بيان
رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية و نفي الشريك و أدلتها المنتهية إلى قوله: «هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين».
قوله تعالى: «أ لم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة» رجوع إلى ما قبل قصة لقمان و هو الدليل على أن الخطاب للمشركين و إن كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب.
و عليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتصل بقوله: «هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه» و لا التفات في قوله: «أ لم تروا».
و على تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله: «أ لم تروا» التفات من سياق الغيبة الذي في قوله: «بل الظالمون في ضلال مبين» إلى الخطاب، و الالتفات في مثل هذه الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم و تأكد غيظه من جهل المخاطبين و تماديهم في غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة و لا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرأى منهم و مسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم و ينتزعوا عن غفلتهم.
و كيف كان فالمراد بتسخير السماوات و الأرض للإنسان و هم يرون ذلك ما نشاهده من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة و الإنسان خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور و الإرادة فقد سخر الله الكون لأجله.
و التسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر و يريده كتسخير الكاتب القلم للكتابة و كما يسخر المولى عبده و المخدوم خادمه في أن يفعل باختياره و إرادته ما يختاره و يريده المولى و المخدوم و الأسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الإنساني.
و مما مر يظهر أن اللام في «لكم» للتعليل الغائي و المعنى لأجلكم و المسخر بالكسر هو الله تعالى دون الإنسان، و ربما احتمل كون اللام للملك و المسخر بالكسر هو الإنسان بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الإنسان بمرور الزمان في تسخير أجزاء الكون و استخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله: «أ لم تروا».
و قوله: «و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة» الإسباغ الإتمام و الإيساع أي أتم و أوسع عليكم نعمه، و النعم جمع نعمة و هو في الأصل بناء النوع و غلب عليه استعماله في ما يلائم الإنسان فيستلذ منه، و المراد بالنعم الظاهرة و الباطنة بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع و البصر و سائر الجوارح و الصحة و العافية و الطيبات من الرزق و النعم الغائبة عن الحس كالشعور و الإرادة و العقل.
و بناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم و كالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم و آخرتهم و الباطنة منها كما تقدم و كالمقامات المعنوية التي تنال بإخلاص العمل.
و قوله: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير» رجوع الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان في السياق السابق، و المجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة، و المقابلة بين العلم و الهدى و الكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية، و بالهدى ما يفيضه الله بالوحي أو الإلهام، و بالكتاب الكتاب السماوي المنتهي إليه تعالى بالوحي النبوي و لذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها.
فمعنى قوله: يجادل في الله بغير كذا و كذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا» إلخ، ضمائر الجمع راجعة إلى «من» باعتبار المعنى كما أن ضمير الإفراد في الآية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ.
و قوله: «و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله» في التعبير بما أنزل الله من غير أن يقال: اتبعوا الكتاب أو القرآن إشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم فيها لأن نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل: و إذا دعوا إلى دين التوحيد الذي يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه، و بعبارة أخرى إذا ألقى إليهم القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.
و قوله: «أ و لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير» أي أ يتبعون آباءهم و لو كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير؟ فالاستفهام للإنكار و لو وصلية معطوفة على محذوف مثلها و التقدير أ يتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان و لو دعاهم.
و محصل الكلام: أن الاتباع إنما يحسن إذا كانوا على الحق و أما لو كانوا على الباطل و كان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء و عذاب السعير و هو كذلك فإنه اتباع في عبادة غير الله و لا معبود غيره.
قوله تعالى: «و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى و إلى الله عاقبة الأمور» استئناف و يحتمل أن يكون حالا من مفعول «يدعوهم» و في معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم، و المعنى: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى كذا و الحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا و أفلح و الحال أن عاقبة الأمور ترجع إلى الله فيجب أن يكون هو المعبود.
و إسلام الوجه إلى الله تسليمه له و هو إقبال الإنسان بكليته عليه بالعبادة و إعراضه عمن سواه.
و الإحسان الإتيان بالأعمال الصالحة عن إيقان بالآخرة كما فسره به في أول السورة «هدى و رحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم بالآخرة هم يوقنون» و العروة الوثقى المستمسك الذي لا انفصام له.
و المعنى: و من وحد الله و عمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة في عاقبة أمره لأنها إلى الله و هو الذي يعده بالنجاة و الفلاح.
و من هنا يظهر أن قوله: «و إلى الله عاقبة الأمور» في مقام التعليل لقوله: «فقد استمسك بالعروة الوثقى» بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة و الفلاح.
