بيان
قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفيك و طهرك، الجملة معطوفة على قوله: إذ قالت امرأة عمران، فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: إن الله اصطفى، الآية.
و في الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة و هي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى آخر الآيات، و سيأتي الكلام في المحدث.
و قد تقدم في قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن الآية: أن ذلك بيان لاستجابة دعوة أم مريم: و إني سميتها مريم و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم، الآية و أن قول الملائكة لمريم: إن الله اصطفيك و طهرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة و المنزلة فارجع إلى هناك.
فاصطفاؤها تقبلها لعبادة الله، و تطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، و ربما قيل: إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة، و لا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.
قوله تعالى: و اصطفاك على نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى: إن الله اصطفى إلى قوله: على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، و أنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، و على هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.
و هل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية، و قوله تعالى: «و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية للعالمين»: الأنبياء - 91 و قوله تعالى: «و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدقت بكلمات ربها و كتبه و كانت من القانتين»: التحريم - 12، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أن هذا هو وجه اصطفائها و تقديمها على النساء من العالمين.
و أما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير و التصديق بكلمات الله و كتبه، و القنوت و كونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، و أما ما قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين، القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل، و السجدة معروفة.
و الركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
و لما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى اسم مفعول و توجيه فهمه نحو المنادي اسم فاعل كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد نبإ فاستمعي لهما و أصغي إليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة و هو ما لك عند الله، و الثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، و هو ما لله سبحانه عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية و شكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي «الخ» بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إن الله اصطفيك «الخ» أي إذا كان كذلك فاقنتي و اسجدي و اركعي مع الراكعين، و لا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، و إن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
قوله تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون»: يوسف - 102، و أما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
و يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: و ما كنت لديهم إذ يلقون «الخ».
على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قومه كانوا أميين غير عالمين بهذه القصص و لا أنهم قرءوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح: «تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا»: هود - 49، و الوجه الأول أوفق بسياق الآية.
قوله تعالى: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم «الخ»، القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة، و يسمى سهما أيضا، و جمعه أقلام، فقوله: يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.
و في هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله: و ما كنت لديهم إذ يختصمون إنما هو اختصامهم و تشاحهم في كفالة مريم، و أنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله: و كفلها زكريا، الآية.
و ربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام و الاقتراع بعد كبرها و عجز زكريا عن كفالتها، و كان منشؤه ذكر هذا الاقتراع و الاختصام بعد تمام قصة ولادتها و اصطفائها و ذكر كفالة زكريا في أثنائها، فيكونان واقعتين اثنتين.
و فيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة -: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون»: يوسف - 102 يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة.
«إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إلى أن قال: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين»: يوسف - 10.
قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك «الخ»، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات»: مريم - 19، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
و قد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدواب و ركب السفن، و إنما ركب دابة واحدة و سفينة واحدة، و يقال: قال له الناس كذا، و إنما قاله واحد و هكذا، و نظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة: فنادته الملائكة ثم قوله: قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.
و ربما قيل: إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما و تأخرا من حيث مقام القرب، و أن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، و قوله عين قوله نظير ما نشاهده و نذعن به من كون أفعال قوانا و أعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته عيناي و سمعته أذناي، و رأيته و سمعته، و يقال فعلته جوارحي و كتبته يدي و رسمته أناملي و فعلته أنا و كتبته أنا، و كذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، و قوله قولهم من غير اختلاف، و بالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه و قولهم قوله، كما قال تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها»: الزمر - 42، فنسب التوفي إلى نفسه، و قال: «قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم»: السجدة - 11، فنسبه إلى ملك الموت و قال: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا»: الأنعام - 61، فنسبه إلى جمع من الملائكة.
و نظيره قوله تعالى: «إنا أوحينا إليك»: النساء - 163، و قوله: نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء - 194، و قوله: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك»: البقرة - 97، و قوله: كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة»: عبس - 16.
فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة و هو من سادات الملائكة و مقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين»: التكوير - 21، و سيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.
و يؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يخلق ما يشاء، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح، قال تعالى: «قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين الآيات»: مريم - 21.
