بيان
في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة و نبذة من حكمه و مواعظه لابنه و لم يذكر في القرآن إلا في هذه السورة و يناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة حكمة و موعظة لما قص من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا.
قوله تعالى: «و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله» إلخ، الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة و هي وسط الاعتدال بين الجهل و الجربزة.
و قوله: «أن اشكر لي» قيل: هو بتقدير القول أي و قلنا: أن اشكر لي.
و الظاهر أنه تفسير إيتائه الحكمة من غير تقدير القول، و ذلك أن حقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى إنعام المنعم، و إيقاعه كما هو حقه يتوقف على معرفة المنعم و معرفة نعمه بما هي نعمة و كيفية وضعها موضعه بحيث يحكي عن إنعامه فإيتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فإيتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة.
و في قوله: «أن اشكر لله» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و ذلك أن التكلم مع الغير من المتكلم إظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه و خدمه و قول أن اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر و هو ظاهر.
و قوله: «و من يشكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن الله غني حميد» استغناء منه تعالى أن نفع الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر و الكفر لا يتضرر به إلا نفسه دونه سبحانه و من يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه و لا ينتفع به الله سبحانه لغناه المطلق و من كفر فإنما يتضرر به نفسه إن الله غني لا يؤثر فيه الشكر نفعا و لا ضرا حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر.
و في التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار و في الكفر بالماضي الدال على المرة إشعار بأن الشكر إنما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه.
قوله تعالى: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» عظمة كل عمل بعظمة أثره و عظمة المعصية بعظمة المعصي فإن مؤاخذة العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته و كبريائه فوق كل عظمة و كبرياء بأنه الله لا شريك له و أعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له.
و قوله: «إن الشرك لظلم عظيم» حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر.
قوله تعالى: «و وصينا الإنسان بوالديه» إلى آخر الآية، اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان و ليس من كلام لقمان و إنما اطرد هاهنا للدلالة على وجوب شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته و أمره تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى و عبادته شكر.
و قوله: «حملته أمه وهنا على وهن و فصاله في عامين» ذكر بعض ما تحملته أمه من المحنة و الأذى في حمله و تربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما و خاصة الأم.
و الوهن الضعف و هو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق و التقدير تهن وهنا على وهن، و الفصال الفطم و ترك الإرضاع، و معنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق العامين فيئول إلى كون الإرضاع عامين، و إذا ضم إلى قوله تعالى: «و حمله و فصاله ثلاثون شهرا»: الأحقاف: 15، بقي لأقل الحمل ستة أشهر، و ستكرر الإشارة إليه فيما سيأتي.
و قوله: «أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير» تفسير لقوله: «وصينا» إلخ، في أول الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، و قوله: «إلي المصير» إنذار و تأكيد للأمر بالشكر.
و القول في الالتفات الواقع في الآية في قوله: «أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير» إلخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات في قوله السابق: «أن اشكر لله».
قوله تعالى: «و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما» إلى آخر الآية.
أي إن ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكا لي فلا تطعهما و لا تشرك بي، و المراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوما مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيئول المعنى: لا تشرك بي ما ليس بشيء، هذا محصل ما ذكره في الكشاف، و ربما أيده قوله تعالى: «أ تنبئونه بما لا يعلم في السماوات و لا في الأرض»: يونس: 18.
و قيل: «تشرك» بمعنى تكفر و «ما» بمعنى الذي، و المعنى: و إن جاهداك أن تكفر بي كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما و يؤيده تكرار نفي السلطان على الشريك في كلامه تعالى كقوله: «ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان»: يوسف: 40، إلى غير ذلك من الآيات.
و قوله: «و صاحبهما في الدنيا معروفا و اتبع سبيل من أناب إلي» الجملتان كالتلخيص و التوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما و النهي عن إطاعتهما إن جاهدا على الشرك بالله.
