بيان
قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب.
و التحرير هو الإطلاق عن وثاق، و منه تحرير العبد عن الرقية، و تحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن و الفكر.
و التقبل هو القبول عن رغبة و رضى كتقبل الهدية و تقبل الدعاء و نحو ذلك.
و في قوله: قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا، و أن حملها كان من عمران، و لا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ و إلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم» الآية: آل عمران - 44، على ما سيجيء من البيان.
و من المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريرا عن الرقية و إنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته و استعماله في مقاصدهما و افتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، و إذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده و يخدمه، أي يخدم في البيع و الكنائس و الأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، و قد قيل: إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: و لا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها و يخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة و الرواح فإن أحب أن يقيم أقام، و إن أحب الرواح ذهب لشأنه.
و في الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجي ربها عن جزم و قطع من غير اشتراط و تعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محررا من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا و نحو ذلك.
و ليس تذكير قوله: محررا، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر و المؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزنا و تحسرا لما وضعتها رب إني وضعتها أنثى، و لا وجه ظاهر لقوله تعالى: و الله أعلم بما وضعت و ليس الذكر كالأنثى، على ما سيجيء بيانه.
و في حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب و نحوه فكل ذلك ظن، و الظن لا يغني من الحق شيئا، و كلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله، و قد قال تعالى: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد»: الرعد - 8، و قال تعالى: «عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام»: لقمان - 34، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، و قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى»: الجن - 27، فجعل علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، و لذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم و قطع: و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية و لا سبيل إلى العلم به ظاهرا.
و مفعول قولها: فتقبل مني، و إن كان محذوفا محتملا لأن يكون هو.
نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.
قوله تعالى: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، و المعنى فلما وضعت ما في بطنها و تبينت أنه أنثى قالت: رب إني وضعتها أنثى، و هو خبر أريد به التحسر و التحزن دون الإخبار و هو ظاهر.
قوله تعالى: و الله أعلم بما وضعت و ليس الذكر كالأنثى، جملتان معترضتان و هما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، و لا أن الثانية مقولة لها و الأولى مقولة لله.
أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إني وضعتها أنثى، مسوقا لإظهار التحسر كان ظاهر قوله: و الله أعلم بما وضعت، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه و أرضى طريق، و لو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر و لم تحزن ذاك التحسر و التحزن و الحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى التي وهبناها لها، و يترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه و الأبرص و محييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة الله و تلد ولدا بغير أب، و تجعل هي و ابنها آية للعالمين، و يكلم الناس في المهد، و يكون روحا و كلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة و خلق ابنها عيسى (عليه السلام).
و من هنا يظهر: أن قوله: و ليس الذكر كالأنثى، مقول له تعالى لا لامرأة عمران، و لو كان مقولا لها لكان حق الكلام أن يقال: و ليس الأنثى كالذكر لا بالعكس و هو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه و أردأ إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه و أبتغيه، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، و لا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة، و ظهر من ذلك أن اللام في الذكر و الأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد.
و قد أخذ أكثر المفسرين قوله: و ليس الذكر كالأنثى، تتمة قول امرأة عمران، و تكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع إلى كتبهم.
قوله تعالى: و إني سميتها مريم و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم، معنى مريم في لغتهم العابدة و الخادمة على ما قيل، و منه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، و وجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة و خدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية و أعدتها بالتسمية للعبادة و الخدمة.
فقولها: و إني سميتها مريم بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك، و الدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن و أنبتها نباتا حسنا الآية.
ثم أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة و الخدمة و يطابق اسمها المسمى.
و الكلام في قولها: و ذريتها، من حيث إنه قول مطلق من شرط و قيد لا يصح انتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها رب إني نذرت لك ما في بطني محررا، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا صالحا ثم لما حملت و توفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود، ثم لما وضعتها و بان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، و سمتها مريم العابدة، الخادمة و أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.
قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن و أنبتها نباتا حسنا، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى قولنا: فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام، و لما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
و حيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: فتقبلها إلى قوله: حسنا، الجملتان في قولها: و إني سميتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبلها ربها بقبول حسن، قبولا لقولها و إني سميتها مريم، و قوله: و أنبتها نباتا حسنا، قبولا و إجابة لقولها: و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر، و إعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر و هو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم و محررة فيعود معناه إلى اصطفائها و قد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه فافهم ذلك.
و المراد بإنباتها نباتا حسنا إعطاء الرشد و الزكاة لها و لذريتها، و إفاضة الحيوة لها و لمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان و رجس تسويله و وسوسته، و هو الطهارة.
و هذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، و النبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: و إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك الآية و سنوضحه بيانا إن شاء الله العزيز.