قوله تعالى: «و من كفر فلا يحزنك كفره - إلى قوله - إلى عذاب غليظ» تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن و هم بالآخرة راجعون إليه تعالى فينبؤهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم و تبعاتها و هي النار.
و قوله: «نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ» كشف عن حقيقة حالهم ببيان آخر فإن البيان السابق «إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا» ربما أوهم أنهم ما داموا متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا منه فانتقم منهم بالعذاب جيء بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من التدبير قط و إنما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون مقهورون على كل حال و أمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم و لا غيرها.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون» إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا يشعرون، فإنهم إن سئلوا عمن خلق السماوات و الأرض اعترفوا بأنه الله عز اسمه و إذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لأن التدبير لا ينفك عن الخلق، و إذا كان مدبر الأمر و المنعم الذي يبسط و يقبض و يرجى و يخاف هو فالمعبود هو هو وحده لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون.
و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال: «قل الحمد لله» ثم أشار إلى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى اعترافهم أن الله هو الخالق و ما يستلزمه فقال: «بل أكثرهم لا يعلمون» نعم قليل منهم يعلمون ذلك و لكنهم لا يطاوعون الحق بل يجحدونه و قد أيقنوا به كما قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14.
قوله تعالى: «لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني الحميد» لما كان اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه إنما يثبت التوحد بالربوبية و الألوهية إذا كان التدبير و التصرف إليه تعالى و كان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به في تمام الحجة و استحمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و استجهل القوم لغفلتهم.
ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا مطلقا و تقريره أنه تعالى مبدىء كل خلق و معطي كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه الأشياء فهو غني على الإطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدئا له معطيا لكماله هذا خلف، و إذا كان غنيا على الإطلاق كان له ما في السماوات و الأرض فهو المالك لكل شيء على الإطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير و تصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شيء من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه و إذا كان التدبير و التصرف له تعالى فهو رب العالمين و الإله الذي يعبد و يشكر إنعامه و إحسانه.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله: «لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني» فقوله: «لله ما في» إلخ، حجة على وحدانيته و قوله: «إن الله هو الغني» تعليل للملك.
و أما قوله: «الحميد» أي المحمود في أفعاله فهو مبدأ آخر للحجة و ذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري و كل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء فيه فهو حميد على الإطلاق و لو كان شيء من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد و الثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الإطلاق و بالنسبة إلى كل شيء و قد فرض أنه حميد على الإطلاق هذا خلف.
قوله تعالى: «و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» إلخ، «من شجرة» بيان للموصول و الشجرة واحد الشجر و تفيد في المقام - و هي في سياق «لو» الاستغراق أي كل شجرة في الأرض، و المراد بالبحر مطلق البحر، و قوله: «يمده من بعده سبعة أبحر» أي يعينه بالانضياف إليه سبعة أمثاله و الظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد و الكلمة هي اللفظ الدال على معنى، و قد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى، و قد قال: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82، و قد أطلق على المسيح (عليه السلام) الكلمة في قوله: «و كلمته ألقاها إلى مريم»: النساء: 171.
فالمعنى: و لو جعل أشجار الأرض أقلاما و أخذ البحر و أضيف إليه سبعة أمثاله و جعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظا دالة عليها - بتلك الأقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية.
و من هنا يظهر أن في الكلام إيجازا بالحذف و أن قوله: «إن الله عزيز حكيم» في مقام التعليل، و المعنى: لأنه تعالى عزيز لا يعزه و لا يقهره شيء فهذه الكتابة لا ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره.
و الآية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره فسيقت هذه الآية للدلالة على سعة تدبيره و كثرة أوامره التكوينية في الخلق و التدبير إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا و كتبت به أشجار الأرض المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره و كلماته.
قوله تعالى: «ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير» سوق للكلام إلى إمكان الحشر و خاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى و اختلاطهم بالأرض من غير تميز بعضهم من بعض.
فقال تعالى: «ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة» في الإمكان و التأتي فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن و لا يعجزه كثرة و لا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد و الجمع، و ذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء و العود من حيث السهولة و الصعوبة بل لا يتصف فعله بالسهولة و الصعوبة.
و يشهد لما ذكر إضافة الخلق و البعث إلى ضمير الجمع المخاطب و المراد به الناس ثم تنظيره بالنفس الواحدة، و المعنى: ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم و لا بعثكم إلا كخلق نفس واحدة و بعثها فأنتم على كثرتكم و النفس الواحدة سواء لأنه لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم و البعث لجزاء الأعمال فإنما يشكل من جهة الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها و اختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها لأنه سميع لأقوالكم بصير بأعمالكم و بعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة.