و في تكلم الملائكة و الروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا»: مريم - 17، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، و سيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
قوله تعالى: بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض»: البقرة - 253.
و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و فرد و تطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى، و على الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، و أما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد و هو قوله تعالى لشيء أراده: كن، أو كلمة الوحي و الإلهام و نحو ذلك.
و أما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، و نظيره قوله تعالى في ظهور موسى (عليه السلام): «و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا»: الأعراف - 137، و فيه أن ذلك و إن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، و ظاهر قوله: اسمه المسيح، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، و بيانه تحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: «و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه»: الزخرف - 63، و فيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
و ربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، و هي الإخبار بحملها بعيسى و ولادته فمعنى قوله: يبشرك بكلمة منه: يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر، و فيه أن سياق الذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه و هو ظاهر.
و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن و إنما اختص عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، و عمل العوامل المقارنة في ذلك، و لذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها، و لما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى و فقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء - 171، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» الآية، و هذا أحسن الوجوه.
و المسيح هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام) لأنه كان مسيحا باليمن و البركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه و كانت الأنبياء يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.
لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم (عليهما السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»، و هذا اللفظ بعينه معرب «مشيحا» الواقع في كتب العهدين.
و الذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه: إما الملك و إما المبارك.
و قد يظهر من كتبهم أنه (عليه السلام) إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه، و أنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما هذا السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله، و أنت تحبلين و تلدين ابنا و تدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما و ابن العلي يدعى و يعطيه الرب له كرسي داود أبيه و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد و لا يكون لملكه انقضاء» لوقا 1 - 34.
و لذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته و في حيوته، و لذلك أيضا ربما وجهته النصارى و تبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.
أقول: و ليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، و يؤيده قوله تعالى: «قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما كنت»: مريم - 31.
و عيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص و هو المنجي، و في بعض الأخبار تفسيره بيعيش و هو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين النبيين.
و تقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، و يكون معروفا بهذا النعت، و أن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين»: الأنبياء - 91.
قوله تعالى: وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين، الوجاهة هي المقبولية، و كونه (عليه السلام) مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، و كذا في الآخرة بنص القرآن.
و معنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء و المقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون»: النساء - 172، و قد عرف تعالى معنى التقريب بقوله: «إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال - و كنتم أزواجا ثلثة - إلى أن قال: و السابقون السابقون أولئك المقربون»: الواقعة - 11، و الآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب و هو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء، قال تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الانشقاق - 6، و قال تعالى: ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى - 53.
و أنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان و صفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهية و المقربون من الإنسان بالعمل.
و قوله وجيها في الدنيا و الآخرة، حال، و كذا ما عطف عليه من قوله: و من المقربين، و يكلم اه، و من الصالحين، و يكلمه اه، رسولا اه.
قوله تعالى: و يكلم الناس في المهد و كهلا، المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، و الكهل من الكهولة و هو ما بين الشباب و الشيخوخة، و هو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، و لذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، و ربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا و ثلاثين.
و كيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى لمريم.
و في التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث و ثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه و لذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، و ربما قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى (عليه السلام) عاش نحوا من أربع و ستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل.
و الذي يظهر من سياق قوله: في المهد و كهلا، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، و إنما ينتهي إلى سن الكهولة، و على هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا و الكهولة.
و المعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج و يمشي و هو في السنة الثانية فما دونها غالبا، و هو سن الكلام فكلام الصبي في المهد و إن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، و بعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، و الكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة.
على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه و كلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال تعالى: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما كنت الآيات»: مريم - 31.
قوله تعالى: قالت رب أنى يكون لي ولد و لم يمسسني بشر، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة و خطاب الروح و كلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه و إن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة و لذلك خاطبت ربها و يمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: «قال رب ارجعون»: المؤمنون - 99، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.
قوله سبحانه: قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: «قال كذلك قال ربك هو علي هين و لنجعله آية للناس و رحمة منا و كان أمرا مقضيا»: مريم - 21، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك و معناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.