فقد تبين أن اصطفاء مريم و تطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفاءها على نساء العالمين في ولادة عيسى، و كونها و ابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: و ليس الذكر كالأنثى.
قوله تعالى: و كفلها زكريا، و إنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، الآية.
قوله تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا «الخ» المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد و البيت، قال الراغب: و محراب المسجد، قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان و الهوى، و قيل: سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا و من توزع الخاطر، و قيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به و قيل: بل المحراب أصله في المسجد و هو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد، و كان هذا أصح، قال عز و جل: يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل، انتهى.
و ذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة، و يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد.
أقول: و إليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإسلام.
و في تنكير قوله: رزقا، إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل: إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، و فاكهة الصيف في الشتاء، و يؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود، و كان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها: هو من عند الله إن الله يرزق «الخ» في جواب قوله: يا مريم أنى لك هذا، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيىء.
على أن قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه «الخ»، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة، فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة، و مما يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم «الخ» على ما سيجيء من البيان.
و قوله: قال يا مريم أنى لك «الخ» فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقا، يدل على أنه (عليه السلام) إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به و استيقن أن ذلك كرامة لها و هنالك دعا و سأل ربه ذرية طيبة.
قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة «الخ»، طيب الشيء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء و الهواء و الرزق و نحو ذلك، قال تعالى: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه»: الأعراف - 58، و العيشة الطيبة و الحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا و يسكن إليها قلب صاحبها و منه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته و أفعاله ما عند أبيه من الرجاء و الأمنية فقول زكريا (عليه السلام): رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم و خصوص كرامتها على الله و امتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا و كرامة، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله و الشخصية في نفسها، و لذلك استجيب في عين ما سأله من الله، و وهب له يحيى و هو أشبه الأنبياء بعيسى (عليه السلام)، و أجمع الناس لما عند عيسى و أمه مريم الصديقة من صفات الكمال و الكرامة، و من هنا ما سماه تعالى بيحيى و جعله مصدقا بكلمة من الله و سيدا و حصورا و نبيا من الصالحين، و هذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم و ابنها عيسى (عليه السلام) على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: فنادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة و الخطاب لزكريا، و البشرى و الإبشار و التبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.
و قوله: إن الله يبشرك بيحيى، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم، قال تعالى: «يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا»: مريم - 7.
و تسميته بيحيى و كون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى و خلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا: أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولدا يكون شأنه شأن مريم، و قد كانت مريم هي و ابنها عيسى (عليه السلام) آية واحدة كما قال تعالى: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين»: الأنبياء - 91.
فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، و قد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام و المحاذاة الكاملة مع عيسى (عليه السلام) فيما يمكن ذلك، و لعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، و لذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة و كتاب و غير ذلك لكنهما تشابها و تشابه أمرهما فيما يمكن.
و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى: «يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا إلى أن قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا و حنانا من لدنا و زكوة و كان تقيا و برا بوالديه و لم يكن جبارا عصيا و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا»: مريم - 15، و قال في عيسى (عليه السلام): «فأرسلنا إليها روحنا إلى أن قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا - إلى أن قال -: قال ربك هو علي هين و لنجعله آية للناس و رحمة منا - إلى أن قال -: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما كنت و أوصاني بالصلوة و الزكوة ما دمت حيا و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا»: مريم - 33، و يقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.
و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى و سمى ابن مريم عيسى و هو بمعنى «يعيش» على ما قيل و جعله مصدقا بكلمة منه و هو عيسى كما قال تعالى: «بكلمة منه اسمه المسيح عيسى» و آتاه الحكم و علمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى، و عده حنانا من لدنه و زكاة و برا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، و سلم عليه في المواطن الثلاث كعيسى و عده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده، و جعله حصورا و نبيا و من الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا و دعوته حيث سأل ذرية طيبة و وليا رضيا عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم و عجيب شأنها و كرامتها على الله كما مر بيانه.
و في قوله: مصدقا بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.
و السيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس و جماعتهم في أمر حيوتهم و معاشهم أو فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى.
و الحصور هو الذي لا يأتي النساء و المراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهدا.
قوله تعالى: قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني الكبر و امرأتي عاقر استفهام تعجيب و استعلام لحقيقة الحال لا استبعاد و استعظام مع تصريح البشارة بذلك و أن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب و الاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال: «رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا»: مريم - 5.
لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه (عليه السلام) لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم و تذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا و قد سأل ربه ما سأل و قد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره و تحزنه و هو بلوغ الكبر، و كون امرأته عاقرا، فلما استجيبت دعوته و بشر بالولد كأنه صحا و أفاق مما كان عليه من الحال، و أخذ يتعجب من ذلك و هو بالغ الكبر و امرأته عاقر، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس و سيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.
