بيان
افتتاح لقصص عيسى بن مريم و ما يلحق بها و ذكر حق القول فيها، و الاحتجاج على أهل الكتاب فيها، و بالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.
قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم و نوحا إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى: «لقد اصطفيناه في الدنيا»: البقرة - 130، أخذ صفوة الشيء و تخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، و ينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، و هو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.
لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، و لو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، و أفاد اختصاص الإسلام بهم و اختل معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار و تقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
و من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: «و إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين: آل عمران - 42، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء.
و قد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم و نوحا، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»: البقرة - 30، و أول من فتح به باب التوبة.
قال تعالى: «ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى»: طه - 122، و أول من شرع له الدين، قال تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى الآيات»: طه - 123، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، و يا لها من منقبة له (عليه السلام).
و أما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب و الشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة - 213، و هو الأب الثاني لهذا النوع، و قد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى: «و جعلنا ذريته هم الباقين و تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين»: الصافات - 79.
ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم و آل عمران من هؤلاء المصطفين، و الآل خاصة الشيء، قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، و يصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات و دون الأزمنة و الأمكنة، يقال آل فلان و لا يقال: آل رجل و آل زمان كذا، أو موضع كذا، و لا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله و آل السلطان، و الأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهل الله و أهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا و بلد كذا، و قيل هو في الأصل اسم الشخص و يصغر أويلا، و يستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران خاصتهما من أهلهما و الملحقين بهما على ما عرفت.
فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق و إسرائيل و الأنبياء من بني إسرائيل و إسماعيل و الطاهرون من ذريته، و سيدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام)، و على أي تقدير هو من ذرية إبراهيم و كذا آله و قد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.
و قد قال الله تعالى فيما قال: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما»: النساء - 54، و الآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل و ذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها و ما يحتف بها من الآيات، و من ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق و يعقوب و ذرية يعقوب و هم أي ذرية يعقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و فيهم النبي و آله.
على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية.
على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا» الآية: آل عمران - 68، و قوله تعالى: «و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا إلى أن قال: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم الآيات»: البقرة - 129.
فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و الآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم و اصطفاء موسى و سائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق و بين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم و سمو شأنهم و علو مقامهم، و هي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه.
و كذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على العالمين»: الجاثية - 16، كل ذلك ظاهر.
و لا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، و لا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، و لو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، و هو ظاهر.
و لا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين و فضل بعضهم على بعض، قال تعالى: «و كلا فضلنا على العالمين»: الأنعام - 86، و قال أيضا: «و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض»: إسراء - 55.
و أما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران و مريم ابنة عمران، و قد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، و لم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، و هذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم (عليها السلام) و على هذا فالمراد بآل عمران هو مريم و عيسى (عليهما السلام) أو هما و زوجة عمران.
و أما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.
قوله تعالى: ذرية بعضها من بعض، الذرية - في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد و هو المعنى المراد في الآية، و هي منصوبة عطف بيان.
و في قوله: بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدىء و ينتهي من البعض الآخر و إليه.
و لازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه و حالاته، و إذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف و لا لعب في الأفعال الإلهية، و منها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.
قوله تعالى: و الله سميع عليم، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم و ما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله: ذرية بعضها من بعض، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة، فالمحصل من الكلام: أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، و إنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب و ثبات القول بالحق، و إنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم و يعلم ما في قلوبهم.
بحث روائي
في العيون، في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم - و آل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث.
و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر (عليه السلام): من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه، يريد ما يشاء و يفعل ما يريد، قال الله: ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم، آخرها من أولها و أولها من آخرها فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن و كان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه.
أقول: و فيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله: ذرية بعضها من بعض الآية.
و فيه، أيضا عن الباقر (عليه السلام): أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم و نحن بقية تلك العترة.
أقول: قوله (عليه السلام): و نحن بقية تلك العترة، العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشيء، و منه العترة للأولاد و الأقارب الأدنين ممن مضى، و بعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة، و منه يظهر أنه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرية بعضها من بعض، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم و آل عمران، و من هنا يظهر النكتة في ذكر آدم و نوح مع آل إبراهيم و عمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.
|