بيان
غرض السورة تقرير المبدإ و المعاد و إقامة الحجة عليهما و دفع ما يختلج القلوب في ذلك مع إشارة إلى النبوة و الكتاب ثم بيان ما يتميز به الفريقان المؤمنون بآيات الله حقا و الفاسقون الخارجون عن زي العبودية و وعد أولئك بما هو فوق تصور المتصورين من الثواب و وعيد هؤلاء بالانتقام الشديد بأليم العذاب المخلد و أنهم سيذوقون عذابا أدنى دون العذاب الأكبر، و تختتم السورة بتأكيد الوعيد و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالانتظار كما هم منتظرون.
و هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت - كما قيل - بالمدينة و هي قوله تعالى: «أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا» إلى تمام ثلاث آيات.
و الذي أوردناه من آياتها يتضمن الفصل الأول من فصلي غرض السورة الذي أشرنا إليه.
قوله تعالى: «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين»، أي هذا تنزيل الكتاب، و التنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول و إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف، و المعنى: هذا هو الكتاب المنزل لا ريب فيه.
و قوله: «من رب العالمين» فيه براعة استهلال لما في غرض السورة أن يتعاطى بيانه من الوحدانية و المعاد اللذين ينكرهما الوثنية لما مر مرارا أنهم لا يقولون برب العالمين بل يثبتون لكل عالم إلها و لمجموع الآلهة إلها هو الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
قوله تعالى: «أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك» إلخ، أم منقطعة، و المعنى: بل يقولون افترى القرآن على الله و ليس من عنده فرده بقوله: «بل هو الحق من ربك لتنذر» إلخ.
و قوله: «لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك» قيل: يعني قريشا فإنهم لم يأتهم نبي قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلاف غيرهم من قبائل العرب فإنهم أتاهم بعض الأنبياء كخالد بن سنان العبسي و حنظلة على ما في الروايات.
و قيل: المراد به أهل الفترة بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا كأنهم في غفلة عما لزمهم من حق نعم الله و ما خلقهم له من العبادة و فيه أن معنى الفترة هو عدم انبعاث نبي له شريعة و كتاب و أما الفترة عن مطلق النبوة فلا نسلم تحققها و خلو جميع الزمان و هو قريب من ستة قرون من النبي مطلقا.
و قوله: «لعلهم يهتدون» غاية رجائية لإرسال الرسول و الترجي قائم بالمقام أو بالمخاطب دون المتكلم كما تقدم في نظائره.
قوله تعالى: «الله الذي خلق السماوات و الأرض - إلى قوله - أ فلا تتذكرون» تقدم الكلام في تفسير قوله: «خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش» في نظائره من الآيات و تقدم أيضا أن الاستواء على العرش كناية عن مقام تدبير الموجودات بنظام عام إجمالي يحكم على الجميع و لذا اتبع العرش في أغلب ما وقع فيه من الموارد بما فيه معنى التدبير كقوله: «ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار»: الأعراف: 54 و قوله: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر»: يونس: 3، و قوله: «ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض»: الحديد: 4، و قوله: «ذو العرش المجيد فعال لما يريد»: البروج: 16.
و الوجه في ذكر الاستواء على العرش، بعد ذكر خلق السماوات و الأرض أن الكلام في اختصاص الربوبية و الألوهية بالله وحده و مجرد استناد الخلقة إليه تعالى لا ينفع في إبطال ما يقول به الوثنية شيئا فإنهم لا ينكرون استناد الخلقة إليه وحده و إنما يقولون باستناد التدبير و هو الربوبية للعالم إلى آلهتهم ثم اختصاص الألوهية و هي المعبودية بآلهتهم و لله تعالى من الشأن أنه رب الأرباب و إله الآلهة.
فكان من الواجب عند إقامة الحجة لإبطال قولهم إن يذكر أمر الخلقة ثم يتعقب بأمر التدبير لمكان تلازمهما و عدم انفكاك أحدهما من الآخر حتى يكون موجد الأشياء و خالقها هو الذي يربها و يدبر أمرها فيكون ربا وحده و إلها وحده كما أنه موجد خالق وحده.
و لذلك بعينه ذكر أمر التدبير بعد ذكر الخلقة في الآية التي نحن فيها إذ قيل: «خلق السماوات و الأرض - و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع» فالولاية و الشفاعة كالاستواء على العرش من شئون التدبير.