على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة و استعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة و الإنعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى: و نبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أ بشرتمون على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون»: الحجر - 56، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف و هو غير ضال و القنوط ضلالة، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب و الأنس و الكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد و ابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث و تمتعه في كل باب.
و في قوله: و قد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة و الهرم.
و قد اجتمعت في امرأته الكبر و العقر معا فإن ذلك ظاهر قوله: و كانت امرأتي عاقرا، و لم يقل: و امرأتي عاقر.
قوله تعالى: قال كذلك الله يفعل ما يشاء، فاعل قال و إن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك و قد نسب إليه تعالى لأنه بأمره، و الدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة: «قال كذلك قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا»: مريم - 9.
و منه يظهر أولا: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا.
و ثانيا: أن قوله: كذلك، خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة، و فيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى: «قال كذلك قال ربك هو علي هين إلى أن قال -: و كان أمرا مقضيا»: مريم - 21، و ثالثا: أن قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك اه.
قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا إلى آخر الآية، قال في المجمع، الرمز الإيماء بالشفتين، و قد يستعمل في الإيماء بالحاجب و العين و اليد، و الأول أغلب، انتهى، و العشي الطرف المؤخر من النهار، و كأنه مأخوذ من العشوة و هي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة، و الإبكار صدر النهار و الطرف المقدم منه، و الأصل في معناه الاستعجال.
و وقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه و بين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده: «فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا»: مريم - 26.
و سؤاله (عليه السلام) من ربه أن يجعل له آية و الآية هي العلامة الدالة على الشيء - هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه، و بعبارة أخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته، و يعلم وقت الحمل، خلاف بين المفسرين.
و الوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات و جريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك و وسوسة الشيطان، و لا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.
و هو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم و استقلال ذواتهم، و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ و أي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعاءه و لم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله.
على أن خصوصية نفس الآية - و هي عدم التكليم ثلاثة أيام - تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان و إن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين و استقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى: «و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب»: ص - 41، و قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» الآية: الحج - 52، و قوله تعالى: «فإني نسيت الحوت و ما أنسانيه إلا الشيطان: الكهف - 63.
لكن هذه و أمثالها من مس الشيطان و تعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي و أما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك و قد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم (عليهم السلام).
و الذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله آيتك أن لا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا و اذكر ربك كثيرا و سبح بالعشي و الإبكار هو أنه كان لا يقدر ثلاثة أيام على تكليم أحد و يعتقل لسانه إلا بذكر الله و تسبيحه، و هذه آية واقعة على نفس النبي و لسانه و تصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا و هذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.
فإن قلت لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني الكبر و امرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإن ظاهره أنه خاطب ربه و سأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في أمر النداء؟ و لو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟.
قلت: مراتب الركون و الاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا و طمأنينة.
و مما يؤيد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة، فإن النداء إنما يكون من بعيد و لذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، و ليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا: مريم - 3 فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا: و تواضعه قبال تعزز الله سبحانه و ترفعه و تعاليه، ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه، و إنما سمع صوتا يهتف به هاتف.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلاثة أيام، و الانقطاع فيها إلى ذكر الله و تسبيحه دون اعتقال لسانه، قال: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه و يبشر أهله فسأل عن الكيفية، و لما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، و يكون إتمامه إياها آية و علامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع إلى الذكر و التسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال، انتهى.
و أنت خبير بأنه ليس لما ذكره من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة، و انتهائها إلى حصول المقصود، و كون انتهائها هو الآية، و كون قوله: أن لا تكلم مسوقا للنهي التشريعي و كذا إرادته بشارة أهله في الآية عين و لا أثر.
كلام في الخواطر الملكية و الشيطانية و ما يلحق بها من التكليم
قد مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، و أن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام و قول سواء كان مفيدة صوتا واحدا أو أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإيماء و الرمز، و الناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاما و إن لم يخرج عن شق فم، و كذلك في تسمية الإيماء قولا و كلاما و إن لم يشتمل على صوت.
و القرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له و قولا منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: «و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام»: النساء - 119 و قال: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر»: الحشر - 16، و قال: «يوسوس في صدور الناس»: الناس - 5، و قال «يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول»: الأنعام - 112 و قال أيضا حكاية عن إبليس: «إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم»: إبراهيم - 22 و قال: «الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا و الله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا»: البقرة - 269، و من الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، و سميت بالأمر و القول و الوسوسة و الوحي و الوعد، و جميعها قول و كلام و لم تخرج عن شق فم و لا تحريك لسان.
