بيان
قوله تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، الفاء للتفريع، و هو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم (عليهما السلام) مع ما أكده في ختمه بقوله: الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
و الضمير في قوله: فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.
و قد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا، و لذلك كان يشمل أثره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم، و لعله لذلك قيل: من بعد ما جاءك من العلم و لم يقل: من بعد ما بيناه لهم.
و هاهنا نكتة أخرى و هي أن في تذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله، و أن ربه ناصره و غير خاذله البتة.
قوله تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، المتكلم مع الغير في قوله: ندع، غيره في قوله: أبناءنا و نساءنا و أنفسنا فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام و النصرانية، و في الثاني و ما يلحق به من جانب الإسلام، و لذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء و النساء و الأنفس فندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ففي الكلام إيجاز لطيف.
و المباهلة و الملاعنة و إن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله و بين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء و النساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه و كونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم و الشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، و يركب الأهوال و المخاطرات دونهم، و في سبيل حمايتهم و الغيرة عليهم و الذب عنهم، و لذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد و أدوم.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بقوله: ندع أبناءنا و أبناءكم «الخ» ندع نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، و تدعوا أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا.
و ذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء و النساء في المباهلة.
و في تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي و ركونه إلى الحق، كأنه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن و العذاب الأبناء و النساء و الأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، و ينبت أصل المبطلين.
و بذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء و لا على كثرة النساء و لا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير و كبير، و ذكور و إناث، و قد أطبق المفسرون و اتفقت الرواية و أيده التاريخ: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضر للمباهلة و لم يحضر معه إلا علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) فلم يحضر لها إلا نفسان و ابنان و امرأة واحدة و قد امتثل أمر الله سبحانه فيها.
على أن المراد من لفظ الآية أمر، و المصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب الخارج أمر آخر، و قد كثر في القرآن الحكم أو الوعد و الوعيد للجماعة، و مصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: «الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم» الآية: المجادلة - 2، و قوله تعالى: «و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا»: المجادلة - 3، و قوله تعالى: «لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء»: آل عمران - 181، و قوله تعالى: «و يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو»: البقرة - 219، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع و مصداقها بحسب شأن النزول مفرد.
قوله تعالى: ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، - الابتهال - من البهلة بالفتح و الضم و هي اللعنة، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء و المسألة إذا كان مع إصرار و إلحاح.
و قوله: فنجعل لعنة الله، كالبيان للابتهال، و قد قيل: فنجعل، و لم يقل، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف و الابتناء.
و قوله: الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين النصارى حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله لا إله غيره و إن عيسى عبده و رسوله، و قالوا: إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.
و على هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى و المباهلة عليها بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا و الطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد و الجمع معا كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة و المباهلة على أي حال: إما في جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إما في جانب النصارى، و هذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) شركة في الدعوى و الدعوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خصهم باسم الأنفس و النساء و الأبناء لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين رجال الأمة و نسائهم و أبنائهم.
فإن قلت: قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد و أن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة (عليها السلام) فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟.
قلت: إن بين المقامين فارقا و هو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، و أما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم، و لا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى: «و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله»: الأحزاب - 37 و قوله تعالى: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين»: النحل - 103 و قوله تعالى: «إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن - إلى أن قال: و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين»: الأحزاب - 50.
و أمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده و هو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: الكاذبين بصيغة الجمع البتة.
فإن قلت: كما أن النصارى الوافدين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب دعوى و هي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا و لا بين نسائهم و بين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي أن الله لا إله إلا هو و أن عيسى بن مريم عبده و رسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء و النساء و الأنفس، على أن الدعوى غير الدعوة و قد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.
قلت: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين و نسوة و أبناء ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار و هو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى و هو رجل و امرأة و ابنان.
و إنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله و رسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه، و أما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل و لا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل، و كذا قوله تعالى - قبل عدة آيات -: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن.
و من هنا يظهر: أن إتيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة و المباهلة حتى يعرضوا للعن و العذاب المتردد بينهم و بين خصمهم، و إنما أتى (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به من جهة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان طرف المحاجة و المداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بهم لا من جهة الإتيان بالأنموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.