و بما مر يندفع الاعتراض على الآية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير و بعثهم كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا: إن الله على كل شيء قدير أو قوي عزيز أو ما يشبه ذلك لا بمثل السميع البصير الذي لا ارتباط له بالخلق و البعث.
و ذلك أن الإشكال الذي تعرضت الآية لدفعه هو أن البعث لجزاء الأعمال و هي على كثرتها و اندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالإشكال متوجه إلى ما ذكره قبل ثلاث آيات بقوله: «فننبئهم بما عملوا» و قد أجيب بأنه كيف يخفى عليه شيء من الأقوال و الأعمال و هو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول و لا فعل.
و قد كان ذيل قوله السابق: «فننبئهم بما عملوا» بقوله: «إن الله عليم بذات الصدور» و هو مبني على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة و السيئة كما يشير إليه قوله: «و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: البقرة: 284، و جواب عن هذا الإشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته فيجاب عنه أن الله عليم بذات الصدور و لو وجه إلى نفس الأعمال الخارجية من الأقوال و الأفعال فالجواب عنه بما في هذه الآية التي نحن فيها: «إن الله سميع بصير»، فالإشكال و الجواب بوجه نظير ما وقع في قوله تعالى: «قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى»: طه: 52، فافهم.
و قد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و سخر الشمس و القمر كل يجري إلى أجل مسمى» إلخ، استشهاد لما تقدم في الآية السابقة من علمه بالأعمال بأن التدبير الجاري في نظام الليل و النهار حيث يزيد هذا و ينقض ذاك و بالعكس بحسب الفصول المختلفة و بقاع الأرض المتفرقة في نظم ثابت جار على اختلافه، و كذا التدبير الجاري في الشمس و القمر على اختلاف طلوعهما و غروبهما و اختلاف جريانهما و مسيرهما بحسب الحس و كل منهما يجري لأجل مسمى و لا اختلاف و لا تشوش في النظام الدقيق الذي لهما فهذا كله مما يمتنع من غير علم و خبرة من مدبرها.
فالمراد بإيلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول و إشغاله بعض ساعات النهار من قبل و بإيلاج النهار في الليل عكس ذلك، و المراد بجريان الشمس و القمر المسخرين إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما إلى بدء فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجاري و أمعن فيه لم يشك في أن مدبره إنما يدبره عن علم لا يخالطه جهل و ليس ذلك عن صدفة و اتفاق.
و قوله: «و أن الله بما تعملون خبير» عطف على موضع «أن الله يولج» و التقدير أ لم تر أن الله بما تعملون خبير و ذلك لأن من شاهد نظام الليل و النهار و الشمس و القمر لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله و دقائقها، كذا قيل.
و فيه أن استنتاج العلم بالأعمال من العلم بالنظام الجاري في الليل و النهار و الشمس و القمر و إن صح في نفسه فهو علم حدسي لا مصحح لتسميتها رؤية و هو ظاهر.
و لعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالأعمال أن الإنسان لو أمعن في النظام الجاري في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الإنساني موزعة من جهة إلى الأعمال الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع و بصر و شم و ذوق و لمس و الصادرة عن القوى الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى و الأدوات أو كلها و من جهة إلى جاذبة و دافعة و من جهة إلى سني العمر من طفولية و رهاق و شباب و شيب إلى غير ذلك.
ثم في ارتباط بعضها ببعض و استخدام بعضها لبعض و اهتداء النفس إلى وضع كل في موضعه الذي يليق به و حركته بهذه القافلة من القوى و الأعمال نحو غايتها من الكمال و سعادتها في المال و تورطها في ورطات عالم المادة و موطن الزينة و الفتنة فمن ناج أو هالك.
فإذا أمعن في هذا النظام المحير للأحلام لم يرتب أنه تقدير قدره ربه و نظام نظمه صانعه العليم القدير و مشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما يعملون خبير، و الله العالم.
قوله تعالى: «ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل و أن الله هو العلي الكبير» لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شيء فيستند إليه في وجوده و تدبير أمره و أن إليه عود كل شيء من غير فرق بين الواحد و الكثير و أنه ليس إلى من يدعون من دونه خلق و لا أمر جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما تقدم: «ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل» إلخ.
توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته و الباطل يقابل الحق فهو اللاثابت من جهة عدم ثبوته، و قوله: «إن الله هو الحق» بما فيه من ضمير الفصل و تعريف الخبر باللام يفيد القصر أعني حصر المبتدإ في الخبر.