و أما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء و أما صعوبته و مشقته فإن العسر و الصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات و الأسباب و عزت و بعد منالها اشتد الأمر صعوبة، و الله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم و تردد نفسها، و قوله: الله يخلق ما يشاء، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، و قوله: إذا قضى، رفع لتوهم العسر و الصعوبة.
قوله تعالى: و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل اللام في الكتاب و الحكمة للجنس.
و قد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، و الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، و على هذا فعطف التوراة و الإنجيل على الكتاب و الحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، و ليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: «و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله و أطيعون»: الزخرف - 63، و قد مر بيانه.
و أما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، و أما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل و كورش من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية و إن لعبت بها يد التحريف، و دلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.
و أما الإنجيل و معناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى «و أنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى للناس»: آل عمران - 4، و أما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى و مرقس و لوقا و يوحنا فهي كتب مؤلفة بعده (عليه السلام).
و يدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، و أن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم الآية، و قوله: «و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور و مصدقا لما بين يديه من التوراة و هدى و موعظة للمتقين و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه»: المائدة - 47، و لا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الإثباتية.
و يدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالتوراة قال، تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الأعراف - 157.
قوله تعالى: و رسولا إلى بني إسرائيل، ظاهره أنه (عليه السلام) كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى (عليه السلام)، و قد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين» الآية: البقرة - 213، أن عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم و هم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.
لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول و النبي أن النبوة هي منصب البعث و التبليغ، و الرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم و القضاء بالحق بين الناس، إما بالبقاء و النعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط»: يونس - 47.
و بعبارة أخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، و الرسول هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك و قبوله البقاء و السعادة كما يؤيده بل يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم (عليهم السلام).
و إذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، و كان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم و إلى غيرهم كموسى و عيسى (عليهما السلام).
و على ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: «اذهب إلى فرعون إنه طغى»: طه - 24، و إيمان السحرة لموسى و ظهور قبول إيمانهم و لم يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: «قالوا آمنا برب هارون و موسى»: طه - 70، و دعوة قوم فرعون، قال تعالى: «و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم»: الدخان - 17، و نظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الروم و أمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج و النمسا و البروس و إنجلترا و أمم من الشرقيين كنجران و هم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، و القرآن لم يخص - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.
قوله تعالى: أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين - إلى قوله -: و أحيي الموتى بإذن الله، الخلق جمع أجزاء الشيء، و فيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: «فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون - 14.
و الأكمه هو الذي يولد مطموس العين، و قد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، و الأبرص من كان به برص و هو مرض جلدي معروف.
و في قوله: و أحيي الموتى حيث علق الإحياء بالموتى و هو جمع دلالة و لا أقل من الإشعار بالكثرة و التعدد.
و كذا قوله: بإذن الله، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام) بشيء من ذلك، و إنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام)، و لذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق و إحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
و ظاهر قوله: أني أخلق لكم «الخ» أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج و التحدي، و لو كان مجرد قول لقطع العذر و إتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.
على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال: «إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك و على والدتك - إلى أن قال -: و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني و تبرىء الأكمه و الأبرص بإذني و إذ تخرج الموتى» الآية: المائدة - 110.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، و أنه احتج على الناس بذلك، و أتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.
قوله تعالى: و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم، و هذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، و من خصه من رسله بالوحي، و هو آية أخرى و إخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك و الريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله و لا فيما ادخره في بيته.
و إنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله»: المؤمن - 78، لأن هذه الآية عبر عنها بالإنباء و هو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق و الإحياء فإنها فعل الله بالحقيقة و لا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه.
على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير و محيي الموتى بأدنى وسوسة و مغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، و كذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، و خاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون، و لذلك ذيل الكلام بقوله: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.
قوله تعالى: و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، عطف على قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، و كون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: و مصدقا لما بين يدي، متكلما و في قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، بقول عيسى: أني قد جئتكم، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.
و تصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، و هو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.
قوله تعالى: و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» الآية: النساء - 160.
و الكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، و لذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، و قوله: و لأحل، معطوف على قوله: بآية من ربكم، و اللام للغاية، و المعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.
قوله تعالى: و جئتكم بآية من ربكم، الظاهر أنه لبيان أن قوله: فاتقوا الله و أطيعون، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، و يمكن أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها و ما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.