و قوله: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع» الولي هو الذي يملك تدبير أمر الشيء و من المعلوم أن أمورنا و الشئون التي تقوم به حياتنا قائمة بالوجود محكومة مدبرة للنظام العام الحاكم في الأشياء عامة و ما يخص بنا من نظام خاص، و النظام أيا ما كان من لوازم خصوصيات خلق الأشياء و الخلقة كيفما كانت مستندة إليه تعالى فهو تعالى ولينا القائم بأمرنا المدبر لشئوننا و أمورنا، كما هو ولي كل شيء كذلك وحده لا شريك له.
و الشفيع - على ما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب - هو الذي ينضم إلى سبب ناقص فيتمم سببيته و تأثيره، و الشفاعة تتميم السبب الناقص في تأثيره و إذا طبقناها على الأسباب و المسببات الخارجية كانت أجزاء الأسباب المركبة و شرائطها بعضها شفيعا لبعض لتتميم حصة من الأثر منسوبة إليه كما أن كلا من السحاب و المطر و الشمس و الظل و غيرها شفيع للنبات.
و إذ كان موجد الأسباب و أجزائها و الرابط بينها و بين المسببات هو الله سبحانه فهو الشفيع بالحقيقة الذي يتمم نقصها و يقيم صلبها فالله سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره.
و ببيان آخر أدق قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن أسماءه تعالى الحسنى وسائط بينه و بين خلقه في إيصال الفيض إليهم فهو تعالى يرزقهم مثلا بما أنه رازق جواد غني رحيم و يشفي المريض بما أنه شاف معاف رءوف رحيم و يهلك الظالمين بما أنه شديد البطش ذو انتقام عزيز و هكذا.
فما من شيء من المخلوقات المركبة الوجود إلا و يتوسط لوجوده عدة من الأسماء الحسنى بعضها فوق بعض و بعضها في عرض بعض و كل ما هو أخص منها يتوسط بين الشيء و بين الأعم منها كما أن الشافي يتوسط بين المريض و بين الرءوف الرحيم و الرحيم يتوسط بينه و بين القدير و هكذا.
و التوسط المذكور في الحقيقة تتميم لتأثير السبب فيه و إن شئت فقل هو تقريب للشيء من السبب لفعلية تأثيره و ينتج منه أنه تعالى شفيع ببعض أسمائه عند بعض فهو الشفيع ليس من دونه شفيع في الحقيقة فافهم.
و قد تبين بما مر أن لا إشكال في إطلاق الشفيع عليه تعالى بمعنى كونه شفيعا بنفسه عند نفسه و حقيقته توسط صفة من صفاته الكريمة بين الشيء و صفة من صفاته كما يستعاذ من سخطه إلى رحمته و من عدله إلى فضله، و أما كونه تعالى شفيعا بمعنى شفاعته لشيء عند غيره فهو مما لا يجوز البتة.
و القوم لتقريبهم إشكال إطلاق الشفيع عليه تعالى على المعنى الثاني أي بمعنى كونه شفيعا عند غيره اختلفوا في تفسير الآية على أقوال: فقال بعضهم: إن دون في قوله: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع» بمعنى عند و «من دونه» حال من ضمير «لكم» و المعنى: ما لكم حال كونكم مجاوزين دونه و من عند ولي و لا شفيع أي لا ولي لكم و لا شفيع ففيه نفي الولي و الشفيع لهم عند الله.
و فيه أن دون و إن صح كونه بمعنى عند لكن وجود «من» قرينة على أنه بمعنى غير، و لا معنى لأخذ المجاوزة و رجوع «ما لكم من دونه» إلى معنى «ما لكم عنده».
و قال بعضهم: إن الشفيع في الآية بمعنى الناصر مجازا و دون بمعنى غير و «من دونه» حال من «ولي» و المعنى: ما لكم ولي و لا ناصر غيره، و فيه أنه تجوز من غير موجب.
و قال بعضهم إن إطلاق الشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم: هؤلاء شفعاؤنا و يزعمون أن كل واحد منهم شفيع لهم و المعنى: على هذا لو فرض و قدر أن الإله ولي شفيع ما لكم ولي و لا شفيع غير الله سبحانه.
و قال بعضهم: إن دون بمعنى عند و الضمير في «من دونه» للعذاب، و المعنى: ليس لكم من دون عذابه ولي، أي قريب ينفعكم و يرد عذابه عنكم و لا شفيع يشفع لكم.