يقول سبحانه: يجب على الإنسان أن يصاحبهما في الأمور الدنيوية غير الدين الذي هو سبيل الله صحابا معروفا و معاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق و اللين من غير جفاء و خشونة و تحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا إلا أياما معدودة متصرمة، و أما الوالدين فإن كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما و إلا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
و من هنا يظهر أن في قوله: «و اتبع سبيل من أناب إلي» إيجازا لطيفا فهو يفيد أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما و إلا فلا يطاعا و لتتبع سبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
و قوله: «ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون» أي هذا الذي ذكر، تكليفكم في الدنيا ثم ترجعون إلي يوم القيامة فأظهر لكم حقيقة أعمالكم التي عملتموها في الدنيا فأقضي بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر.
و بما مر يظهر أن قوله: «في الدنيا» يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في الأمور الدنيوية دون الدينية، و ثانيا: تهوين أمر الصحبة و أنها ليست إلا في أيام قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، و ثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه بقوله: «ثم إلي مرجعكم» إلخ.
قوله تعالى: «يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله» إلخ، ذكروا أن الضمير في «أنها» للخصلة من الخير و الشر لدلالة السياق على ذلك و هو أيضا اسم كان و «مثقال حبة» خبره، و المراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات أو في الأرض، و المراد بالإتيان بها إحضارها للحساب و الجزاء.
كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد و نفي الشريك و ما في هذه الآية فصل ثان في المعاد و فيه حساب الأعمال، و المعنى: يا بني إن تكن الخصلة التي عملت من خير أو شر أخف الأشياء و أدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات و الأرض يأت بها الله للحساب و الجزاء لأن الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء و يصل إلى كل خفي خبير يعلم كنه الموجودات.
قوله تعالى: «يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور» الآية و ما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الأعمال و الأخلاق الفاضلة.
فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين و يتلوها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و من الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة.
و قوله: «إن ذلك من عزم الأمور» الإشارة إلى الصبر و الإشارة البعيدة للتعظيم و الترفيع و قول بعضهم: إن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الأمور في كلامه تعالى كقوله: «و لمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور»: الشورى: 43، و قوله: «إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور»: آل عمران: 186.
و العزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على إمضاء الأمر و كون الصبر - و هو حبس النفس في الأمر - من العزم إنما هو من حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل و ينفصم ثبت الإنسان على الأمر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد و المحافظة عليه و هو من قدرة النفس و شهامتها.
و قول بعضهم: إن المعنى أن ذلك من عزيمة الله و إيجابه في الأمور بعيد و كذا قول بعضهم: إن العزم هو الجزم و هو لغة هذيل.
قوله تعالى: «و لا تصعر خدك للناس و لا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور» قال الراغب: الصعر ميل في العنق و التصعير إمالته عن النظر كبرا قال: «و لا تصعر خدك للناس» و قال: المرح شدة الفرح و التوسع فيه انتهى.
فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا و لا تمش في الأرض مشية من اشتد فرحه إن الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء - و هو التكبر بتخيل الفضيلة - و يكثر من الفخر.
و قال بعضهم إن معنى: «لا تصعر خدك للناس» لا تلو عنقك لهم تذللا عند الحاجة و فيه أنه لا يلائمه ذيل الآية.
قوله تعالى: «و اقصد في مشيك و اغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» القصد في الشيء الاعتدال فيه و الغض - على ما ذكره الراغب - النقصان من الطرف و الصوت فغض الصوت النقص و القصر فيه.
و المعنى: و خذ بالاعتدال في مشيك و بالنقص و القصر في صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين و اليأس من روح الله و الأمن من مكر الله و قد روي: أكبر الكبائر الشرك بالله.
و في الفقيه، في الحقوق المروية عن سيد العابدين (عليه السلام): حق الله الأكبر عليك أن تعبده و لا تشرك به شيئا فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا و الآخرة. قال: و أما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا و أعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا و وقتك بجميع جوارحها، و لم تبال أن تجوع و تطعمك، و تعطش و تسقيك، و تعرى و تكسوك، و تضحى و تظلك، و تهجر النوم لأجلك، و وقتك الحر و البرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله و توفيقه. و أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فإنك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله و اشكره على قدر ذلك و لا قوة إلا بالله.
و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك.