و من هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة و الفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان، و قد سماه تعالى الحكمة، و مثلها قوله تعالى: «و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد - 28، و قوله: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السموات و الأرض»: الفتح - 4، و قد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى: «فيه سكينة من ربكم»: البقرة - 248، و كذا قوله: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون»: الأنعام - 125، و قد سمى الوسوسة رجزا فقال: «رجز الشيطان»: الأنفال - 11، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين و الملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
و هنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب» الآية: الشورى - 51، فسماه تكليما و قسمه إلى الوحي، و هو الذي لا حجاب فيه بينه و بين العبد المكلم، و إلى التكليم من وراء حجاب، هذه أقسام من الكلام لله سبحانه و للملائكة و الشياطين.
أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه و بين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان و بين ربه، و من المحال أن يقع هناك لبس، و هو ظاهر، و أما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
و أما الكلام الملكي و الشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، و يدعو إلى المغفرة و الفضل، و ينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه و سنة نبيه، و الخاطر الشيطاني يلازم تضيق الصدر، و شح النفس و يدعو إلى متابعة الهوى، و يعد الفقر، و يأمر بالفحشاء، و بالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب و السنة، و يخالف الفطرة.
ثم إن الأنبياء و من يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك و الشيطان و معرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم و إبراهيم و لوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز، و أما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين، و ينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي و هو ظاهر.
0340 3
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرىء الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذن الله، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك و هي أم مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاما فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، و ليس الذكر كالأنثى لا تكون البنت رسولا، يقول الله: و الله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران و وعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئا و كان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.
أقول: و روي قريبا منه في الكافي، عنه (عليه السلام) و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، في الآية عن الصادق (عليه السلام): أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى و ليس الذكر كالأنثى، إن الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، و المحرر لا يخرج من المسجد.
و فيه، عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد، و ليس الذكر كالأنثى في الخدمة، قال فشبت و كانت تخدمهم و تناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد.
أقول: و الروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها: أن قوله: و ليس الذكر كالأنثى، كلام لامرأة عمران لا له تعالى، و يبقى عليه وجه تقديم الذكر على الأنثى في الجملة، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه، و كذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، و قد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير و جعلها خادمة فليتأمل.
و في الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيا يوحى إليه، و يدل عليه ما في البحار، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن عمران أ كان نبيا؟ فقال نعم كان نبيا مرسلا إلى قومه، الحديث.
و تدل الرواية أيضا على كون اسم امرأة عمران: حنة، و هو المشهور، و في بعض الروايات: مرثار، و لا يهمنا البحث عن ذلك.
و في تفسير القمي،: في ذيل الرواية السابقة: فلما بلغت مريم صارت في المحراب، و أرخت على نفسها سترا، و كان لا يراها أحد، و كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنى لك هذا فتقول: هو من عند الله - إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام فلما أمسك لسانه و لم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله و ذلك قول الله رب اجعل لي آية.
أقول: و روى قريبا منه القمي في تفسيره، و قد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.
و بعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران و وجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، و كون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال: إن هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، و لا رسوله قالها، و لا هي مما يعرف بالرأي و لم يثبتها تاريخ يعتد به، و ليس هناك إلا روايات إسرائيلية و غير إسرائيلية، و لا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن و حمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.
و هو منه كلام من غير حجة، و الروايات و إن كانت آحادا غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، و الاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها، و الذي نقل منها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.
نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة و عكرمة: أن الشيطان جاء إلى زكريا و شككه في كون البشارة من الله تعالى، و قال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا «و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته» إنجيل لوقا 1 - 20.
بحث روائي آخر
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): ما من قلب إلا و له أذنان على إحداهما ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن: هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، و الملك يزجره عنها، و ذلك قول الله عز و جل: ما يلفظ من قول - إلا لديه رقيب عتيد عن اليمين و عن الشمال قعيد.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها، و تطبيقه (عليه السلام) الآية على الملك و الشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات و السيئات في رواية أخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به، و أنه متعدد عن يمين الإنسان و شماله، و أما أنه من الملائكة محضا أو ملك و شيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.
و فيه، أيضا عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرسول و عن النبي و عن المحدث، قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة، و النبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه، قلت فما علمه أن الذي في منامه حق؟ قال: يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق، و لا يعاين الملك، الحديث.
أقول: قوله: و الرسول يكون نبيا إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين و قد تقدم الكلام في معنى الرسالة و النبوة في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله» الآية: البقرة - 213.
و قوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، و أن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف، و قوله: يبينه الله «الخ» إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكي و الشيطاني بما بينه الله من الحق.
و في البصائر، عن بريد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة، قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم الأنبياء، الحديث.
أقول: و هو في مساق الحديث السابق، و بيانه (عليه السلام) واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف، و في قوله: لقد ختم الله «الخ» إشارة إلى ذلك، و سيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.
|