قوله تعالى: إن الله ربي و ربكم فاعبدوه، فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله: فيكون طيرا، و قوله و أحيي الموتى، بقوله: بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكي قول عيسى (عليه السلام): «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم»: المائدة - 117، إن ذلك كان بأمر من ربه و وحي منه.
قوله تعالى: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام) من حين حمله إلى حين رسالته و دعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام و فرع عليها تتمة الجملة من قصته و هو انتخابه حوارييه و مكر قومه به و مكر الله بهم في تطهيره منهم و توفيه و رفعه إليه، و هو تمام القصة.
و قد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، و هم نصارى نجران: الوفد الذين أتوا المدينة للبحث و الاحتجاج، و لذلك أسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء و المائدة و الأنبياء و الزخرف و الصف.
و في استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الإحساس أو أنهم هموا بإيذائه و قتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله: فلما أحس عيسى أي استشعر و استظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ و إنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين، و تتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته، و هذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية و الاجتماعية و غيرها، أنها إذا شرعت في الفعل و نشر التأثير و بث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه و تعتمد عليه و تستمد منه و لو لا ذلك لم تستقر على عمل، و ذهبت سدى لا تجدي نفعا.
و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة و بيعة الشجرة أراد بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ركوز القدرة و تجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.
فلما أيقن عيسى (عليه السلام) أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم، و أنهم كافرون به لا محالة، و أنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة و اشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساسا لتميز الإيمان من الكفر و ظهوره عليه بنشر الدعوة و إقامة الحجة كما قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين»: الصف - 14.
و قد قيد الأنصار في قوله: من أنصاري بقوله: إلى الله ليتم به معنى التشويق و التحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا»: البقرة - 245.
و الظرف متعلق بقوله: أنصاري، بتضمين النصرة معنى السلوك و الذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله: «إني ذاهب إلى ربي سيهدين»: الصافات - 99.
و أما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه و لا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا، و لا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام) اللائح مما يحكيه القرآن من قوله، على أن قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله، أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمل.
قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون، حواري الإنسان من اختص به من الناس، و قيل أصله من الحور و هو شدة البياض، و لم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى (عليه السلام) من أصحابه.
و قولهم: آمنا بالله، بمنزل التفسير لقولهم: نحن أنصار الله و هذا مما يؤيد كون قوله: أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله، و الإيمان طريق.
و هل هذا أول إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربما استفيد من قوله تعالى: «كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة»: الصف - 14، أنه إيمان، بعد إيمان و لا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان و الإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.
بل ربما دل قوله تعالى: «و إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي قالوا آمنا و اشهد بأننا مسلمون»: المائدة - 111، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم، و أنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.
على أن قولهم: و اشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول، و هذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم و فيهم - يدل أيضا على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد و النبوة مجرد شهادة، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان و الإسلام: أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون، حيث أتوا في الإيمان بالفعل و في الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم و الشهادة على أصل الدين إجمالا، و يتلوه الإذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة، و يتلوه و هو المرتبة الثانية من الإسلام التسليم القلبي لمعنى الإيمان و ينقطع عنده السخط و الاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله و رسوله و هو الاتباع العملي في الدين، و يتلوه و هو المرتبة الثانية من الإيمان خلوص العمل و استقرار وصف العبودية في جميع الأعمال و الأفعال، و يتلوه و هو المرتبة الثالثة من الإسلام التسليم لمحبة الله و إرادته تعالى فلا يحب و لا يريد شيئا إلا بالله، و لا يقع هناك إلا ما أحبه الله و أراده و لا خبر عن محبة العبد و إرادته في نفسه، و يتلوه و هو المرتبة الثالثة من الإيمان شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.
فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه، و تأملت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته: فاتقوا الله و أطيعون إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية، وجدت أنه (عليه السلام) أمر أولا بتقوى الله و إطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله: إن الله ربي و ربكم، أي إن الله ربكم معشر الأمة و رب رسوله الذي أرسله إليكم، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان، و أن تطيعوني بالاتباع، و بالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى و طاعة الرسول أي الإيمان و الاتباع، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام، و لذا بدل التقوى و الإطاعة في التعليل من قوله: فاعبدوه و إنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه.
