بيان
هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لما كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحق.
قوله تعالى: «الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء» إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكل ما علاك و أظلك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق القطر من المطر و الخلال جمع خلة و هي الفرجة.
و المعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك و تنشر سحابا و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.
قوله تعالى: «و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين» الإبلاس: اليأس و القنوط.
و ضمير «ينزل» للمطر و كذا ضمير «من قبله» على ما قيل، و عليه يكون «من قبله» تأكيدا لقوله: «من قبل أن ينزل عليهم» و فائدة التأكيد - على ما قيل - الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أن قوله: «من قبل أن ينزل عليهم» يحتمل الفسحة في الزمان فجاء «من قبله» للدلالة على الاتصال و دفع ذلك الاحتمال.
و في الكشاف، أن قوله: «من قبله» من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى: «فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها» و معنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
انتهى.
و ربما قيل: إن ضمير «من قبله» لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.
قوله تعالى: «فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى و هو على كل شيء قدير» الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشيء فيدل عليه كأثر القدم و أثر البناء و استعير لكل ما يتفرع على شيء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.
و لذا قال: «فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها» فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضا من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.
و قوله: «إن ذلك لمحيي الموتى» الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.
و المراد بقوله: «إن ذلك لمحيي الموتى» الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ و حياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.
و قوله: «و هو على كل شيء قدير» تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلا لزم تقيدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.
قوله تعالى: «و لئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون» ضمير «فرأوه» للنبات المفهوم من السياق، و قوله «لظلوا» جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و أقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.
ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم.
و قيل: ضمير «فرأوه» للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنه يذكر و يؤنث، و القولان بعيدان.
قوله تعالى: «فإنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون» تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقلها فإنهم موتى و صم و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدقها فهم مسلمون.
و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.
|