بيان
هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيتهم و ألوهيتهم و على إثبات المعاد.
قوله تعالى: «الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء» إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و «الذي خلقكم» خبره، و كذا قوله: «من يفعل» إلخ مبتدأ خبره «من شركائكم» المقدم عليه و الاستفهام إنكاري و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر.
و المعنى: أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا و كذا وصفا من أوصاف الألوهية و الربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربكم لا إله إلا هو.
و لعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق.
فليس لهم أن يقولوا: إن الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبر كل شأن من شئون العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك و من المسلم أن الرزق مثلا خلق و كذا سائر الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشئون.
ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: «سبحانه و تعالى عما يشركون».
قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» الآية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضية.
و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه.
فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني.
و قوله: «بما كسبت أيدي الناس» أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض» الآية: الأعراف: 96، و أيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس و الحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر إحداهما من صلاح الأخرى و فسادها.
و قوله: «ليذيقهم بعض الذي عملوا» اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنما كان بعض ما عملوا لأن الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى: 30.
و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي و إذاقة بعضه لأكله من غير نظر إلى وبال الأعمال الأخروي فما قيل: إن المراد إذاقة الوبال الدنيوي و تأخير الوبال الأخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعله جعل تقدير الكلام: «ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير «ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا»، لأن الذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.
و قوله: «لعلهم يرجعون» أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد و نزهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام.
و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة و قول بعضهم: المراد بالبر القفار التي لا يجري فيها نهر و بالبحر كل قرية على شاطىء نهر عظيم، و قول بعضهم: البر الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن التي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البر البرية و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير في البر و مدن البحر، و لعل الذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع بمكة إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش لما لجوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف.
و قول بعضهم: إن المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كل سفينة غصبا و هو كما ترى.
قوله تعالى: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.
قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون» تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحق بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم.
و قوله: «من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله» متعلق بقوله: «فأقم» و المرد مصدر ميمي بمعنى الرد و هو بمعنى الراد و اليوم الذي لا مرد له من الله يوم القيامة.
و قوله: «يومئذ يصدعون» أصله يتصدعون، و التصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرقهم يومئذ إلى الجنة و النار.
و قيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث»: القارعة: 4. و لكل وجه، و لعل الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.
قوله تعالى: «من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون» الظاهر أنه تفسير لقوله في الآية السابقة: «يتفرقون» و قوله: «من كفر فعليه كفره» أي وبال كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها و هذا أحد الفريقين.
و قوله: «و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون» مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جيء بالجزاء «فلأنفسهم يمهدون» جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جيء به مفردا في الشرطية السابقة «فعليه كفره» نظرا إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية.
و المعنى: و الذين عملوا عملا صالحا - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرون عليه.
قوله تعالى: «ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين» قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى: «لا تجزي نفس عن نفس شيئا»، و قال: «لا يجزي والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا» و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، يقال: جزيته كذا و بكذا.
انتهى.
و قوله: «ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات من فضله» اللام للغاية و لا ينافي عد ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عده من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، و أين العبودية من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.
لكنه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكا لأعمالهم في عين أنه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، و جعل ما ينالونه من الجنة و الزلفى أجرا مقابلا لأعمالهم و هذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه.
و منشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم و اتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»: آل عمران: 31.
و لذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة و تعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشؤه حبه تعالى لهم كما يومىء إليه تذييل الآية بقوله: «إنه لا يحب الكافرين».
و من هنا يظهر أن قوله: «إنه لا يحب الكافرين»، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعا أي أنه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء و لا يحب هؤلاء.
قوله تعالى: «و من آياته أن يرسل الرياح مبشرات و ليذيقكم من رحمته و لتجري الفلك بأمره و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون»، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله.
و قوله: «و ليذيقكم من رحمته» عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة.
و قوله: «و لتجري الفلك بأمره» أي لجريان الرياح و هبوبها.
و قوله: «و لتبتغوا من فضله» أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله.
و قوله: «و لعلكم تشكرون»، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبىء عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جيء بلعل المفيدة للرجاء فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا و كان حقا علينا نصر المؤمنين» قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و استعير ذلك لكل اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى.
و الآية كالمعترضة و كأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره.
و قوله: «فانتقمنا من الذين أجرموا» الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه من النصر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس» قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دواب البحر بذلك.
و قال الصادق (عليه السلام): حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.
أقول: و هو من الجري.
و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «قل سيروا في الأرض - فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل» فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم».
و في المجمع،: في قوله: «و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون»: روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.
و فيه، و جاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من امرىء يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين»: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.
|