بيان
الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب و إن كان يمكن أن تستقل بنفسها و تنفصل عما تقدمها، و هو ظاهر.
قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم، الاستفهام يفيد الاستبعاد و الإنكار، و المراد به استحالة الهداية، و قد ختم الآية بقوله: و الله لا يهدي القوم الظالمين، و قد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، و ذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم و توبتهم منه.
و أما قوله: و شهدوا أن الرسول حق، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يفيده قوله: و جاءهم البينات، و إن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة و الحمية و نحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: و جاءهم البينات.
و كيف كان الأمر فانضمام قوله: و شهدوا «الخ» إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق و لجاج مع أهله و هو البغي بغير الحق و الظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة و الفلاح.
و قد قيل في قوله: و شهدوا «الخ» إنه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل، و التقدير كفروا بعد أن آمنوا و شهدوا «الخ» أو أن الواو للحال، و الجملة حالية بتقدير «قد».
قوله تعالى: أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله - إلى قوله -: و لا هم ينظرون، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى: «أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون»: البقرة - 159.
قوله تعالى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا «الخ» أي دخلوا في الصلاح، و المراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر و تطهر باطنهم بالإيمان، و أما الإتيان بالأعمال الصالحة فهو و إن كان مما يتفرع على ذلك و يلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة و لا ركنا منها، و لا في الآية دلالة عليه.
و في قوله: فإن الله غفور رحيم وضع العلة موضع المعلول و التقدير فيغفر الله له و يرحمه فإن الله غفور رحيم.
قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أولا.
كيف يهدي الله قوما كفروا «الخ» و هو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص، و المعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة عليه، و لا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد كفرا فيطغى، و لا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله و لا يقبل توبته لأنه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، و لا مطمع في اهتدائه.
و إما كافر يموت على كفره و عناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه و لا بدل لذلك حتى يفتدي به، و لا شفيع و لا ناصر حتى يشفع له أو ينصره.
و من هنا يظهر أن قوله: و أولئك هم الضالون باشتماله على اسمية الجملة، و الإشارة البعيدة في أولئك، و ضمير الفصل، و الاسمية و اللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.
و كذا يظهر أن المراد بقوله: و ما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة آية 48 من سورة البقرة فارجع إليه.
و قد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء و الناصرين لكونهما كالبدل، و البدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان و قد فاتتهم التوبة في الدنيا و لا بدل لها يحل محلها في الآخرة.
و من هنا يظهر أن قوله: و ماتوا و هم كفار في معنى: و فاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله: «و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما»: النساء - 18 فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة و انقطاع الدنيا و تفوت عند ذلك التوبة.
و الملء في قوله: ملء الأرض ذهبا مقدار ما يسعه الإناء من شيء فاعتبر الأرض إناء يملؤه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى كيف يهدي الله قوما الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، و كان قتل المجدر بن زياد البلوي غدرا، و هرب و ارتد عن الإسلام، و لحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية إلى قوله: إلا الذين تابوا، فحملها إليه رجل من قومه فقال: إني لأعلم أنك لصدوق، و رسول الله أصدق منك، و إن الله أصدق الثلاثة، و رجع إلى المدينة و تاب و حسن إسلامه:، عن مجاهد و السدي و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر عن ابن عباس: أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد و قيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثم لحق بقريش فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدي الله قوما إلى آخر القصة.
أقول: و روي القصة بطرق أخرى و فيها اختلافات، و من جملتها ما رواه عن عكرمة: أنها نزلت في أبي عامر الراهب و الحارث بن سويد بن الصامت و وحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآيات.
و منها ما في المجمع،: في قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا الآية، أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلما افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافرا، إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار الآية، نسبها إلى بعضهم.
و قيل إنها نزلت في أهل الكتاب، و قيل: إن قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل غير ذلك.
و التأمل في هذه الأقوال و الروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم.
و أما الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات، و الله أعلم.
|