بيان
الآيات مرتبط بما قبلها، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس و ترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و تحذيرهم عن الوهن و الفشل و البخل فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير و نحن أغنياء، و تقليبهم الأمر على المسلمين، و تكذيبهم آيات الرسالة، و كتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه، و هذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة و الصبر و الثبات، و التحريض على الإنفاق في سبيل الله.
قوله تعالى: «لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء» القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء و غير ذلك.
و إنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية: «البقرة: 245» و يشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: و لا يحسبن الذين يبخلون، الآية.
أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين و فاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم و أغناهم فليس إلا فقيرا و نحن أغنياء.
قوله تعالى: «سنكتب ما قالوا و قتلهم الأنبياء بغير حق» الآية، المراد بالكتابة الحفظ و التثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، و المآل واحد، و المراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان و العمد دون السهو و الخطإ و الجهالة، و قد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما، و قوله: عذاب الحريق، الحريق النار أو اللهب و قيل: هو بمعنى المحرق.
قوله تعالى: «ذلك بما قدمت أيديكم» الآية، أي بما قدمتم أمامكم من العمل و نسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا، و قوله: و أن الله ليس بظلام للعبيد عطف على قوله: ما قدمت، و تعليل للكتابة و العذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال و في ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك.
قوله تعالى: «الذين قالوا إن الله عهد إلينا» الآية، نعت للذين قبله و العهد هو الأمر، و القربان ما يتقرب به من النعم و غيره، و أكل النار كناية عن إحراقها، و المراد بقوله: قد جاءكم رسل من قبلي، أمثال زكريا و يحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.
قوله تعالى: «فإن كذبوك فقد كذب» الآية، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكذيبهم له، و الزبر جمع زبور و هو كتاب الحكم و المواعظ، و قد أريد بالزبر و الكتاب المنير مثل كتاب نوح و صحف إبراهيم و التوراة و الإنجيل.
قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت»، الآية تتضمن الوعد للمصدق و الوعيد للمكذب و قد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس، و التوفية هو الإعطاء الكامل، و قد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء و أن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، و هو استدلال حسن، و الزحزحة هو الإبعاد، و أصله تكرار الجذب بعجلة، و الفوز الظفر بالبغية، و الغرور مصدر غر أو هو جمع غار.
قوله تعالى: «لتبلون في أموالكم و أنفسكم» الآية، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء و الإبلاء على المؤمنين، ثم ذكر قول اليهود و هو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي و الأقاويل المؤذية من أهل الكتاب و المشركين ستتكرر على المؤمنين، و يكثر استقبالها إياهم و قرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا و يتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل و الفشل، و يكونوا أرباب عزم و إرادة، و هذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم، و يوطنوا عليه أنفسهم.
و قد وضع في قوله: و لتسمعن إلى قوله: أذى كثيرا، الأذى الكثير موضع القول و هو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.
قوله تعالى: «و إذ أخذ الله ميثاق»، النبذ الطرح، و نبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك و عدم الاعتناء كما أن قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ و اللزوم.
قوله تعالى: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال و لازمه حب المال و البخل به، و المفازة النجاة و إنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.
ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات و الأرض، و قدرته على كل شيء، و هذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة: في قوله: لقد سمع الله الآية، قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا - فيضاعفه له أضعافا كثيرة، قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.
و في تفسير العياشي،: في الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: و الله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير، و لكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.
و في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.
أقول: أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية، و أما الثالثة فهي من الجري.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين القائلين و القاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.
أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي.
و في الدر المنثور، في قوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله و بركاته كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك، و دركا من كل ما فات فبالله فثقوا، و إياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي: هذا الخضر.
و فيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ثم تلا هذه الآية: فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز.
أقول: و رواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره، و اعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري.
|