بيان
الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها و خاصة الآيات الأربع الأول منها تتمة لها لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء و الامتحان الإلهي لعباده، و على ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء و الامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر و لا مؤمن، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار و يتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.
قوله تعالى: «و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» إلى آخر الآية تسلية و رفع للحزن ببيان حقيقة الأمر فإن مسارعتهم في الكفر و تظاهرهم على إطفاء نور الله و غلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب و أنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية و التشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية و النعمة و القدرة - و هو الاستدراج و المكر الإلهي - إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان و المعصية، و المؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت و أئمة الكفر.
فمعنى الآية: لا يحزنك الذين يسرعون و لا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك و ليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لأنهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة و هو آخر حدهم في الكفر و لهم عذاب أليم فقوله: لا يحزنك، أمر إرشادي، و قوله: إنهم «إلخ» تعليل للنهي، و قوله: يريد الله «إلخ» تعليل و بيان لعدم ضررهم.
ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر و غيرهم، و هو كالبيان الكلي بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهي لا يحزنك و أن يعلل به علته أنهم لن يضروا «إلخ» لأنه أعم يعلل به الأخص، و المعنى: و إنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لأن الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا.
قوله تعالى: «و لا يحسبن الذين كفروا»، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم إن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم، فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء و الإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم، و وراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلا الهوان، كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.
قوله تعالى: «ما كان الله ليذر المؤمنين» «إلخ» ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره، و يتميز الخبيث من الطيب.
و لما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب و هو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن و البلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين و الذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي، و ذلك قوله تعالى: و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء.
ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء و التكميل محيد فآمنوا بالله و رسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء، غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله و يحفظ طيبه، و لذلك قال أولا: فآمنوا بالله و رسله ثم تممه ثانيا بقوله: و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم.
و قد ظهر من الآية أولا: أن قضية تكميل النفوس و إيصالها إلى غايتها و مقصدها من السعادة و الشقاء مما لا محيص عنه.
و ثانيا: أن الطيب و الخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران مدار الإيمان و الكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم، و هذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد، و يدل عليها قوله تعالى: و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات -: البقرة 148، إذا انضم إلى قوله: و لكن ليبلوكم فيما ءاتاكم فاستبقوا الخيرات -: المائدة 48، و سيجيء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض الآية -: الأنفال 37.
و ثالثا: أن الإيمان بالله و رسله مادة لطيب الحياة و هو طيب الذات، و أما الأجر فيتوقف على التقوى و العمل الصالح، و لذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب و الخبيث ثم فرع عليه قوله: فآمنوا بالله و رسله، ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال: و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم.
و بذلك يتبين في قوله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون: «النحل: 97»، إن الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه، و الجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيبة، و أما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها و تحققها إلى روح حيواني، و بقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى و الأعضاء، و لو سكنت الجميع بطلت و أبطلت الحياة.
و قد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية، و الثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر و ليس إلا للدلالة على مصدر الجلال و الجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو بألوهيته و هو الامتحان، و الاطلاع على الغيب، و اجتباء الرسل، و أهلية الإيمان به.
قوله تعالى: «و لا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله» الآية، لما بين حال إملاء الكافرين و كان الحال في البخل بالمال و عدم إنفاقه في سبيل الله مثله، فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم و بين أنه شر لهم، و في التعبير عن المال بقوله: بما ءاتاهم الله من فضله إشعار بوجه لومهم و ذمهم، و قوله: سيطوقون إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم، و قوله: و لله ميراث السموات، الظاهر أنه حال من يوم القيامة، و كذا قوله: و الله بما تعملون خبير.
و يحتمل على بعد أن يكون قوله: و لله ميراث حالا من فاعل قوله يبخلون، و قوله: و الله بما تعملون خبير حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال: الموت خير للمؤمن و الكافر لأن الله يقول: و ما عند الله خير للأبرار، و يقول: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير، الآية.
أقول: الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال: إن المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شيء من البر، و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود.
|