ثم إن النصارى إنما قصدوه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى بن مريم (عليهما السلام) عبد الله و رسوله و يعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه و يدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود و المحاجة فحضوره و حضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى و الدعوة معا فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.
فإن قلت: هب أن إتيانه بهم لكونهم منه، و انحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر - كما تعطيه العادة الجارية - أن إحضار الإنسان أحباءه و أفلاذ كبده من النساء و الصبيان في المخاطر و المهاول دليل على وثوقه بالسلامة و العافية و الوقاية فلا يدل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم على أزيد من ذلك و أما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله.
قلت: نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله: على الكاذبين، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة و المباهلة البتة، و لا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشاركون معه في الدعوى و في الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى و دعوة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و شركاء في ذلك.
فإن قلت: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.
قلت: كلا فقد تبين فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة و التبليغ ليسا بعين النبوة و البعثة و إن كانا من شئونها و لوازمها، و من المناصب و المقامات الإلهية التي يتقلدها، و كذا تبين مما تقدم من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة و إن كانا من لوازمها بوجه.
قوله تعالى: إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله، هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى (عليه السلام)، و الكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.
و في الإتيان بإن و اللام و ضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه و بصيرته و وثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه، و يتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها و هو قوله: و ما من إله إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا.
قوله تعالى: و إن الله لهو العزيز الحكيم معطوف على أول الآية، و هو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر و تشجيع لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله لا يعجز عن نصرة الحق و تأييده، و لا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل و لا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه.
و من هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين: العزيز الحكيم، و أن الكلام مسوق لقصر القلب أو الإفراد.
قوله تعالى: فإن الله عليم بالمفسدين، لما كان الغرض من المحاجة و كذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض و المقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق و هم يعلمون أن الله سبحانه ولي الحق لا يرضى بزهوقه و دحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية و الاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، و السنة التي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهواؤهم و هوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق و السعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون.
و من هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق.
و قد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم أكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة، و قد فعلوا و صدقوا قول الله بفعلهم.
بحث روائي
في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان سيدهم الأهتم و العاقب و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس و صلوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، و أني رسول الله، و أن عيسى عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم، أ كان عبدا مخلوقا يأكل و يشرب و يحدث و ينكح؟ فسألهم النبي، فقالوا نعم: قال فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل الله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية، و قوله: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم إلى قوله: فنجعل لعنة الله على الكاذبين فقال رسول الله: فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم، و إن كنت كاذبا أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد و العاقب و الأهتم إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا، و إن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا و هو صادق فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) فقال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب، و هذا ابنته فاطمة، و هذا ابناه الحسن و الحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجزية و انصرفوا.
و في العيون، بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام): في حديثه مع المأمون و العلماء في الفرق بين العترة و الأمة، و فضل العترة على الأمة، و فيه قالت العلماء: هل فسر الله الاصطفاء في كتابه؟ فقال الرضا (عليه السلام): فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا و ذكر المواضع من القرآن، و قال فيها: و أما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه، و أمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز و جل فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم - و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، قالت العلماء: عنى به نفسه، قال أبو الحسن: غلطتم إنما عنى به علي بن أبي طالب، و مما يدل على ذلك قول النبي: لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يعني علي بن أبي طالب، و عنى بالأبناء الحسن و الحسين، و عنى بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، و فضل لا يلحقهم فيه بشر، و شرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه، الحديث.
و عنه، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام): في حديث له مع الرشيد، قال الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي، و النبي لم يعقب، و إنما العقب للذكر لا للأنثى، و أنتم ولد البنت و لا يكون له عقب. فقلت: أسأله بحق القرابة و القبر و من فيه إلا ما أعفاني عن هذه المسألة، فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي و أنت يا موسى يعسوبهم و إمام زمانهم، كذا أنهي إلي، و لست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، و أنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف و لا واو إلا تأويله عندكم، و احتججتم بقوله عز و جل: ما فرطنا في الكتاب من شيء، و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم. فقلت: تأذن لي في الجواب؟ فقال: هات، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس، من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من أمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات، قلت: قول الله عز و جل، فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم - و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم - ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، و لم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين فكان تأويل قوله أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب: و في سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام): قال المأمون: ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب؟ قال: آية أنفسنا قال: لو لا نساءنا قال لو لا أبناءنا.
