بيان
الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب و خاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم و تهديدهم بعذاب الدنيا و الآخرة و من العذاب ما سلب الله عنهم الملك و ضرب عليهم الذل و المسكنة إلى يوم القيامة و أخذ أنفاسهم و ذهب باستقلالهم في السؤدد.
على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم و تدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء و يعز من يشاء و بالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء و هو الآخذ النازع للملك و العزة و لكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.
قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق و له القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين و المتمردين من الحق من المشركين و أهل الكتاب فضلوا و هلكوا بما قدروه لأنفسهم من الملك و العزة و الغنى من الله سبحانه و يعرض الملتجىء نفسه على إفاضة مفيض الخير و الرازق لمن يشاء بغير حساب.
و الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا و نعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك بكسر الميم ما هو حقيقي و هو كون شيء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين و الوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها و إهمالها بأي نحو شاء و أراد و كذا في يده بالقبض و البسط، و الأخذ بها و الترك و نحو ذلك و لا محالة بين المالك و ملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه و لا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر و اليد إذا فارقا الإنسان و من هذا القبيل ملكه تعالى بكسر الميم للعالم و لجميع أجزائه و شئونه على الإطلاق، فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.
و من الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري و هو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات و الأغراض الاجتماعية، و إنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي و آثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع و الدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان و الأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.
و لكون الرابطة بين المالك و المملوك في هذا النوع من الملك بالوضع و الاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير و التحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع و الهبة و سائر أسباب النقل.
و أما الملك بالضم فهو و إن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، و لا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك، و هو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد و ما في يده، و لهذا كان للملك بالضم من الأقسام ما ذكرناه للملك بالكسر.
و الله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة و القيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء و إله كل شيء، قال تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو»: المؤمن - 62 و قال تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض»: البقرة - 255، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها و فيها شيء و هذا هو الملك بالكسر كما مر.
و أما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، و الأشياء تملك قواها الفعالة، و القوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك اعضاءه و قواه الفعالة من سمع و بصر و غير ذلك، و هي تملك أفعالها، و إذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، و يملك ما يملكه، و هذا هو الملك بالضم فهو مليك على الإطلاق، قال تعالى: «له الملك و له الحمد»: التغابن - 1، و قال تعالى: «عند مليك مقتدر»: القمر - 55، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك و الملك.
و أما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال، و لو لم يملك لم يصح منه ذلك و لكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال تعالى: «و آتوهم من مال الله الذي آتاكم»: النور - 33.
و هو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: «قل أعوذ برب الناس ملك الناس»: الناس - 2، و قال تعالى: «و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»: إبراهيم - 34، و قال تعالى: «و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه»: الحديد - 7، و قال تعالى: «و ما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله و لله ميراث السموات و الأرض»: الحديد - 10، و قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن - 16، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا و يملكه معنا و سيراه بعدنا عز ملكه.
و من التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى: اللهم مالك الملك، مسوق: أولا: لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم و مالكية الملك بالضم هو الملك على الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى: «أن آتاه الله الملك»: البقرة - 258، و قال تعالى: «و آتيناهم ملكا عظيما»: النساء - 54.
و ثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبرياؤه و هو ظاهر.
و ثالثا: أن المراد بالملك في الآية الشريفة و الله أعلم ما هو أعم من الحقيقي و الاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء على ما سنوضحه من شئون الملك الاعتباري و ما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا.
قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء، الملك بإطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن الملك كما تقدم بيانه في قوله: «أن آتاه الله الملك «الآية»: البقرة - 258 في نفسه موهبة من مواهب الله و نعمة يصلح لأن يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني و قد جبل الله النفوس على حبه و الرغبة فيه، و الملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، و إنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا و غصبا، و إما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، و يرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول.
و بوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، و بالنسبة إلى غير أهله نقمة و هو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه و فتنة يمتحن به عباده.
و قد تقدم: أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه و إن جرى فعله على المصلحة دائما.
قوله تعالى: و تعز من تشاء و تذل من تشاء، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله، و لذا يقال للشيء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، و يقال عزيز القوم لمن يصعب قهره و الغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر و الغلبة، و صعب المنال من حيث مقامه فيهم و وجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل صعوبة كما يقال: يعز علي كذا.