و فيه أن إرجاع الضمير إلى العذاب تحكم من غير دليل، و يرد على جميع هذه الوجوه أنها تكلفات ناشئة من أخذ الشفيع غير المشفوع عنده و قد عرفت أن المعنى تحليلي و الشفيع و المشفوع عنده واحد.
و قوله: «أ فلا تتذكرون» استفهام توبيخي يوبخهم على استمرارهم على الإعراض عن أدلة العقول حتى يتذكروا أن الملك و التدبير لله سبحانه و هو المعبود بالحق ليس لهم دونه ولي و لا شفيع كما يزعمون ذلك لآلهتهم.
قوله تعالى: «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون» تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه و هذا هو القرينة على أن المراد بالأمر في الآية الشأن دون الأمر المقابل للنهي.
و التدبير وضع الشيء في دابر الشيء و الإتيان بالأمر بعد الأمر فيرجع إلى إظهار وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء و الأرض و قد قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21، و قال: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»: القمر: 49.
و قوله: «ثم يعرج إليه» بعد قوله: «يدبر الأمر من السماء إلى الأرض» لا يخلو من إشعار بأن «يدبر» مضمن معنى التنزيل و المعنى: يدبر الأمر منزلا أو ينزله مدبرا - من السماء إلى الأرض و لعله الأمر الذي يشير إليه قوله: «فسواهن سبع سماوات في يومين و أوحى في كل سماء أمرها»: حم السجدة: 12.
و في قوله: «يعرج إليه» إشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذي تنتهي إليه أزمة الأمور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحي العالم الجسماني فإن الأمر قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التي نزل منها، و لم يذكر هناك إلا علو هو السماء، و سفل هو الأرض و نزول و عروج فالنزول من السماء و العروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذي يصدر منه تدبير الأمر أو أن موطن تدبير الأمر الأرضي هو السماء و الله المحيط بكل شيء ينزل التدبير الأرضي من هذا الموطن، و لعل هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله: «و أوحى في كل سماء أمرها».
و قوله: «في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون» معناه على أي حال أنه في ظرف لو طبق على ما في الأرض من زمان الحوادث و مقدار حركتها انطبق على ألف سنة مما نعده فإن من المسلم أن الزمان الذي يقدره ما نعده من الليل و النهار و الشهور و السنين لا يتجاوز العالم الأرضي.
و إذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب و الحضور و هو مما لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف سنة مما تعدون.
و أما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول و اللبث و العروج أو مقدار مجموع النزول و العروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول و العروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أن «في يوم» قيد لقوله: «يعرج إليه» فقط كما وقع في قوله: «تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة»: المعارج: 4.
ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة و هو مقدار يوم القيامة، و أما كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة و هو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة.
ثم المراد بقوله: «مقداره ألف سنة» هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد التكثير كما في قوله: «يود أحدهم لو يعمر ألف سنة»: البقرة: 96، أي يعمر عمرا طويلا جدا و إن كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق.
و الآية - كما ترى - تحتمل الاحتمالات جميعا و لكل منها وجه و الأقرب من بينها إلى الذهن كون «في يوم» قيدا لقوله: «ثم يعرج إليه» و كون المراد بيوم عروج الأمر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، و الله أعلم.
قوله تعالى: «ذلك عالم الغيب و الشهادة العزيز الرحيم» تقدم تفسير مفردات الآية، و مناسبة الأسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة.
قوله تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه» قال الراغب: الحسن عبارة عن كل مبهج - بصيغة الفاعل - مرغوب فيه و ذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل و مستحسن من جهة الهوى و مستحسن من جهة الحس.
انتهى.
و هذا تعريف له من جهة خاصته و انقسامه بانقسام الإدراكات الإنسانية.
و حقيقته ملاءمة أجزاء الشيء بعضها لبعض و المجموع للغرض و الغاية الخارجة منه فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين و الحاجب و الأنف و الفم و غيرها، و حسن العدل ملاءمته للغرض من الاجتماع المدني و هو نيل كل ذي حق حقه، و هكذا.
و التدبر في خلقة الأشياء و كل منها في نفسه متلائم الأجزاء بعضها لبعض و المجموع من وجوده مجهز بما يلائم كماله و سعادته تجهيزا لا أتم و لا أكمل منه يعطي أن كلا منها حسن في نفسه حسنا لا أتم و أكمل منه بالنظر إلى نفسه.