أقول: قوله: آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: لو لا نساءنا معناه: أن كلمة نساءنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ، و قوله: لو لا أبناءنا معناه أن وجود أبناءنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسى فأنزل الله هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله فأخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة ثم خرج و رفع كفه إلى السماء، و فرج بين أصابعه، و دعاهم إلى المباهلة، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام) و كذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: و الله لئن كان نبيا لنهلكن و إن كان غير نبي كفانا قومه فكفا و انصرفا.
أقول: و هذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة و في جميعها أن الذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة هم علي و فاطمة و الحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه، بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام)، و رواه فيه، أيضا بإسناده عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي (عليه السلام)، و رواه المفيد في كتاب الاختصاص، بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده، و رواه العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه، و رواه أيضا عن أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) و رواه أيضا فيه، في رواية أخرى عن الأحول عنه (عليه السلام)، و عن المنذر عن علي (عليه السلام)، و رواه أيضا فيه، بإسناده عن عامر بن سعد، و رواه الفرات في تفسيره، معنعنا عن أبي جعفر و عن أبي رافع و الشعبي و علي (عليه السلام) و شهر بن حوشب، و رواه في روضة الواعظين، و في إعلام الورى، و في الخرائج، و غيرها.
و في تفسير الثعلبي، عن مجاهد و الكلبي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع و ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب و كان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: و الله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و الله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم، و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم، و الإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله و قد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه، و علي خلفها و هو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرك على دينك و نثبت على ديننا، قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما عليهم فأبوا، قال: فإني أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة و لكن نصالحك على أن لا تغزونا، و لا تخيفنا، و لا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، و ألف في رجب، و ثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. و قال: و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستاصل الله نجران و أهله حتى الطير على رءوس الشجر، و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
أقول: و روي القصة: قريبا منه في كتاب المغازي، عن ابن إسحاق، و رواه أيضا المالكي في الفصول المهمة، عن المفسرين قريبا منه، و رواه الحموي عن ابن جريح قريبا منه.
و قوله: ألف في صفر المراد به المحرم و هو أول السنة عند العرب و قد كان يسمى صفرا في الجاهلية فيقال صفر الأول و صفر الثاني و قد كانت العرب تنسىء في الصفر الأول ثم أقر الإسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم.
و في صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب، قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبه، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ففتح الله على يده. و لما نزلت هذه الآية: قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم - و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل، دعا رسول الله عليا و فاطمة و حسنا و حسينا و قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.
أقول: و رواه الترمذي في صحيحه، و رواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، و رواه أيضا أبو نعيم في الحلية، عن عامر بن سعد عن أبيه، و رواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين،.
و في حلية الأولياء، لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و فيه، بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العاقب و الطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: أسلمنا يا محمد فقال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا، قال: حب الصليب و شرب الخمر و أكل لحم الخنزير، قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة فأرسل إليهما فأبيا أن يجيباه و أقرا له، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا قال جابر: فيهم نزلت: ندع أبناءنا و أبناءكم، قال جابر: أنفسنا و أنفسكم رسول الله و علي، و أبناءنا الحسن و الحسين، و نساءنا فاطمة.
أقول: و رواه ابن المغازلي في مناقبه، بإسناده عن الشعبي عن جابر، و رواه أيضا الحمويني في فرائد السمطين، بإسناده عنه، و رواه المالكي في الفصول المهمة، مرسلا عنه، و رواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا، و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و صححه و عن ابن مردويه و أبي نعيم في الدلائل، عن جابر.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد و هو الكبير، و العاقب و هو الذي يكون بعده و صاحب رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر و فيه، أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران و أهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، و إن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به و ذعر ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأه، فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل. قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل؟ ليس لي في النبوة رأي، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، و جهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة، و عبد الله بن شرحبيل و جبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم و سألوه فلم نزل به و بهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد، فأنزل الله هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله: فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن و الحسين في خميلة له و فاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة، و له يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر و لا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: أنت و ذلك، فتلقى شرحبيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، قال: و ما هو؟ قال حكمك اليوم إلى الليل و ليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز، فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يلاعنهم و صالحهم على الجزية: و فيه، أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري، قال: لما نزلت هذه الآية، قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم الآية، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي و فاطمة و ابنيهما الحسن و الحسين، و دعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم أ ليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة و خنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا.