قال تعالى: «عزيز عليه ما عنتم»: التوبة - 128، أي صعب عليه.
و استعمل في كل غلبة كما يقال.
من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: «و عزني في الخطاب»: (صلى الله عليه وآله وسلم) - 23، أي غلبني و الأصل في معناه ما مر.
و يقابله الذل و هو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: «ضربت عليهم الذلة و المسكنة»: البقرة - 61، و قال تعالى: «و اخفض لهما جناح الذل»: الإسراء - 24، و قال تعالى أذلة على المؤمنين»: المائدة - 54.
و العزة من لوازم الملك على الإطلاق و كل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك و ملكه، و إن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا و ما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه و إفضاله.
قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا»: النساء - 139 و قال تعالى: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: المنافقون - 8 و هذه هي العزة الحقيقية و أما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز.
قال تعالى: «بل الذين كفروا في عزة و شقاق»: ص - 2 و لذا أردفه بقوله «كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص»: ص - 3.
و للذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى تعز من تشاء و تذل من تشاء.
قوله تعالى: بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب و إنما نسمي الشيء خيرا لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير و لا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده و نقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة، و إن كنا أردناه أيضا لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، و غيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، و هو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها و ترددنا في اختياره من بينها.
فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شيء آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير و لذا قيل: إنه صيغة التفضيل و أصله أخير.
و ليس بأفعل التفضيل، و إنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، و زيد أفضلهما، و يقال: زيد خير من عمرو، و زيد خيرهما.
و لو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، و يقال أفضل و أفاضل و فضلى و فضليات، و لا يجري ذلك في خير بل يقال: خير و خيرة و أخيار و خيرات كما يقال: شيخ و شيخة و أشياخ و شيخات فهو صفة مشبهة.
و مما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: «قل ما عند الله خير من اللهو»: الجمعة - 11، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل، و قد اعتذروا عنه و عن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، و هو كما ترى.
فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، و اشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.
و يظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء، و يرجع إليه كل شيء، و يطلبه و يقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، و إنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: «و الله خير و أبقى»: طه - 73، و كقوله تعالى: «أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار»: يوسف - 39.
نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: «و الله خير الرازقين»: الجمعة - 11، و قوله: «و هو خير الحاكمين»: الأعراف - 87، و قوله «و هو خير الفاصلين»: الأنعام - 57، و قوله: «و هو خير الناصرين»: آل عمران - 150، و قوله «و الله خير الماكرين»: آل عمران - 54، و قوله: «و أنت خير الفاتحين»: الأعراف - 89، و قوله: «و أنت خير الغافرين»: الأعراف - 155، و قوله: «و أنت خير الوارثين»: الأنبياء - 89، و قوله: «و أنت خير المنزلين»: المؤمنين - 29، و قوله: «و أنت خير الراحمين»: المؤمنون - 109.
و لعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق و قد عنت الوجوه لجنابه، و أما التسمية عند الإضافة و النسبة، و كذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.
و الجملة أعني قوله تعالى: بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام و تقديم الظرف الذي هو الخبر، و المعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، و أنت المعطي المفيض إياه.
فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء «الخ» من قبيل تعليل الخاص بما يعمه و غيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك و العزة، و هو ظاهر.
و كما يصح تعليل إيتاء الملك و الإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك و الإذلال فإنهما و إن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد و قبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان و عدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.
و بالجملة هناك خير و شر تكوينيان كالملك و العزة و نزع الملك و الذلة، و الخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، و الشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير و لا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر و له الحمد، و إن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن إعطاءه و منعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.
و هناك خير و شر تشريعيان و هما أقسام الطاعات و المعاصي، و هما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، و لا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا، و هذه النسبة هي الملاك لحسنها و قبحها و لو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن و لا قبح، و هي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى و عدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
فقد تبين: أن الخير كله بيد الله و بذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل وجدان و حرمان و خير و شر.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: بيدك الخير إيجازا بالحذف، و التقدير: بيدك الخير و الشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: «و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر»: النحل - 81، أي و البرد.