فقوله: «بأن الله هو الحق» قصر له تعالى في الثبوت، أي هو ثابت لا يشوب ثبوته بطلان و بعبارة أخرى هو ثابت من جميع الجهات و بعبارة ثالثة هو موجود على كل تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد و لا مشروط بشرط فوجوده ضروري و عدمه ممتنع و غيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير و هو تقدير وجود سببه و هو الوجود المقيد الذي يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته.
و إذا كان حقية الشيء هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته و غيره إنما يحق و يتحقق به.
و إذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا: أن الأشياء بأجمعها تستند في وجودها إليه تعالى و أيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة و في النظامات الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها و كل فرد من أفرادها إليه تعالى.
و ثانيا: أن الكمالات الوجودية التي هي صفات الوجود كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الوحدة و الخلق و الملك و الغنى و الحمد و الخبرة - مما عد في الآيات السابقة أو لم يعد - صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه و عز قدسه لأنها صفات وجودية و الوجود قائم به تعالى فهي إما عين ذاته كالعلم و القدرة و إما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق و الرزق و الرحمة.
و ثالثا: أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره و كل ما يحمل معنى الفقد و النقص مسلوب عنه تعالى و هذه هي الصفات السلبية كنفي الشريك و نفي التعدد و نفي الجسم و المكان و الزمان و الجهل و العجز و البطلان و الزوال إلى غيرها.
فإن إطلاق وجوده و عدم تقيده بقيد ينفي عنه كل معنى عدمي أي إثبات الوجود مطلقا فإن مرجع نفي النفي إلى الإثبات.
و لعل قوله: «و أن الله هو العلي الكبير» يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها بناء على أن اسم «العلي» يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات السلبية و الكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.
و أن صدر الآية برهان على ذيلها و ذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات الثبوتية و السلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال فهو الله عز اسمه.
و قوله: «و أن ما يدعون من دونه الباطل» يجري فيه ما جرى في قوله: «ذلك بأن الله هو الحق» فالذي يدعونه من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء و لا إليهم من الخلق و التدبير شيء لأن الشريك في الألوهية و الربوبية باطلا لا حق فيه و إذ كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق و لا تدبير مطلقا.
و الحق و العلي و الكبير ثلاثة من الأسماء الحسنى و قد تحقق مما تقدم أن الحق في معنى الواجب الوجود و أن العلي من الصفات السلبية و الكبير من الصفات الثبوتية قريب المعنى من قولنا: المستجمع لصفات الكمال.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته» إلخ، الباء في «بنعمة الله» للسببية و ذكر النعمة كالتوطئة لآخر الآية و فيه تلويح إلى وجوب شكره على نعمته لأن شكر المنعم واجب.
و المعنى: أ لم تر أن الفلك تجري و تسير في البحر بسبب نعمة الله و هي أسباب جريانها من الريح و رطوبة الماء و غير ذلك.
و احتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية و المراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام و سائر أمتعة الحياة.
و قد تمم الآية بقوله: «إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور» و الصبار الشكور أي كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل.
قوله تعالى: «و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين» إلخ، قال الراغب: الظلة سحابة تظل و أكثر ما يقال فيما يستوخم و يكره، قال: «كأنه ظلة» «عذاب يوم الظلة» انتهى.
و المعنى: و إذا غشيهم و أحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى الله و دعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي و في ذلك دليل على أن فطرتهم على التوحيد.
و قوله: «فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد» المقتصد سالك القصد أي الطريق المستقيم و المراد به التوحيد الذي دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك، و في التعبير بمن التبعيضية استقلال عدتهم أي فلما نجا الله سبحانه هؤلاء الداعين بالإخلاص إلى البر فقليل منهم المقتصدون.
و قوله: «و ما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور» الختار مبالغة من الختر و هو شدة الغدر و في السياق دليل على الاستكثار و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم» لما ساق الحجج و المواعظ الشافية الوافية جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى و ينذرهم بيوم القيامة الذي لا يغني فيه مغن إلا الإيمان و التقوى.
قال الراغب: الجزاء الغنى و الكفاية، و قال: يقال: غررت فلانا أصبت غرته و نلت منه ما أريد و الغرة غفلة في اليقظة و الغرار غفلة مع غفوة، إلى أن قال: فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و قد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين و بالدنيا لما قيل: الدنيا تغر و تضر و تمر انتهى.