ثم لما أحس منهم الكفر و لاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه، و هو العبودية أعني التقوى و الإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا: نحن أنصار الله، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون، و مرادهم بالإسلام إطاعته و تبعيته، و لذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل و التجاء، و ذكروا له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام) قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول، فبدلوا الإسلام من الاتباع، و وسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.
فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، و اتبعوا الرسول في ذلك، و هذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته و أسماها.
و إنما استشهدوا عيسى (عليه السلام) في إسلامهم و اتباعهم و لم يقولوا: آمنا بالله و إنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول، فكأنهم قالوا: ربنا حالنا هذا الحال، و يشهد بذلك رسولك.
قوله تعالى: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة و هو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، و قد مر بيانه، و قد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين، و فرعوا ذلك على إيمانهم و إسلامهم جميعا لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا و فعلا، أي بتعليمه معالم الدين و عمله بها، فالشهادة على التبليغ إنما يكون بتعلمها من الرسول و اتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه و لا يتعداه.
و الظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومىء إليها قوله تعالى: «فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين»: الأعراف - 6، و هي الشهادة على التبليغ، و أما قوله تعالى: «و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين»: المائدة - 83، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ، و الله أعلم.
و ربما أمكن أن يستفاد من قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام): «ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا»: البقرة - 128، و ليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.
قوله تعالى: و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، الماكرون هم بنو إسرائيل، بقرينة قوله: فلما أحس عيسى منهم الكفر، و قد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة - 26.
قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، التوفي أخذ الشيء أخذا تاما، و لذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: «توفته رسلنا»: الأنعام - 61، أي أماتته، و قال تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد - إلى أن قال -: قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم»: السجدة - 11، و قال تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى»: الزمر - 42، و التأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ و الحفظ، و بعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل و لا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء و بطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، و إلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى: «و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»: آل عمران - 144، و قوله تعالى: «لا يقضى عليهم فيموتوا»: الفاطر - 36، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه كقوله: «و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا»: مريم - 33، و قوله: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا»: النساء - 159، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.
على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: «و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم و إن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن و ما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا»: النساء - 159، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) و كذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليهما السلام) بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، و الآيات كما ترى تكذب قصة القتل و الصلب صريحا.
و الذي يعطيه ظاهر قوله: و إن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله و لن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه و إنما هو الظهور، و سيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.
قوله تعالى: و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا، الرفع خلاف الوضع، و الطهارة خلاف القذارة، و قد مر الكلام في معنى الطهارة.
و حيث قيد الرفع بقوله: إلى، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام و الجسمانيات بالحلول فيها، و القرب و البعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ثم إلي مرجعكم، و خاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة و القرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: «أحياء عند ربهم»: آل عمران - 169، و ما ذكره في حق إدريس (عليه السلام): «و رفعناه مكانا عليا»: مريم - 57.
و ربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه و جسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه، و محل نزول البركات، و مسكن الملائكة المكرمين، و لعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و التطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار و صونه عن مخالطتهم و الوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر و الجحود.
قوله تعالى: و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوته، و أن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة و إنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه و أن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.
غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام و نسخه دين عيسى، و المسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، و على هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة و السيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى و المسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة، هذا ما ذكره و ارتضاه المفسرون في معنى الآية.
و الذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها و لا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتبعوك، أنه إخبار عن المستقبل و أنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف و رفع و تطهير و جعل على أن قوله: و جاعل الذين اتبعوك، وعد حسن و بشرى، و ما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، و من المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى (عليه السلام) إلا حجة عيسى نفسه، و هي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، و هذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، و بعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفار و منبت خصومتهم، و أوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (عليه السلام) أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة و التفوق بقوله: إلى يوم القيامة، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت و لا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.
فإن قلت: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين و أطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا و أوثق ركنا و أشد قوة.
قلت: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة و القوة و الواقع خلافه، و احتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين و تفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، و إما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه (عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو و يزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا و قد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية و خاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود و شمول الغضب عليهم إنما يناسب القهر و الاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة و القوة و أما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.
و الذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: الذين اتبعوك، و قوله الذين كفروا، و الفعل إنما يدل على التحقق و الحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين و الكافرين، و مجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة مع رضاء الباقين به و سلوك اللاحقين مسلك السابقين و جريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود و يوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء و إيذائهم و الاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه و رسله و تحريف آيات الكتاب، و غير ذلك.
و على هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، و بالذين اتبعوا النصارى لما صدر من صدرهم و سلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) و اتباعه - و قد كان إيمانا مرضيا و اتباعا حقا - و إن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له (عليه السلام) بعد ظهور الإسلام، و لا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.
فالمراد جعل النصارى - و هم الذين اتبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) - فوق اليهود و هم الذين كفروا بعيسى (عليه السلام) و مكروا به، و الغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، و حلول المكر بهم، و تشديد العذاب على أمتهم، و لا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.
و يؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله: و أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق و النجاة من النصارى و المسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: و أما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.
و هاهنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى و المسلمون قاطبة و تكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة، و التقريب عين التقريب، و هذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.
قوله تعالى: ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، و قد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى و بين الذين اتبعوه و الذين كفروا به و هذا مآل أمرهم يوم القيامة، و بذلك يختتم أمر عيسى و خبره من حين البشارة به إلى آخر أمره و نبإه.
قوله تعالى: فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا و الآخرة، ظاهره أنه متفرع على قوله: فأحكم بينكم، تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا و توفيه الأجر للمؤمنين.
لكن اشتمال التفريع على قوله: في الدنيا، يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله: و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلي مرجعكم «الخ» فيدل على أن نتيجة هذا الجعل و الرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم، و في الآخرة بالنار، و ما لهم في ذلك من ناصرين.
و هذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة و القوة دون التأييد بالحجة.
و في قوله: و ما لهم من ناصرين دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، و هو حتم القضاء كما تقدم.
قوله تعالى: و أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، و هذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه و صدوره عن عدة من أفرادها و حينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل و الثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله: الذين آمنوا و عملوا الصالحات، ليستقيم المعنى فإن السعادة و العاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون: «البقرة - 62.
فهذا أجر الذين آمنوا و عملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام) أن الله يوفيهم أجورهم، و أما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء، و قد أشير إلى ذلك في الآية بقوله: و الله لا يحب الظالمين.
و من هنا يظهر السر في ختم الآية - و هي آية الرحمة و الجنة - بمثل قوله: و الله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة و النعمة أن تختتم بأسماء الرحمة و المغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: «و كلا وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير»: الحديد - 10، و قوله تعالى: «إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و الله شكور حليم»: التغابن - 17، و قوله تعالى: «و من يؤمن بالله و يعمل صالحا يكفر عنه سيئاته و يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم»: التغابن - 9، و قوله تعالى: «فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين»: الجاثية - 30، إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله: و الله لا يحب الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتباع و هم غير الذين آمنوا و عملوا الصالحات.
قوله تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم إشارة إلى اختتام القصة.
و المراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته و بياناته، لا يدخله باطل، و لا يلج فيه هزل.
قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، و الإيجاز بعد الإطناب - و خاصة في مورد الاحتجاج و الاستدلال - من مزايا الكلام، و الآيات نازلة في الاحتجاج و متعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم (عليه السلام) فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم مما قيل في آدم، و هو أنه بشر خلقه الله من غير أب.
فمعنى الآية: إن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، و كيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب.
فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام).
إحداهما: أن عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله و لا يضل في علمه - خلقة بشر و إن فقد الأب و من كان كذلك كان عبدا لا ربا.
و ثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضا لمكان المماثلة.
و يظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل و هي حاجة الولد في تكونه إلى والد.
و الظاهر أن قوله: فيكون، أريد به حكاية الحال الماضية، و لا ينافي ذلك دلالة قوله: ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود و غيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس - 82، و كثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية.
و أما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك و لا مهلة كما قال تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر - 50، و سيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له.
على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله: ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان و الاستحالة، و الهوان و العسر، و القرب و البعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده و قال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.
قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكن من الممترين تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن و نحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم الآية، و فيه تطييب لنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على الحق، و تشجيع له في المحاجة.
و هذا أعني قوله: الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك و نسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.
و ذلك أن هذه الأقاويل الحقة و القضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت و إن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و نحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود و الوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، و لذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، و أما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: يا مريم إن الله اصطفيك - و طهرك و اصطفيك على نساء العالمين قال: قال (عليه السلام) اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين و في المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية اصطفاك لذرية الأنبياء، و طهرك من السفاح و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.
أقول: معنى قوله: اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء، و معنى قوله: و طهرك من السفاح أعطاك العصمة منه، و هو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها و تطهيرها، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر، و قد مر دلالة الآية على ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و صححه و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و آسية امرأة فرعون: قال السيوطي و أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: و فيه، أخرج الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل نساء العالمين خديجة و فاطمة و مريم و آسية امرأة فرعون.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.
و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون و فيه، أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أربع نسوة سادات عالمهن. مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أفضلهن عالما فاطمة.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة ابنة خويلد.
و في الخصال، بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع خطوط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون.
و فيه، أيضا بإسناده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز و جل اختار من النساء أربعا: مريم و آسية و خديجة و فاطمة، الخبر.
أقول: و الروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة، و كون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور و أخبار أخرى، و قد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى: «إن الله اصطفى آدم و نوحا» الآية: آل عمران - 33.
و مما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء، و قد مر أنه الاختيار، و الذي وقع في الأخبار هو السيادة، و بينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأول.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، عن الباقر (عليه السلام): يقرعون بها حين أيتمت من أبيها.
و في تفسير القمي،: و إذ قالت الملائكة يا مريم - إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين، قال: اصطفاها مرتين: أما الأولى فاصطفاها أي اختارها، و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين إلى أن قال القمي ثم قال الله لنبيه: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك يا محمد و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها و كلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا و ضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا، الخبر.
أقول: و قد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر و ما قبلها.
و اعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم و ولادة عيسى (عليه السلام) و دعوته و معجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري، و لذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و أنبئكم بما تأكلون الآية، عن الباقر (عليه السلام) أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله إليكم، و إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص، و الأكمه هو الأعمى: قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا و ما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم فكان يقول: أنت أكلت كذا و كذا و شربت كذا و كذا و رفعت كذا و كذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من يكفر، و كان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين.
أقول: و تغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره (عليه السلام) من الآيات أولا و آخرا يؤيد هذه الرواية، و قد مرت الإشارة إليه.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص و بما أوصى به نوح و إبراهيم و موسى، و أنزل عليه الإنجيل، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين، و شرع له في الكتاب: إقام الصلوة مع الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و أنزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود ليس فيها قصاص، و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و أنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، و هو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، و أمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل.
أقول: و روي الرواية في قصص الأنبياء، مفصلة عن الصادق (عليه السلام) و فيها: كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و ثمانون سنة و لا يوافق شيء منهما تاريخ أهل الكتاب.
و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتق من الخبز الحوار. و أما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم و مخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير.
و في التوحيد، عنه (عليه السلام): أنهم كانوا اثنا عشر رجلا و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا.
و في الإكمال، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: بعث الله عيسى بن مريم، و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الإنجيل، و بعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته، و إلى الإيمان بالله و رسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا و كفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربه و عزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا و كفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند الله ثلاثة و ثلاثين سنة حتى طلبته اليهود و ادعت أنها عذبته و دفنته في الأرض حيا، و ادعى بعضهم أنهم قتلوه و صلبوه، و ما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنما شبه لهم، و ما قدروا على عذابه و قتله و لا على قتله و صلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه.
أقول: قوله (عليه السلام): فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم.
و قوله (عليه السلام): فمكث يدعوهم «الخ» لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (عليه السلام) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة و كان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه: «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا»: مريم - 30.
و قوله (عليه السلام) لكان تكذيبا لقوله: و لكن رفعه الله بعد أن توفاه، نقل بالمعنى لقوله تعالى: و لكن رفعه الله الآية، و قوله تعالى: إني متوفيك و رافعك إلي الآية، و قد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.