و كان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: و هو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، و المعتزلة و إن أخطئوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، و قد تقدم البحث عن ذلك و بيان حقيقة الأمر.
قوله تعالى: إنك على كل شيء قدير في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى إياه على ذلك، و لو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شيء، و إذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، و كان أيضا كل خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده، و هذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: بيدك الخير.
قوله تعالى: تولج الليل في النهار و تولج النهار في الليل، الولوج هو الدخول، و الظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، و إيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع و الأمكنة على بسيط الأرض، و اختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول و الليالي في القصر و هو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول و الأيام في القصر و هو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء، كل ذلك في البقاع الشمالية، و الأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار و النهار في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء و القطبين فإنما هو بحسب الحس و أما في الحقيقة فحكم التغيير دائم و شامل.
قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي و ذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر، و إخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة و نورا و الكفر موتا و ظلمة كما قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام - 122، و يمكن أن يراد الأعم من ذلك و من خلق الأحياء كالنبات و الحيوان من الأرض العديمة الشعور و إعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي و الحي إلى الميت، قال تعالى: «ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون»: المؤمنون - 15، إلى غيرها من الآيات.
و أما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور، و ذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما، و لبقية الكلام مقام آخر.
و الآية أعني قوله تعالى «تولج» الليل في النهار الخ تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء «الخ» تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي و توابعه.
و قد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك و نزعه و بحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار و عكسه، و وضع الإعزاز و الإذلال و بحذائهما إخراج الحي من الميت و عكسه، و في ذلك من عجيب اللطف و لطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم و إطلاقهم الغريزي و إذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، و نزع الملك بالعكس من ذلك، و كذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج الحي من الميت، و الإذلال بالعكس من ذلك، و في العزة حيوة و في الذلة ممات.
و هنا وجه آخر: و هو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة و الليل آية ممحوة قال تعالى: «فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة»: الإسراء - 12، و مظهر هذا الإثبات و الإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك و السلطنة و زواله، و عد الحيوة و الموت مصدرين للآثار من العلم و القدرة كما قال تعالى: «أموات غير أحياء و ما يشعرون أيان يبعثون: النحل - 21، و خص العزة لنفسه و لرسوله و للمؤمنين حيث قال: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: المنافقون - 8، و هم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة و الذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة و الموت، و لهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك و نزعه و الإعزاز و الإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار و عكسه و إخراج الحي من الميت و عكسه.
ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: و ترزق من تشاء بغير حساب، و ما ذكره في الآية الأولى: بيدك الخير، كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: و ترزق «الخ» بيانا لما سبقه من إيتاء الملك و العز و الإيلاج و غيره، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: بيدك الخير، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، و المعنى: أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.
معنى الرزق في القرآن
الرزق معروف و الذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي و يقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، و كان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: «و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف،: البقرة - 233، فلم يعد الكسوة رزقا.
ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ و الجد و إن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا و إن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحيوة من مال و جاه و عشيرة و أعضاد و جمال و علم و غير ذلك، قال تعالى: «تسألهم خرجا فخراج ربك خير و هو خير الرازقين»: المؤمنون - 72، و قال فيما يحكي عن شعيب «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و رزقني منه رزقا حسنا: هود - 88، و المراد به النبوة و العلم، إلى غير ذلك من الآيات.
و المتحصل من قوله تعالى: «إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين»: الذاريات - 58، و المقام مقام الحصر: أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: «و الله خير الرازقين»: الجمعة - 11، حيث أثبت رازقين و عده تعالى خيرهم، و قوله: «و ارزقوهم فيها و اكسوهم»: النساء - 5، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك و العزة لله تعالى لذاته و لغيره بإعطائه و إذنه فهو الرزاق لا غير.
و ثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم و الله رازقه، و يدل على ذلك - مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها - آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق و الأمر و الحكم و الملك بكسر الميم و المشية و التدبير و الخير لله محضا عز سلطانه.
و ثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع.