فمعنى الآية: «يا أيها الناس اتقوا ربكم» و هو الله سبحانه «و اخشوا يوما» و هو يوم القيامة «لا يجزى» لا يغني «والد عن ولده و لا مولود هو جاز» مغن كاف «عن والده» شيئا «إن وعد الله» بالبعث «حق» ثابت لا يخلف «فلا تغرنكم الحياة الدنيا» بزينتها الغارة «و لا يغرنكم بالله الغرور» أي جنس ما يغر الإنسان من شئون الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان.
قوله تعالى: «إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» الغيث المطر و معنى جمل الآية ظاهر.
و قد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه و هي العلم بالساعة و هو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلا هو و يدل على القصر قوله: «إن الله عنده علم الساعة» و تنزيل الغيث و علم ما في الأرحام و يختصان به تعالى إلا أن يعلمه غيره.
و عد أمرين آخرين يجهل بهما الإنسان و بذلك يجهل كل ما سيجري عليه من الحوادث و هو قوله: «و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا» و قوله: «و ما تدري نفس بأي أرض تموت».
و كان المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق و جل حتى مثل الساعة التي لا يتيسر علمها للخلق و أنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم و أنتم لا تعلمون فإياكم أن تشركوا به و تتمردوا عن أمره و تعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم.
بحث روائي
في كمال الدين، بإسناده إلى حماد بن أبي زياد قال: سألت سيدي موسى بن جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة» فقال: النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، و الباطنة الإمام الغائب.
أقول: هو من الجري و الآية أعم مدلولا.
و في تفسير القمي، بإسناده عن جابر قال: قال رجل عند أبي جعفر (عليه السلام): «و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة» قال: أما النعمة الظاهرة فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما جاء به من معرفة الله عز و جل و توحيده و أما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودتنا. الحديث.
أقول: هو كسابقه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و أسبغ عليكم» الآية،: و في رواية الضحاك عن ابن عباس قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه فقال: يا ابن عباس أما ما ظهر فالإسلام و ما سوى الله من خلقك و ما أفاض عليك من الرزق و أما ما بطن فستر مساوي عملك و لم يفضحك به، يا ابن عباس إن الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهن للمؤمن و لم يكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، و جعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه، و الثالث سترت مساوي عمله و لم أفضحه بشيء منه و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم. أقول: روى ما يقرب منه في الدر المنثور، بطرق عن ابن عباس، و الحديث كسابقيه من الجري.
و في التوحيد، بإسناده عن عمر بن أذينة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه فذلك قوله عز و جل: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله».
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ لم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله» قال: السفن تجري في البحر بقدرة الله.
و فيه،: في قوله: «إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور» قال: الذي يصبر على الفقر و الفاقة و يشكر الله عز و جل على جميع أحواله.
و في المجمع،: في الآية و في الحديث: الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر.
أقول: و هو مأخوذ من الآية فقد مر أنه كناية عن المؤمن.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إلا كل ختار كفور» قال: الختار الخداع و في قوله: «إن وعد الله حق» قال: ذلك القيامة.
و في إرشاد المفيد،: من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها: الدنيا دار صدق لمن صدقها، و دار عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله و مهبط وحيه، و مصلى ملائكته و متجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، و ربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها؟ و قد آذنت ببينها، و نادت بفراقها، و نعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى السرور، و حذرت ببلائها البلاء تخويفا و تحذيرا و ترغيبا و ترهيبا. فيا أيها الذام للدنيا و المغتر بتغريرها متى غرتك؟ أ بمصارع آبائك في البلى أم بمصارع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك و مرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء و استوصفت لهم الأطباء، و تلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبك و لم تشفعهم بشفاعتك مثلت بهم الدنيا مصرعك و مضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك و لا تغني عنك أحباؤك.
و في الخصال، عن أبي أسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أ لا أخبركم بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟ قال: قلت: بلى قال: «إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث - و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا - و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير».
أقول: هناك روايات كثيرة جدا عن النبي و الأئمة (عليهم السلام) تخبر عن مستقبل حالهم و عن زمان موتهم و مكانه و هي تقيد هذه الرواية و ما في معناها من الروايات بالتعليم الإلهي لكن بعض الروايات يأبى التقييد و لا يعبأ بأمرها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة: أن رجلا يقال له الوراث من بني مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، متى تقوم الساعة؟ و قد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ و قد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ و قد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ و قد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية.
أقول: الحديث لا يخلو من شيء لعدم انطباق الآية على فقرات السؤال.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: لم يعم على نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إلى آخر السورة.
|