و في المناقب،: مر الحسين بن علي (عليهما السلام) على عبد الرحمن بن عمرو بن العاص. فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز و ما كلمته منذ ليالي صفين. فأتى به أبو سعيد الخدري إلى الحسين (عليه السلام) فقال له الحسين (عليه السلام): أ تعلم أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء و تقاتلني و أبي يوم صفين؟ و الله إن أبي لخير مني. فاستعذر و قال إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي: أطع أباك. فقال له الحسين (عليه السلام): أ ما سمعت قول الله عز و جل: «و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما» و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما الطاعة بالمعروف، و قوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
و في الفقيه،: في ألفاظه (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجزة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا، يقول أحدكم أذنب و أستغفر إن الله عز و جل يقول: «و نكتب ما قدموا و آثارهم - و كل شيء أحصيناه في إمام مبين و قال عز و جل: «إنها إن تك مثقال حبة من خردل - فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض - يأت بها الله إن الله لطيف خبير».
و فيه، بإسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة.
الحديث.
و فيه، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: الصلاة قربان كل تقي.
و في المجمع،: «و اصبر على ما أصابك» من المشقة و الأذى في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: عن علي (عليه السلام). و فيه،: في قوله تعالى: «و لا تصعر خدك للناس» أي و لا تمل وجهك من الناس بكل و لا تعرض عمن يكلمك استخفافا به،: و هذا المعنى قول ابن عباس و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن عدي و ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: «و لا تصعر خدك للناس» قال: إلى الشدق.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة و الرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن.
أقول: و في جميع هذه المعاني و خاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة.
كلام في قصة لقمان و نبذ من حكمه، في فصلين
1 - لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى إلا في سورة لقمان و لم يذكر من قصصه إلا ما في قوله عز من قائل: «و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله» و قد وردت في قصته و حكمه روايات كثيرة مختلفة و نحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار.
ففي الكافي، عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله قال: «و لقد آتينا لقمان الحكمة» قال: الفهم و العقل.
و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: حقا أقول لم يكن لقمان نبيا و لكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه و من عليه بالحكمة. كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن هو عزم علي فسمعا و طاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني. فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وفى فبالحري أن ينجو، و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يوازر داود بحكمته فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: كان حبشيا.
2 - و في تفسير القمي، بإسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان و حكمته التي ذكرها الله عز و جل، فقال: أما و الله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب و لا مال و لا أهل و لا بسط في جسم و لا جمال. و لكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط و لم يره أحد من الناس علي بول و لا غائط و لا اغتسال لشدة تستره و عموق نظره و تحفظه في أمره، و لم يضحك من شيء قط مخافة الإثم و لم يغضب قط، و لم يمازح إنسانا قط، و لم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا و لا حزن منها على شيء قط و قد نكح من النساء و ولد له من الأولاد الكثير و قدم أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم. و لم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما و لم يمض عنهما حتى تحابا، و لم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره و عمن أخذه، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين لغرتهم بالله و طمأنينتهم في ذلك، و يعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه و يجاهد به هواه و يحترز به من الشيطان يداوي قلبه بالفكر و يداوي نفسه بالعبر، و كان لا يظعن إلا فيما يعنيه فبذلك أوتي الحكمة و منح العصمة. و إن الله تبارك و تعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار و هدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع و لا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع و الطاعة لأنه إن فعل ذلك أعانني عليه و علمني و عصمني و إن هو خيرني قبلت العافية. فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل و أكثر فتنا و بلاء يخذل و لا يعان و يغشاه الظلم من كل مكان و صاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا، و من اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه و لا تدرك تلك. قال: فتعجب الملائكة من حكمته و استحسن الرحمن منطقه فلما أمسى و أخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه و هو نائم و غطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ و هو أحكم الناس في زمانه، و خرج على الناس ينطق بالحكمة و يبثها فيها. قال: فلما أوتي الحكم بالخلافة و لم يقبلها أمر الله عز و جل الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها و لم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز و جل الخلافة في الأرض و ابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطإ يقيله الله و يغفر له، و كان لقمان يكثر زيارة داود (عليه السلام) و يعظه بمواعظه و حكمته و فضل علمه، و كان داود يقول له: طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة و صرفت عنك البلية و أعطي داود الخلافة و ابتلي بالحكم و الفتنة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه - يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» قال: فوعظ لقمان ابنه باثار حتى تفطر و انشق. و كان فيما وعظه به يا حماد أن قال: يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها و استقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء و زاحمهم بركبتيك و لا تجادلهم فيمنعوك، و خذ من الدنيا بلاغا و لا ترفضها فتكون عيالا على الناس، و لا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك، و صم صوما يقطع شهوتك و لا تصم صياما يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام. يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان و اجعل شراعها التوكل، و اجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله و إن هلكت فبذنوبك. يا بني: إن تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا و من عنى بالأدب اهتم به، و من اهتم به تكلف علمه و من تكلف علمه اشتد له طلبه و من اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فإنك تخلف في سلفك و ينتفع به من خلفك و يرتجيك فيه راغب و يخشى صولتك راهب، و إياك و الكسل عنه بالطلب لغيره فإن غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة و إذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة و اجعل في أيامك و لياليك و ساعاتك نصيبا في طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعا أشد من تركه و لا تمارين فيه لجوجا و لا تجادلن فقيها و لا تعادين سلطانا، و لا تماشين ظلوما و لا تصادقنه و لا تؤاخين فاسقا و لا تصاحبن متهما و اخزن علمك كما تخزن ورقك. يا بني: خف الله عز و جل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك و ارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك. فقال له ابنه: يا أبت كيف أطيق هذا و إنما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان: يا بني: لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف و نور للرجاء لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز و جل و من يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، و من لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض. فمن يؤمن بالله إيمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا و من يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا و من أطاع الله خافه، و من خافه فقد أحبه، و من أحبه فقد اتبع أمره و من اتبع أمره استوجب جنته و مرضاته، و من لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله. يا بني: لا تركن إلى الدنيا و لا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها أ لا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين و لم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.
و في قرب الإسناد:، هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): قيل للقمان: ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته و لا أضيع ما وليته.
- و في البحار، عن قصص الأنبياء بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بني: إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم و لن تستطيع ذلك و إن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه و لن تستطيع ذلك فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك و إنما النوم بمنزلة الموت و إنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، و قال: قال لقمان لابنه: يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك و لا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها و ابن آدم لا يحب مثله. لا تنشر بزك إلا عند باغيه، و كما ليس بين الكبش و الذئب خلة، كذلك ليس بين البار و الفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، و من يدخل مدخل السوء يتهم، و من يقارن قرين السوء لا يسلم، و من لا يملك لسانه يندم. و قال يا بني صاحب مائة و لا تعاد واحدا، يا بني إنما هو خلاقك و خلقك فخلاقك دينك و خلقك بينك و بين الناس فلا تبغضن إليهم و تعلم محاسن الأخلاق. يا بني كن عبدا للأخيار و لا تكن ولدا للأشرار. يا بني أد الأمانة تسلم دنياك و آخرتك و كن أمينا فإن الله لا يحب الخائنين. يا بني لا تر الناس أنك تخشى الله و قلبك فاجر.
و في الكافي، بإسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان فيما وعظ به لقمان لابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا و لم يبق من جمعوا له، و إنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل و وعدت عليه أجرا فأوف عملك و استوف أجرك، و لا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، و لكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها و لم ترجع إليها آخر الدهر أخربها و لا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها. و اعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز و جل عن أربع: شبابك فيما أبليته، و عمرك فيما أفنيته، و مالك مما اكتسبته و فيما أنفقته، فتأهب لذلك و أعد له جوابا و لا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه و كثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك، و جد في أمرك، و اكشف الغطاء عن وجهك، و تعرض لمعروف ربك، و جدد التوبة في قلبك، و أكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك، و يقضى قضاؤك، و يحال بينك و بين ما تريد.
و في البحار، عن القصص بإسناده عن حماد عن الصادق (عليه السلام) قال: قال لقمان: يا بني إياك و الضجر و سوء الخلق و قلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، و ألزم نفسك التؤدة في أمورك و صبر على مئونات الإخوان نفسك، و حسن مع جميع الناس خلقك. يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك و تتفضل به على إخوانك فلا يعدمنك حسن الخلق و بسط البشر فإن من أحسن خلقه أحبه الأخيار و جانبه الفجار، و اقنع بقسم الله ليصفو عيشك فإن أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس فإنما بلغ الأنبياء و الصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.
أقول: و الأخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه إيثارا للاختصار.
|