أقول: و الرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى: فمن حاجك فيه، راجعا إلى الحق في قوله: الحق من ربك، فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و تكون حينئذ هذه قصة أخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم.
و قال ابن طاووس في كتاب سعد السعود، رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي و أهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان: أنه روى خبر المباهلة من أحد و خمسين طريقا عمن سماه من الصحابة و غيرهم، و عد منهم الحسن بن علي (عليهما السلام) و عثمان بن عفان و سعد بن أبي وقاص و بكر بن سمال و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن عباس و أبا رافع مولى النبي و جابر بن عبد الله و البراء بن عازب و أنس بن مالك.
و روي ذلك في المناقب، عن عدة من الرواة و المفسرين و كذا السيوطي في الدر المنثور،.
و من عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال: إن الروايات متفقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديهما، و يحملون كلمة نساءنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط، و مصادر هذه الروايات الشيعة، و مقصدهم منها معروف، و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم.
و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كل ما يفهم من الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن يدعوا المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
و هذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه، و ثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم و مما رأتهم فيما يقولون و زلزالهم فيما يعتقدون، و كونهم على غير بينة و لا يقين، و إني لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه و إبعاده من رحمته و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته أقوى من هذا؟.
قال: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين، و في قوله: ندع أبناءنا و أبناءكم «الخ» وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبناءنا، و نحن ندعو أبناءكم، و هكذا الباقي.
و ثانيهما: أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبناءنا و نساءنا و أنفسنا، و أنتم كذلك.
و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة، و من شايعهم على القول بالتخصيص، انتهى.
أقول: و هذا الكلام - و أحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله، و اللبيب لا يرضى بإيداعه و أمثاله في الزبر العلمية - إنما أوردناه على وهنه و سقوطه ليعلم أن النزعة و العصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم و رداءة النظر فيهدم كل ما بنى عليه و يبني كل ما هدمه و لا يبالي، و لأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه.
و الكلام في مقامين أحدهما: دلالة الآية على أفضلية علي (عليه السلام)، و هو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب، و هو النظر في معاني الآيات القرآنية.
و ثانيهما: البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة، و الروايات الواردة في ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين وفد نجران، و هذا بحث تفسيري داخل في غرضنا.
و قد عرفت ما تدل عليه الآية، و أن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية، و بالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة و النظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل، و هاك تفصيلها: منها: أن قوله: و مصادر هذه الروايات الشيعة - إلى قوله: و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة، بعد قوله: إن الروايات متفقة، ليت شعري أي روايات يعني بهذا القول؟ أ مراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها و عدم طرحها المحدثون، و ليست بالواحدة و الاثنتين و الثلاث أطبق على نقلها و تلقيها بالقبول أهل الحديث، و أثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم، و منهم مسلم في صحيحه و الترمذي في صحيحه و أيدها أهل التاريخ.
ثم أطبق المفسرون على إيرادها و إيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب، و فيهم جمع من أهل الحديث و التاريخ كالطبري و أبي الفداء بن كثير و السيوطي و غيرهم ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات؟ أ يريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عباس و غيرهم من الصحابة؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ و الرواية كأبي صالح و الكلبي و السدي و الشعبي و غيرهم، و أنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء و أمثالهم و نظراؤهم هم الوسائط في نقل السنة، و مع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة و لا سيرة مأثورة، و كيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعليم و تشريع و القرآن ناطق بحجية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيرته، و ناطق ببقاء الدين على حيوته، و لو جاز بطلان السنة من رأس لم يبق للقرآن أثر و لا لإنزاله ثمر.
أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث و كتب التاريخ، فيعود محذور سقوط السنة، و بطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم و الفساد أتم.
و منها: قوله: و يحملون كلمة نساءنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نساءنا أطلقت و أريدت بها فاطمة و كذا المراد بكلمة أنفسنا علي فقط، و كأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة: قال جابر: نساءنا فاطمة و أنفسنا علي الخبر، و قد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة، و بلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها و به كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا، و أنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا و أنهما مصداق أبنائنا، و كان المراد بالأبناء و النساء و الأنفس في الآية هو الأهل فهم أهل بيت رسول الله و خاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم إنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.
و يدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات: أنفسنا و أنفسكم رسول الله و علي، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.
و منها: قوله: و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نساءنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج و لا يفهم هذا من لغتهم، و أبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي، و هذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها و كل من تلقاها بالقبول، و يرميهم بما ذكره و قد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب، و يذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة و أساتيذ البيان، و قد أوردوها في تفسيرهم و سائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض.
فهذا صاحب الكشاف - و هو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم - يقول في ذيل تفسير الآية: و فيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام) و فيه برهان واضح على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم يرو أحد من موافق و لا مخالف: أنهم أجابوا إلى ذلك، انتهى.
فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة و فرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها و تكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء و هو جمع في مورد نفس واحدة؟.
لا و عمري، و إنما التبس الأمر على هذا القائل و اشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم: أن الله عز اسمه لو قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم «الخ» و صح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران و هم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء و لا أبناء، و صح أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى مباهلتهم و ليس معه إلا علي و فاطمة و الحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران، و معنى نسائنا المرأة الواحدة، و معنى أنفسنا النفس الواحدة، و بقي نساؤكم و أبناؤكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع الوفد نساء و لا أبناء!.
و كان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء و هو جمع في التثنية و هو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين و إن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا.
فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات و رماها بالوضع، و ليس الأمر كما توهمه.
توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع و العادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة و الدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور و إناث و صغير و كبير فإنما يقول: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و الظعائن و الأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع و العادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء و أولاد و الغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم و يخاصمونه، و لو قيل: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال و النساء و ابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة و تعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة.
و أما عند المتعارفين و الأصدقاء و الأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع و العادة فيقال في الدعوة للضيافة و الاحتفال: سنقرئكم بأنفسنا و نسائنا و أطفالنا، و ربما يسترسل في التعرف فيقال: سنخدمكم بالرجال و البنت و السبطين الصبيين، و نحو ذلك.
فللطبع و العادة و ظاهر الحال حكم، و لواقع الأمر و خارج العين حكم، و ربما يختلفان، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله، و يقضي به الطبع و العادة فيه ثم بدا حقيقة حاله و واقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه، و لا كاذبا في خبره، و لا لاغيا هازلا في قوله.
و الآية جارية على هذا المجرى فقوله: فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم «الخ» أريد به على ما تقدم: ادعهم إلى أن تحضر أنت و خاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى و العلم، و يحضروا بخاصتهم من أهليهم، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا و نساء و أبناء و لهم في أهليهم رجال و نساء و أبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال، و حكم الطبع و العادة فيه و فيهم، أما واقع الأمر و حقيقته فهو أنه لم يكن له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرجال و النساء و البنين إلا نفس و بنت و ابنان، و لم يكن لهم إلا رجال من غير نساء و لا أبناء، و لذلك لما أتاهم برجل و امرأة و ولدين لم يجبهوه بالتلحين و التكذيب، و لا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء و الأبناء و ليس عندنا نساء و لا أبناء، و لا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع و التمويه.
و من هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء و لا أبناء.
و منها: قوله و كل ما يفهم من الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا، و يبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى - إلى قوله -: و أنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين و المبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه و إبعاده من رحمته؟ و أي جرأة على الله و استهزاء بقدرته و عظمته أقوى من هذا؟.
و ملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم و نسائهم و ذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة، و ينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه؟ أ هو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم و هم يومئذ عرب ربيعة و مضر جلهم أو كلهم من اليمن و الحجاز و العراق و غيرها، و النصارى و هم أهل نجران من اليمن و نصارى الشام و سواحل البحر الأبيض و أهل الروم و الإفرنج و الإنجليز و النمسا و غيرهم.
و هؤلاء الجماهير في مشارق الأرض و مغاربها تربو نفوسهم بالرجال و النساء و الذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين و لا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها، و لازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال، و ينيط ظهور حجته، و تبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة، و كان ذلك عذرا و نعم العذر للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة، و كان ذلك أضر لدعواه منه لدعواهم.
أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين و من في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة و ما والاها، و أهل نجران و من والاهم، و هذا و إن كان أقل و أخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق و امتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة و نجران قاطبة حتى النساء و الذراري منهم في صعيد للملاعنة، و هل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال، و اعترافا بأن الحق متعذر الظهور.
أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام و الجدال من الفريقين أعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الحاضرين عنده من المؤمنين، و وفد نجران من النصارى، و يرد عليه حينئذ ما أورده بقوله: «ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم و أولادهم، و كان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور».
و منها: قوله: أما كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين.
أقول: أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق و أما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى (عليه السلام) فليت شعري من أين له إثبات ذلك؟ و الآية غير متعرضة بلفظها فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك «الخ» إلا لشأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة و الخصام مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين، و لا كلموهم بكلمة، و لا كلمهم المؤمنون بكلمة.
نعم لو دلت الآية على حصول العلم لأحد غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدل فيمن جيء به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: على الكاذبين فيما تقدم.
بل القرآن يدل على عدم عموم العلم و اليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف - 106، فوصفهم بالشرك و كيف يجتمع الشرك مع اليقين، و يقول تعالى: «و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا»: الأحزاب - 12، و يقول تعالى: «و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة، فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة و قول معروف، فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - إلى أن قال -: أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم»: محمد - 23، فاليقين لا يتحقق به إلا بعض أولي البصيرة من متبعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: «فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن»: آل عمران - 20، و قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف - 108.
و منها: قوله و في قوله ندع أبناءنا و أبناءكم «الخ» وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الأول و عدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، و إنما زيد عليه قوله: ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم، ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الأشياء عنده و أحبها إليه و هو الأبناء و النساء و الأنفس الأهل و الخاصة، و هذا إنما يتم لو كان معنى الآية: ندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ثم نبتهل، و أما لو كان المعنى ندعو نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم و تدعون أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور.
على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النصارى على أبنائه و نسائه، و سؤاله أن يسلطوه على ذراريهم و نسائهم ليتداعوا فيتم الحضور و المباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها؟.
على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط و ما يشابهه - كما تقدم منها، و أنى لنا فهمه؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط، و أن الوجه الآخر و هو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين.
و منها: قوله: و لا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، و إنما الإشكال فيه على قول الشيعة و من شايعهم على القول بالتخصيص، يريد بالإشكال ما أورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه، و هذا الإشكال غير مرتبط بشيء من الوجهين أصلا و إنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه و هو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم.
و من هنا يظهر سقوط قوله: إنما الإشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا: أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم بحسب المصداق رسول الله و علي (عليه السلام)، و لا إشكال في دعوة بعضهم بعضا.
فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه: أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام).
و قال تلميذه في المنار، بعد الإشارة إلى الروايات: و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: «قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم» الآية، قال: فجاء بأبي بكر و ولده، و عمر و ولده، و عثمان و ولده.
قال: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.
ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا: و في الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية و المناضلة الدينية، و هو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام.
أقول: أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها و اشتهارها و قد أعرض عن هذه الرواية المفسرون، و هي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع و هو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا.
و لا ولد يومئذ لجميعهم البتة.
و كأنه يريد بقوله: و الظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين، أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر جميع المؤمنين و أولادهم فيكون قوله: فجاء بأبي بكر و ولده «الخ» كناية عن إحضاره عامة المؤمنين، و كأنه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى.
و أنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ و الإعراض و المتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى.
و أما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الأطفال أيضا، و في هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره.
و قد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب و سيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية.
|