بيان
تفتتح السورة بوعد من الله و هو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله و تقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية و تصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تؤكد القول فيه إذ تقول: «فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون» و قد قيل قبيل ذلك: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين».
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه و قد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتج به و من طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.
قوله تعالى: «غلبت الروم في أدنى الأرض» الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز و اللام للعهد.
قوله تعالى: «و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين» ضمير الجمع الأول للروم و كذا الثالث و أما الثاني فقد قيل إنه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون.
و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
قوله تعالى: «لله الأمر من قبل و من بعد» قبل و بعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.
و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا.
قوله تعالى: «و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم» الظرف متعلق بيفرح و كذا قوله «ينصر» و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف و قال: «ينصر من يشاء» تقريرا لقوله: «لله الأمر من قبل و من بعد».
و قوله: «و هو العزيز الرحيم» أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء.
و في الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها: منها: أن قوله «و يومئذ» عطف على قوله: «من قبل» و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثم ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله.
و فيه أنه يبطل انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أولها.
و منها: أن قوله: «بنصر» متعلق بقوله: «المؤمنون» دون «يفرح» و يدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله.
و فيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعا فإن في الغلبة نصرا و كل نصر من الله قال تعالى: «و ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم»: آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه.
و منها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زمانا فكأنه قيل: إن الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم.
و فيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: «ينصر من يشاء».
و منها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض و تفرق كلمتهم و انكسار شوكتهم.
و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبأ بها.
قوله تعالى: «وعد الله لا يخلف الله وعده و لكن أكثر الناس لا يعلمون» «وعد الله» مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعدا و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله: «وعد الله» تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله: «سيغلبون» و «يفرح المؤمنون» كما أن قوله: «لا يخلف الله وعده» تأكيد و تقرير لقوله: «وعد الله».
و قوله: «لا يخلف الله وعده» كقوله: «إن الله لا يخلف الميعاد»: الرعد: 31 و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.
على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما و يستحيل النقص عليه تعالى.
على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عز من قائل: «و الحق أقول»: ص: 84.
و قوله: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون» أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق و يكذب و ينجز و يخلف.
قوله تعالى: «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون» جملة «يعلمون» على ما ذكره في الكشاف، بدل من قوله: «لا يعلمون» و في هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل و بين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.
و قيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق و أن لله الأمر من قبل و من بعد و أنه ينصر المؤمنين على الكافرين.
انتهى و هذا أظهر.
و تنكير «ظاهرا» للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الذي يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلقة بها و الغفلة عما فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.
و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله: و عيرها الواشون أني أحبها.
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها.
و المعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال.
قوله تعالى: «أ و لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى» إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما - و ذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية تترتب عليها.
ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق و كل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله: «ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما» بقوله: «و أجل مسمى» بعد تقييده بقوله: «إلا بالحق».
فقوله: «أ و لم يتفكروا في أنفسهم» الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال و حضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا و سعيهم للمعيشة و تشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق و يرشدهم إلى الواقع.
و قيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم و أن الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السيىء فلا بد من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة.
و فيه أن الجملة أعني قوله: «أ و لم يتفكروا في أنفسهم» صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: «ما خلق الله السماوات» إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.
و قوله: «ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى» هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا و لا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له و لا إلى أجل معين فلا يبقى شيء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كل من أجزائه و المجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها و ليس شيء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.
و قوله: «و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون» مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا إليه، و لذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به.
قوله تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر.
و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.
و قوله: «و لكن كانوا أنفسهم يظلمون» أي بالكفر و المعاصي.
قوله تعالى: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون» بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين و لذا عبر بثم، و «عاقبة» بالنصب خبر كان و اسمه «السوآى» قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و «أساءوا» مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، و السوآى الخلة التي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و «أن كذبوا بآيات الله» بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و المعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و قيل: إن «السوآى» مفعول لقوله: «أساءوا» و خبر كان هو قوله: «أن كذبوا» إلخ، و المراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.
و فيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب و الاستهزاء الذي هو أعظمها.
قوله تعالى: «الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون» بعد ما ذكر الحجة و تكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها و هو أن البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في ترجعون.
قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون» ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس اليأس من الله و فيه كل الشقاء.
قوله تعالى: «و لم يكن لهم من شركائهم شفعاء و كانوا بشركائهم كافرين» يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.
قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون» قال في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا و طيبا.
انتهى.
و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن - إلى أن قال - و قوله عز و جل: «في روضة يحبرون» أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم.
انتهى.
و المراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.
و لزوم هذا التميز و التفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: «أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون: الجاثية: 21.
قوله تعالى: «فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون و له الحمد في السماوات و الأرض و عشيا و حين تظهرون» لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة و النعمة و أهل النار و العذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله و قد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة و نعمة لكنهم نسوا الآخرة و كذبوا بآيات الله و استهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون و أن للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاما و خطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه و اتخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الردية و محمود في جميع ما خلقه و دبره في السماوات و الأرض.
و من هناك يظهر: أولا: أن التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله: «سبحان ربك رب العزة»: الصافات: 180 و قوله: «الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده»: الفرقان: 1.
و ثانيا: أن المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا.
و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.
و ثالثا: أن قوله: «و له الحمد في السماوات و الأرض» معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله: «و عشيا و حين تظهرون» معطوفان على محل «حين تمسون» لا على قوله: «في السماوات و الأرض» حتى يختص المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشي و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد.
فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمدا و ثناء لله سبحانه و أن للإنسان على مر الدهور و تغير الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدس.
نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أن الأزمنة و الأوقات على تغيرها و تصرمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثم كل ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: إسراء: 44، لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما.
و للمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي قدمناها.
و تغيير السياق في قوله: «و عشيا» لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.
و الخطاب الذي في الآيتين في قوله: «تمسون و تصبحون و تظهرون» ليس من الالتفات في شيء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ شرعت السورة، و المعنى: فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشي و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض.
و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: «ثم إليه ترجعون» و لاحقا في قوله: «و كذلك تخرجون».
قوله تعالى: «يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي و يحيي الأرض بعد موتها و كذلك تخرجون» ظاهر إخراج الحي من الميت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، و قد فسر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا و الكافر ميتا، قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا»: الأنعام: 122.
و أما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله: «و كذلك تخرجون» أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مرارا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء عن ابن عباس: في قوله: «الم غلبت الروم» قال: غلبت و غلبت. قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: الم غلبت الروم فغلبت ثم غلبت بعد. يقول الله: «لله الأمر من قبل و من بعد - و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن المقامرة كانت بين أبي بكر و أبي بن خلف و في بعضها أنها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبو بكر من قبل المسلمين و أبي من قبل المشركين، و في بعضها أنها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية.
ثم الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ست، و في بعضها سبع سنين.
و في بعضها أن الأجل المضروب أولا انقضى بمكة و هو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.
ثم في بعضها أن الأجل الثاني انقضى بمكة و في بعضها أنه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.
و في بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنه سحت تصدق به.
و الذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة و كان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر و الزنا.
على أن الخمر و الميسر من الإثم بنص آية البقرة: «يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير» الآية: البقرة: 219. و الإثم محرم بنص آية الأعراف: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي» الآية: الأعراف: 33، و الأعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمقامرة.
و على تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر لما أتى بالخطر إليه أنه سحت ثم قوله: تصدق به.
فلا سبيل إلى تصحيح شيء من ذلك بالموازين الفقهية و قد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلا إشكالا.
ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنهم و إن كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.
و في تفسير القمي،: في قوله: «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا - و هم عن الآخرة هم غافلون» قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.
و في الخصال،: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض» فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.
و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: «و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون» قال: إلى الجنة و النار.
|