و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء و هم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت و هو ينفض رأسه عن الماء فقال: إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة، و مطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي، فقال شاب منهم أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا فقال لهم عيسى: أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال رجل منهم: أنا هو يا نبي الله! فقال له عيسى: أ تحس بذلك في نفسك؟ فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى: أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على الله في النار، و فرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت و هم ينظرون إليه. ثم قال: إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى: إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، و أخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل و صلب، و كفر الذي قال له عيسى: يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.
أقول: و روي قريب منه عن ابن عباس و قتادة و غيرهما، و قال بعضهم: إن الذي ألقي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه و يقتلوه، و قيل غير ذلك، و القرآن ساكت عن ذلك، و سيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى: «و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم» الآية: النساء - 157.
و في العيون، عن الرضا (عليه السلام) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله و حججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حيا و قبض روحه بين السماء و الأرض ثم رفع إلى السماء، و رد عليه روحه، و ذلك قوله عز و جل: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك، و قال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة و كنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم - و أنت على كل شيء شهيد و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم و من نسج مريم و من خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.
أقول: و سيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إن شاء الله تعالى.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا: أن سيدي أهل نجران و أسقفيهم السيد و العاقب لقيا نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألاه عن عيسى فقال: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله الآية.
أقول: و روي ما يقرب منه عن السدي و عكرمة و غيرهما، و روى القمي في تفسيره، أيضا نزول الآية في المورد.
بحث روائي آخر في معنى المحدث
في البصائر، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرسول و عن النبي و عن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة. و النبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق و لا يعاين الملك. و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى شاهدا.
أقول: و رواه في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: شاهدا أي صائتا حاضرا.
و يمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى.
و فيه، أيضا عن بريد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد: فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه «لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم الأنبياء، الحديث.
و فيه، عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقال: إنه يسمع الصوت و لا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك.
و فيه، أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: كان علي محدثا و كان سلمان محدثا، قال: قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت و كيت 220 - و فيه، عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر (عليه السلام): أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا: ما صنعت شيئا أ لا سألته من يحدثه؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت: أ لست أخبرتني: أن عليا كان محدثا؟ قال: بلى قلت: من كان يحدثه؟ قال: ملك، قلت: فأقول: إنه نبي أو رسول؟ قال: لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان و صاحب موسى، و مثله مثل ذي القرنين، أ ما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أ نبيا كان؟ قال لا و لكن كان عبدا أحب الله فأحبه، و ناصح الله فنصحه فهذا مثله.
أقول: و الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر و الكافي و الكنز و الاختصاص و غيرها، و يوجد في روايات أهل السنة أيضا.
و أما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي و الرسول و المحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول و النبي، و أن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس و نحوه.
و أما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه و ليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.
و أما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس، و ليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد، و لذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت و النكت في القلب، و تسميه مع ذلك تحديثا و تكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه و يعيه بسمعه نظير ما نسمعه و يسمعه من الكلام المعتاد و الأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره، و لذا كان أمرا قلبيا.
و أما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه و تسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة: أنه يعطى السكينة و الوقار حتى يعلم أنه ملك، و ذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله، و إما باطل في صورة حق و سيستتبع باطلا فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله، قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام - 122، و النزغة و الوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس و تزلزل في القلب كما أن ذكر الله و حديثه لا ينفك عن الوقار و طمأنينة الباطن، قال تعالى: «ذلكم الشيطان يخوف أولياءه»: آل عمران - 175، و قال: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»: الرعد - 28، و قال: «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون»: الأعراف - 201، فالسكينة و الطمأنينة عند ما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقاء رحمانيا كما أن الاضطراب و القلق دليل على كونه إلقاء شيطانا و يلحق بذلك العجلة و الجزع و الخفة و نحوها.
و أما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت و لا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث و ذلك لأن الآيات صريحة في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إني رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات»: مريم - 19، و قوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة -: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام - إلى أن قال -: و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق و من وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد»: هود - 73.
و هاهنا وجه آخر: و هو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر.
و هاهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم و هو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا و ذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه و رسله و لا يخلو عن بعد.
|