و أما ما نرى من المساءة و القبح في الأشياء فلأحد أمرين: إما لكون الشيء السيىء ذا عنوان عدمي يعود إليه المساءة لا لوجوده في نفسه كالظلم و الزنا فإن الظلم ليس بسيىء قبيح بما أنه فعل من الأفعال بل بما أنه مبطل لحق ثابت و الزنا ليس بسيىء قبيح من جهة نفس العمل الخارجي الذي هو مشترك بينه و بين النكاح بل بما أن فيه مخالفة للنهي الشرعي أو للمصلحة الاجتماعية.
أو بقياسه إلى شيء آخر فيعرضه المساءة و القبح من طريق المقايسة كقياس الحنظل إلى البطيخ و قياس الشوك إلى الورد و قياس العقرب إلى الإنسان فإن المساءة إنما تطرأ هذه الأشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثم قياسها إلى طبعنا، و يرجع هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الأول بالحقيقة.
و كيف كان فالشيء بما أنه موجود مخلوق لا يتصف بالمساءة و يدل عليه الآية «الذي أحسن كل شيء خلقه» إذا انضم إلى قوله: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62 فينتجان أولا: أن الخلقة تلازم الحسن فكل مخلوق حسن من حيث هو مخلوق.
و ثانيا: أن كل سيىء و قبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيىء قبيح كالمعاصي و السيئات من حيث هي معاص و سيئات و الأشياء السيئة من جهة القياس.
قوله تعالى: «و بدأ خلق الإنسان من طين» المراد بالإنسان النوع فالمبدو خلقه من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب و أم كآدم و زوجه (عليهما السلام)، و الدليل على ذلك قوله بعده: «ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين» فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حق الكلام أن يقال: ثم جعله سلالة من ماء مهين فافهمه.
و قوله: «ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين» السلالة كما في المجمع، الصفوة التي تنسل أي تنزع من غيرها و يسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، و المهين من الهون و هو الضعف و الحقارة و ثم للتراخي الزماني.
و المعنى: ثم جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير.
قوله تعالى: «ثم سواه و نفخ فيه من روحه» التسوية التصوير و تتميم العمل، و في قوله: «نفخ فيه من روحه» استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الذي يتنفس به ثم نفخة في قالب من سواه، و إضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفية، و المعنى: ثم صور الإنسان المبدو خلقه من الطين و المجعول نسله من سلالة من ماء مهين و نفخ فيه من روح شريف منسوب إليه تعالى.
قوله تعالى: «و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون» امتنان بنعمة الإدراك الحسي و الفكري فالسمع و البصر للمحسوسات و القلوب للفكريات أعم من الإدراكات الجزئية الخيالية و الكلية العقلية.
و قوله: «قليلا ما تشكرون» أي تشكرون شكرا قليلا، و الجملة اعتراضية في محل التوبيخ و قيل: الجملة حالية، و المعنى: جعل لكم الأبصار و الأفئدة و الحال أنكم تشكرون قليلا، و الجملة على أي حال مسوقة للبث و الشكوى و التوبيخ.
و الالتفات في قوله: «و جعل لكم» إلخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل أن الإنعام الإلهي الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصرون.
قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون» حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد.
و الضلال في الأرض قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلت النعمة أي ضاعت، و قيل: هو بمعنى الغيبة، و كيف كان فمرادهم به أ إنا إذا متنا و انتشرت أجزاء أبداننا في الأرض و صرنا بحيث لا تميز لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض و لا خبر عنا نقع في خلق جديد و نخلق ثانيا خلقنا الأول؟.
و الاستفهام للإنكار، و الخلق الجديد هو البعث.
و قوله: «بل هم بلقاء ربهم كافرون» إضراب عن فحوى قولهم: «أ إذا ضللنا في الأرض» كأنه قيل: إنهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا و لقائنا و لذا جيء في الجواب عن قولهم بما يدل على الرجوع.
قوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون» توفي الشيء أخذه تاما كاملا كتوفي الحق و توفي الدين من المديون.
و قوله: «ملك الموت الذي وكل بكم» قيل: أي وكل بإماتتكم و قبض أرواحكم و الآية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك.