قال تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون»: الأعراف - 28، و قال تعالى: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان إلى أن قال: و ينهى عن الفحشاء و المنكر»: النحل - 90 و حاشاه سبحانه أن ينهى عن شيء ثم يأمر به أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه.
و لا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع و كونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، و ما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين، و ليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، و في القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون.
قال تعالى: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: الإسراء - 82.
على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود و فرعون و الأموال و الزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا و إتماما للحجة و خذلانا و استدراجا و نحو ذلك و هذا كله نسب تشريعية، و إذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن و القبح العقلائيين فيها أوضح.
ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر - 21، و ذكر أيضا أن ما عنده فهو خير.
قال تعالى: «و ما عند الله خير»: القصص - 60، و انضمام الآيتين و ما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم و يتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه و هو خير له ينتفع به و يتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة - 7، مع قوله تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو»: المؤمن - 64.
و أما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته و إضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين و بالنسبة إلى علله و أسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: «و ما أصابك من سيئة فمن نفسك»: النساء - 79، و قد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.
و بالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير و كله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، و ربما أشار إليه قوله تعالى و رزق ربك خير»: طه - 131.
و من هنا يظهر أن الرزق و الخير و الخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير و مخلوق، و كل خلق رزق و خير، و إنما الفرق: أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، و الغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، و الواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، و كذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه:» طه - 50.
و الخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه و تختاره إذا أصابته، و القوة الغاذية خير للإنسان، و وجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا.
و أما الخلق و الإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، و كذا القوة الغاذية مخلوقة، و الإنسان مخلوق.
و لما كان كل رزق لله، و كل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، و ما أفاضه من خير و ما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، و بلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا، و لا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: «و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها»: هود - 6، و قال: «فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون»: الذاريات - 23.
فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.
و من هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه و يعاقبه عليه.
و توضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه، و كما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن و كافر، و متق و فاجر، و إنسان و غير إنسان، و رحمة خاصة و هي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان و التقوى و الجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، و هو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، و منه ما هو رزق خاص، و هو الواقع في مجرى الحل.
و كما أن الرحمة العامة و الرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان - 2، كذلك الرحمة الخاصة و الرزق الخاص مكتوبان مقدران، و كما أن الهدى - و هو رحمة خاصة - مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، و لذلك أرسل الرسل و أنزل الكتب، قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين»: الذاريات - 58، و قال تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه»: الإسراء - 23، فالعبادة و هي تستلزم الهدى و تتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا، كذلك الرزق الخاص - و هو الذي عن مجرى الحل - مقضي مقدر، قال تعالى: «قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم و حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين»: الأنعام - 140، و قال تعالى «و الله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء»: النحل - 71، و الآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر و المؤمن و من يرتزق بالحلال و من يرتزق بالحرام.
و من الواجب أن يعلم: أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال و هو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله و الزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق و ضيقه غير كثرة المال مثلا و قلته، و للكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين»: هود - 6.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض و لا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.
و أما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود و لا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»: القمر - 49، و قوله: «و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق - 3، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.
و قد تحصل من الآيتين أولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر الميم كله لله.
و ثانيا: أن الخير كله بيده و منه تعالى.
و ثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض و استحقاق.
و رابعا أن الملك و العزة و كل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال و الجاه و القوة و غير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.
بحث روائي
في الكافي، عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قل اللهم مالك الملك - تؤتي الملك من تشاء - و تنزع الملك ممن تشاء أ ليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب، إن الله عز و جل آتانا الملك، و أخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه: أقول: و روى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام): و إيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني، و هو انبساط السلطنة على الناس، و نفوذ القدرة فيهم، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود: «أن آتاه الله الملك» و أثره نفوذ الكلمة و مضي الأمر و الإرادة، و سنبحث عن معنى كونه تكوينيا، و إيتاء تشريعي، و هو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى: «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا»: البقرة - 247، و أثره افتراض الطاعة، و ثبوت الولاية، و لا يكون إلا العدل، و هو مقام محمود عند الله سبحانه، و الذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الأول و أثره و قد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأول و أخذ معه أثر المعنى الثاني و هو المقام الشرعي، و الحمد الديني فنبهه (عليه السلام) أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم و لهم أثره، و بعبارة أخرى: الملك الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم (عليهم السلام)، و أما في أيدي بني أمية فليس إلا مذموما لأنه مغصوب و على هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر و الاستدراج كما في ملك نمرود و فرعون.
