بيان
تشير الآيات إلى قصة هود (عليه السلام) و قومه و هو قوم عاد.
قوله تعالى: «كذبت عاد المرسلين» قوم عاد من العرب العاربة الأولى كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب لهم مدنية راقية و أراض خصبة و ديار معمورة فكذبوا الرسل و كفروا بأنعم الله و أطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم و خرب ديارهم و عفا آثارهم.
و عاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم و بكر و تغلب و يراد بنو تميم و بنو بكر و بنو تغلب.
و قد تقدم في نظير الآية من قصة نوح وجه عد القوم مكذبين للمرسلين و لم يكذبوا ظاهرا إلا واحدا منهم.
قوله تعالى: «إني لكم رسول أمين - إلى قوله - رب العالمين» تقدم الكلام فيها في نظائرها من قصة نوح (عليه السلام).
و ذكر بعض المفسرين أن تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل و عدم سؤالهم أجرا على رسالتهم و أمرهم الناس بالتقوى و الطاعة للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق و الطاعة فيما يقرب المدعو من الثواب و يبعده من العقاب و أن الأنبياء (عليهم السلام) مجتمعون على ذلك و إن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة و الأعصار، و أنهم منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية انتهى.
و نظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله: «إن في ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين و إن ربك لهو العزيز الرحيم» ففيه دلالة على أن أكثر الأمم و الأقوام معرضون عن آيات الله، و أن الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة.
قوله تعالى: «أ تبنون بكل ريع آية تعبثون» الريع هو المرتفع من الأرض و الآية العلامة و العبث الفعل الذي لا غاية له، و كأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال و كل مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزهون فيها و يفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا و اتباعا للهوى فوبخهم عليه.
و قد ذكر للآية معان أخر لا دليل عليها من جهة اللفظ و لا ملاءمة للسياق أضربنا عنها.
قوله تعالى: «و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون»، المصانع على ما قيل: الحصون المنيعة و القصور المشيدة و الأبنية العالية واحدها مصنع.
و قوله: «لعلكم تخلدون» في مقام التعليل لما قبله أي تتخذون هذه المصانع بسبب أنكم ترجون الخلود و لو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الأعمال التي من طبعها أن تدوم دهرا طويلا لا يفي به أطول الأعمار الإنسانية، و قيل في معنى الآية و مفرداتها وجوه أخرى أغمضنا عنها.
قوله تعالى: «و إذا بطشتم بطشتم جبارين» قال في المجمع:، البطش العسف قتلا بالسيف و ضربا بالسوط، و الجبار العالي على غيره بعظيم سلطانه.
و هو في صفة الله سبحانه مدح و في صفة غيره ذم لأن معناه في العبد أنه يتكلف الجبرية.
انتهى.
فالمعنى: و إذا أظهرتم شدة في العمل و بأسا بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدة.
و محصل الآيات الثلاث أنكم مسرفون في جانبي الشهوة و الغضب متعدون حد الاعتدال خارجون عن طور العبودية.
قوله تعالى: «فاتقوا الله و أطيعون» تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة و الغضب و خروجهم عن طور العبودية فليتقوا الله و ليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الإتراف و الاستكبار.
قوله تعالى: «و اتقوا الذي أمدكم بما تعلمون» - إلى قوله - و عيون» قال الراغب: أصل المد الجر، قال: و أمددت الجيش بمدود و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، قال تعالى: «و أمددناهم بفاكهة» «و نمد له من العذاب مدا» انتهى ملخصا.
و قوله: «و اتقوا الذي أمدكم» إلخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية أي اتقوا الله الذي يمدكم بنعمه لأنه يمدكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف و استكبار فإن كفران النعمة يستعقب السخط و العذاب قال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7.
و قد ذكر النعم إجمالا بقوله أولا: «أمدكم بما تعلمون» ثم فصلها بقوله ثانيا: «أمدكم بأنعام و بنين و جنات و عيون».
و في قوله: «أمدكم بما تعلمون» نكتة أخرى هي أنكم تعلمون أن هذه النعم من إمداده تعالى و صنعه لا يشاركه في إيجادها و الإمداد بها غيره فهو الذي يجب لكم أن تتقوه بالشكر و العبادة دون الأوثان و الأصنام فالكلام متضمن للحجة.
قوله تعالى: «إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم» تعليل للأمر بالتقوى أي إني آمركم بالتقوى شكرا لأني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم أن تكفروا و لم تشكروا، و الظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم القيامة و إن جوز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.
قوله تعالى: «قالوا سواء علينا أ وعظت أم لم تكن من الواعظين» نفي لأثر كلامه و إياس له من إيمانهم بالكلية.
قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أ وعظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله: «أم لم تكن من الواعظين» النافي لأصل كونه واعظا ما لا يخفى من المبالغة.
قوله تعالى: «إن هذا إلا خلق الأولين» الخلق بضم الخاء و اللام أو سكونها قال الراغب: الخلق و الخلق - أي بفتح الخاء و ضمها - في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق - بضم الخاء - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: «إنك لعلى خلق عظيم» و قرىء «إن هذا إلا خلق الأولين» انتهى.
و الإشارة بهذا إلى ما جاء به هود و قد سموه وعظا و المعنى: ليس ما تلبست به من الدعوة إلى التوحيد و الموعظة إلا عادة البشر الأولين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات، و هذا كقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين.
و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك و عبادة الآلهة من دون الله اقتداء بآبائهم الأولين كقولهم: «وجدنا آباءنا كذلك يفعلون».
و احتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيا كما حيوا و نموت كما ماتوا و لا بعث و لا حساب و لا عذاب.
و هو بعيد من السياق.
قوله تعالى: «و ما نحن بمعذبين» إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هود (عليه السلام) يوم القيامة.
قوله تعالى: «فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية - إلى قوله - الرحيم» معناه ظاهر مما تقدم.
بحث روائي
في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في حديث: و قال نوح إن الله تبارك و تعالى باعث نبيا يقال له هود و إنه يدعو قومه إلى الله عز و جل فيكذبونه و إن الله عز و جل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه فإن الله تبارك و تعالى ينجيه من عذاب الريح. و أمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة و يكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود و زمانه الذي يخرج فيه. فلما بعث الله تبارك و تعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم و الإيمان و ميراث العلم و الاسم الأكبر و آثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا و قد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به و صدقوه و اتبعوه فنجوا من عذاب الريح، و هو قول الله عز و جل: «و إلى عاد أخاهم هودا» و قوله: «كذبت عاد المرسلين - إذ قال لهم أخوهم هود أ لا تتقون» و في المجمع،: في قوله تعالى: «آية تعبثون» أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم و إنما تريدون العبث بذلك و اللعب و اللهو كأنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا منهم عن ابن عباس في رواية عطاء، و يؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به و الإعراض عنه. فشكا ذلك إلى أصحابه و قال: و الله إني لأنكر نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أدري ما حدث في و ما صنعت؟ قالوا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى قبتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالأرض فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها. فقال: إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إذا بطشتم بطشتم جبارين» قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.
|