هي الآجال، و الشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا و الآجال المسماة أمور ثابتة غير متغيرة فهي تجذب الأشياء من أمامها و هو ظاهر.
فالأشياء محاطة بقوى إلهية: قوة تدفعها، و قوة تجذبها، و قوة تصاحبها و تربيها و هي القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة و الرقباء و القرناء كالملائكة و الشياطين و غير ذلك.
ثم إنا نسمي نوع التصرفات في الشيء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه: هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان و الاختبار، فإنك إذا جهلت حال الشيء أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره و لكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ و تسمي ذلك امتحانا و اختبارا و استعلاما لحاله، أو ما يقاربها من الألفاظ.
و هذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع و الحوادث الجارية على أولي الشعور و العقل من الأشياء كالإنسان، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهي امتحانات إلهية.
و إنما الفرق بين الامتحان الإلهي و ما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا، و الله سبحانه يمتنع عليه الجهل و عنده مفاتح الغيب، فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة و السعادة امتحان لأنه يظهر و يتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب.
و لذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعني التشريع و توجيه الحوادث بلاء و ابتلاء و فتنة فقال بوجه عام: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا»: الكهف - 7، و قال: «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا»: الدهر - 2، و قال: «و نبلوكم بالشر و الخير فتنة»: الأنبياء - 35، و كأنه يريد به ما يفصله قوله: «فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن»: الفجر - 16، و قال: «إنما أموالكم و أولادكم فتنة»: التغابن - 15، و قال: «و لكن ليبلوا بعضكم ببعض»: محمد - 4، و قال: «كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون»: الأعراف - 163، و قال: «و ليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا»: الأنفال - 17، و قال: «أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين»: العنكبوت - 3.
و قال في مثل إبراهيم: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات»: البقرة - 124، و قال في قصة ذبح إسماعيل: «إن هذا لهو البلاء المبين»: الصافات - 106، و قال في موسى: «و فتناك فتونا»: طه - 40، إلى غير ذلك من الآيات.
و الآيات كما ترى تعمم المحنة و البلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده و أجزاء وجوده كالسمع و البصر و الحياة، و الخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد و الأزواج و العشيرة و الأصدقاء و المال و الجاه و جميع ما ينتفع به نوع انتفاع، و كذا مقابلات هذه الأمور كالموت و سائر المصائب المتوجهة إليه، و بالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم و أحوالها فتنة و بلاء من الله سبحانه بالنسبة إليه.
و فيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر، و صالح أو طالح، و نبي أو من دونه، فهي سنة جارية لا يستثنى منها أحد.
فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية، و هي سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية و هي سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان و ما يتقدمها و ما يتأخر عنها أعني القدر و الأجل كما مر بيانه.
و من هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين و هو محال، و يشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق، و ما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى: «ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى»: الأحقاف - 3، و قوله تعالى: «أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون»: المؤمنون - 115، و قوله تعالى: «و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان - 39، و قوله تعالى: «من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت»: العنكبوت - 5، إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق و ليست باطلة مقطوعة عن الغاية، و إذا كانت أمام الأشياء غايات و آجال حقة و من ورائها مقادير حقة و معها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة، و ابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال و النقص و السعادة و الشقاء إلى الفعل، و هذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان و ابتلاء فافهم ذلك.
و يظهر مما ذكرناه معنى المحق و التمحيص أيضا، فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص و هو التمييز و كذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر و المنافق و في ظاهرهما صفات و أحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث، و كلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها، قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين ءامنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين»: آل عمران - 141.
و للكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر و خلوص الدين لله، قال تعالى: «و العاقبة للتقوى»: طه - 132، و قال: «إن الأرض يرثها عبادي الصالحون»: الأنبياء - 105.
قوله تعالى: «و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل» الموت زهاق الروح و بطلان حياة البدن، و القتل هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه، و الموت و القتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل، و إذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف و القتل خلافه.
و انقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب: و رجع على عقبيه إذا انثنى راجعا، و انقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، و نحو ارتدا على آثارهما قصصا، و قولهم رجع عوده إلى بدئه، انتهى.
و حيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاء للشرط الذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو قتله، و إنما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
و يدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله: و طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى آخر الآيات، على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف و توليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين و خيبر و غيرهما و لم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب و لا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى: «و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين»: البراءة - 25، فالحق أن المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.
فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الأمر شيئا، و إنما الأمر لله و الدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتخذتم الغواية بعد الهداية؟.
و هذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمي الوطيس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل فانسلوا عند ذلك و تولوا عن القتال، فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية و التاريخ - كما في ما رواه ابن هشام في السيرة -: أن أنس بن النضر - عم أنس بن مالك - انتهى إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار - و قد ألقوا بأيديهم - فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
و بالجملة فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي: أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبقى ببقائه و يزول بموته، و هو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان و هذا هو الذي عاتبهم الله عليه، و يؤيد هذا المعنى قوله بعده: و سيجزي الله الشاكرين، فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله: و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، فافهم ذلك.
و قوله: و سيجزي الله الشاكرين، بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق، و هو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال و التولي و هم الشاكرون.
و حقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها، و إظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لسانا و هو الثناء و قلبا من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها و يوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها و لا يتعدى ذلك، و إن من شيء إلا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى: و ءاتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار،: إبراهيم - 34، فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيته عندها.
و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصية، فمعنى قوله: «و اشكروا لي و لا تكفرون»: البقرة - 152، اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، و لا يصغى إلى قول من يقول: إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبودية.
و قد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما، بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس و صيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الذين أشركوا، و الذين صبروا، و الذين ظلموا، و الذين يعتدون، و بين قولنا.
المشركين، و الصابرين، و الظالمين، و المعتدين، فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرت فيهم هذه الفضيلة، و قد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا «و هو نعمة» إلا و ذكر الله معه، و لا يمس شيئا «و هو نعمة» إلا و يطيع الله فيه.
فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الإخلاص لله سبحانه علما و عملا، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم.
و يظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى: «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: ص - 83، و قال تعالى: «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: الحجر - 40، فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين، و أمضاه الله سبحانه من غير رد، و قال تعالى: «قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين»: الأعراف - 17، و قوله: و لا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين، و ليس إلا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم، و إنما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبية و الدعوة إلى المعصية.
و مما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم و الله غفور حليم، مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها: و سيجزي الله الشاكرين، و قوله فيما بعدها: و سنجزي الشاكرين، و قد عرفت أنه في معنى الاستثناء.
فتدبر فيها و اقض عجبا مما ربما يقال: إن الآية أعني قوله: إن الذين تولوا منكم ناظرة إلى ما روي: أن الشيطان نادى يوم أحد: «ألا قد قتل محمد» فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أي مهبط أهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟.
فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين، و صدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم، و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعني قوله: و ما محمد إلا رسول الآية، و قوله: و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله الآية، و لم يذكر ما يجازيهم به في شيء من الموردين إشعارا بعظمته و نفاسته.
قوله تعالى: «و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا» الخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا الآية، و قول طائفة منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا الآية، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قعدوا عن القتال.
فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهي و التدبير المتقن الرباني و سيجيء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام.
و لما كان لازم هذا القول ممن قال به إنه آمن لظنه أن الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى: و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، و إنما قال: نؤته منها و لم يقل: نؤتها لأن الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا،: الإسراء - 19 و قال تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى»: النجم - 39.
ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال: «و سنجزي الشاكرين» و ليس إلا لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدم.
قوله تعالى: «و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير» إلى آخر الآيات كأين كلمة تكثير و كلمة «من» بيانية و الربيون جمع ربي و هو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الألوف و الربي الألف، و الاستكانة هي التضرع.
و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبهم لإحسانهم كما أحبهم لذلك.
و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل و القول غير المرضيين لله تعالى و حتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لأولئك الربيين.
|