و قد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الإرشاد، في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رءوس شهداء الطف قال المفيد: و لما وضعت الرءوس و فيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد: نفلق هاما من رجال أعزة.
علينا و هم كانوا أعق و أظلما.
قال: ثم أقبل على أهل مجلسه فقال: إن هذا كان يفخر علي و يقول: أبي خير من أب يزيد، و أمي خير من أمه، و جدي خير من جده، و أنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، و أما قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، و أما قوله: جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد، و أما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية: قل اللهم مالك الملك الآية.
و ردت زينب بنت علي (عليه السلام) عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام) في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس و غيره: فقالت فيما خاطبته: أ ظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا و بك عليه كرامة، و إن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، و الأمور متسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، مهلا مهلا، أ نسيت قول الله: و لا يحسبن الذين كفروا - أنما نملي لهم خير لأنفسهم - إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين الخطبة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت الآية، قيل معناه: و تخرج المؤمن من الكافر و تخرج الكافر من المؤمن، قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روى قريبا منه الصدوق عن العسكري (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي قال: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن و فيه، أيضا بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما خلق الله آدم (عليه السلام) أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة و لا أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال. هؤلاء أهل النار و لا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله: تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي.
أقول: و روي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا، و الرواية من أخبار الذر و الميثاق، و سيجيء بيانها في موضع يليق بها إن شاء الله.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال، و حوسب عليه.
و في النهج، قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و لن يبطىء عنك ما قد قدر لك.
و في قرب الإسناد:، ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها، و لكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و سيجيء استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إن شاء الله تعالى.
بحث علمي
قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة: أن اعتبار أصل الملك بالكسر من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا، و أن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك بالكسر.
و أما الملك بالضم و هو السلطنة على الأفراد فهو أيضا من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتداء هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متباينة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الأفراد المجتمعين لتباين إراداتهم و اختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم، و التعدي على حومة حدودهم و هضم حقوقهم فيقع الهرج و المرج، و يصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء و الهلاك، و يعود الدواء داء، و لا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط، و ترفع الدانية المستهلكة إليه أيضا فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص و تعطي كل ذي حق حقه.
و لما لم تكن الإنسانية في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية و التملك على النفوس و الأموال، و كانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه - و هو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض - يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة و إن كانوا هم أنفسهم و أعضادهم و جلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي، و ذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة و الاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.
و بالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي و إنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين إذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم و يتظلمون و يشتكون إذا بلغ بهم الجهد، و حمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.
نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك و الرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك، و أحسوا بالفتنة و الفساد، و هددهم اختلال النظم و وقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض أولي الطول و القوة منهم، و ألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي و التحميل.
و لم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي و إطلاقهم فيما يشاءون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم و أجبرت الملوك باتباعها و صار الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا، و اتحد الناس على التحفظ على ذلك، و كان الملك موروثا.
ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم و سوء سيرهم و لا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك، و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط، و ربما وجد في الأقوام و الأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم، و ربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.
لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعي التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها، و يجمع شتات إراداتها المتضادة و قواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام و هو مقام الملك و إن تغيرت أسماؤه، و تبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم، و مرور الأيام فإن طروق الهرج و المرج، و اختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات و المقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.
و هذا هو الذي تقدم في أول الكلام أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني.
و هو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها و إصلاحها و رفع نواقصها و آثارها المضادة لسعادة الإنسانية.
و للنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع: أن انتشار قول ما من الأقوال بين العامة و خاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة، و يستحسنه القريحة، و يطمئن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة و جعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض و تبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شيء.
و من الضروري: أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل، و تمنعهم عن الظلم، و تندبهم إلى عبادة الله و التسليم له، و تنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين، و النماردة المستكبرين المتغلبين، و لم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل، و أمة بعد أمة و إن اختلفت بحسب السعة و الضيق باختلاف الأمم و الأزمنة، و من المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوي بين الاجتماعات الإنسانية قرونا متمادية و هو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.
و قد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه: «رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا و مكروا مكرا كبارا و قالوا لا تذرن آلهتكم»: نوح - 23، و كذا ما وقع بينه و بين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن، قال تعالى: «قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون»: الشعراء - 113، و قول هود (عليه السلام) لقومه: «أ تبنون بكل ريع آية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون و إذا بطشتم بطشتم جبارين»: الشعراء - 130، و قول صالح (عليه السلام) لقومه: «فاتقوا الله و أطيعون و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون»: الشعراء - 152.
و لقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل و معارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة، و انتهض قبله إبراهيم (عليه السلام) لمعارضة نمرود و من بعده عيسى بن مريم (عليهما السلام) و سائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك و العظماء، و تقبيح سيرهم الظالمة، و دعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين و اتباع الطاغين.
و أما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد و الإباء عن الضيم، و إنباؤه عن عواقب الظلم و الفساد و العدوان و الطغيان مما لا يخفى قال تعالى: «أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد»: الفجر - 14، إلى غير ذلك من الآيات.
و أما أن الملك بالضم من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين»: البقرة - 251، و قد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام.
و في القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك و الولاية و افتراض الطاعة و نحو ذلك، و أخرى تعده نعمة و موهبة كقوله تعالى: «و آتيناهم ملكا عظيما»: النساء - 54، و قوله تعالى: «و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين»: المائدة - 20، و قوله تعالى: «و الله يؤتي ملكه من يشاء»: البقرة - 247، إلى غير ذلك من الآيات.
غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شيء من الكرامة من مزايا الحيوة، قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»: الحجرات - 13، و التقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشيء لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لأمر دنيوي، و لا قدر إلا للدين و إن كان أمرا أخرويا فأمره إلى الله سبحانه، و على الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد و مشقة التقلد و الأعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر و مزيد الثواب إن لازم صراط العدل و التقوى.
و هذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين، و سنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة، و أنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض و يعارضوهم في طغيانهم و استكبارهم.
و لذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك، و تشييد بنيان القيصرية و الكسروية، و إنما تلقى الملك شأنا من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار.
بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع و الاتحاد و الاتفاق على الدين، و نهاهم عن التفرق و الشقاق فيه، و جعله هو الأصل، فقال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»: الأنعام - 153، و قال تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»: آل عمران - 64، فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده و يعتبر من المجتمع المجتمع الديني، و يدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد، و الخضوع لكل قصر مشيد، و منتدى رفيع و ملك قيصري و كسروي و التفرق بإفراز الحدود و تفريق الأوطان و غير ذلك.
بحث فلسفي
لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم، و إن الرابطة بينه و بين العالم جزءا و كلا هي رابطة العلية، و قد تبين في أبحاث العلة و المعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته، و أما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح و الصدور و الافتقار إلى العلة، و ينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول و لا منته إلى الواجب تعالى.
و يشكل الأمر في استناد الأمور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها و ثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار و الوضع و حيطة الفرض، و ما يشتمل عليه الشريعة من الأمر و النهي و الأحكام و الأوضاع كلها أمور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى، و كذا أمثال الملك و العز و الرزق و غير ذلك.
و الذي تحل به العقدة أنها و إن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثارا هي الحافظة لأسمائها كما مر مرارا، و هذه الآثار أمور حقيقية مقصودة بالاعتبار و لها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع و إن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي، و إنما هو معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لو لا فرض هذا المعنى الموهوم و تقديره، و هي قهر المتغلبين و أولي السطوة و القوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء و الخاملين، و وضع كل من الأفراد في مقامه الذي له، و إعطاء كل ذي حق حقه، و غير ذلك.
لكن لما كان حقيقة معنى الملك و اسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه، و كذلك القول في العزة الاعتبارية، و آثارها الخارجية و استنادها إلى عللها الحقيقة، و كذلك الأمر في غيرها كالأمر و النهي و الحكم و الوضع و نحو ذلك.
و من هنا يتبين: أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه و عزه.
|