و قد نسب التوفي في الآية إلى ملك الموت، و في قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها»: الزمر: 42 إليه تعالى، و في قوله: «حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا»: الأنعام: 61، و قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم»: النحل: 28، إلى الرسل و الملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت و فوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجرى لأمر الله و الله من ورائهم محيط و هو السبب الأعلى و مسبب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب و اليد كاتبة و الإنسان كاتب.
و قوله: «ثم إلى ربكم ترجعون» هو الرجوع الذي عبر عنه في الآية السابقة باللقاء و موطنه البعث المترتب على التوفي و المتراخي عنه، كما يدل عليه العطف بثم الدالة على التراخي.
و الآية - على أي تقدير - جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على نفي البعث و من المعلوم أن إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الإشكال فيبقى قوله: «ثم إلى ربكم ترجعون» دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة و الكلام الإلهي أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة.
لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة الموت ليس بطلانا لكم و ضلالا منكم في الأرض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان و أرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعني بلفظة «كم» محفوظون لا يضل منكم شيء في الأرض و إنما يضل الأبدان و تتغير من حال إلى حال و قد كانت في معرض التغير من أول كينونتها.
ثم إنكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها.
و بهذا يندفع حجتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو قررت على أن تلاشي البدن يبطل شخصية الإنسان فينعدم و لا معنى لإعادة المعدوم فإن حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها بقول «أنا» و هي غير البدن و البدن تابع لها في شخصيته و هي لا تتلاشى بالموت و لا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب و الجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه.
و ظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله: «قل يتوفاكم» إلخ بقوله: «ء إذا ضللنا في الأرض» إلخ و أنه جواب حاسم للإشكال قاطع للشبهة، و قد أشكل الأمر على بعض من فسر التوفي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفي فتكلف في توجيه اتصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم.
و ثانيا: أن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شيء من حالات البدن.
قوله تعالى: «و لو ترى إذا المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون» نكس الرأس إطراقه و طأطأته، و المراد بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد و يقولون: «أ إذا ضللنا في الأرض» إلخ.
و في التعبير عن البعث بقوله: «عند ربهم» محاذاة لما تقدم من قوله: «بل هم بلقاء ربهم كافرون» أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم إنكاره، و قولهم: «أبصرنا و سمعنا» و مسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أن النجاة في الإيمان و العمل الصالح و قد حصل لهم الإيمان اليقيني و بقي العمل الصالح و لذا يعترفون باليقين و يسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة.
و المعنى: و لو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بإنكار لقاء الله مطرقوا رءوسهم عند ربهم في موقف اللقاء من الخزي و الذل و الندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة و سمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا إنا موقنون و المحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء و لو تراهم إذ أحاط بهم الخزي و الذل فنكسوا رءوسهم و اعترفوا بما ينكرونه اليوم و سألوا العود إلى هاهنا و لن يعودوا.
قوله تعالى: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها» إلى آخر الآية أي لو شئنا أن نعطي كل نفس أعم من المؤمنة و الكافرة الهدى الذي يختص بها و يناسبها لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر و إرادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق الاختيار و الإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه و إرادة من دون أن ينجر إلى الإلجاء و الاضطرار فيبطل التكليف و يلغو الجزاء.
و قوله: «و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين» أي و لكن هناك قضاء سابق مني محتوم و هو إملاء جهنم من الجنة و الناس أجمعين و هو قوله لإبليس لما امتنع من سجدة آدم و قال: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: «فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85، فقضى أن يدخل متبعي إبليس العذاب المخلد.
و لازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم و فسقهم بالخروج عن زي العبودية كما قال: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» «و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: التوبة: 80، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: «فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم» إلى آخر الآية، تفريع على قوله: «و لكن حق القول مني» و النسيان ذهول صورة الشيء عن الذاكرة و يكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشيء و هو المراد في الآية.
و المعنى: فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه و لم تعملوا صالحا تثابون به فيه لأنا لم نعتن بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة و النجاة، و قوله: «و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون» تأكيد و توضيح لسابقه أي إن الذوق الذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد و نسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات «أ فمن كان مؤمنا» إلى تمام الآيات الثلاث.
و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة عن علي قال: عزائم سجود القرآن الم تنزيل السجدة، و حم تنزيل السجدة، و النجم، و اقرأ باسم ربك الذي خلق.
و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العزائم أربع: اقرأ باسم ربك الذي خلق، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا قد أسبل إزاره فقال له: ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي. قال: ارفع إزارك كل خلق الله حسن.
و في الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» و عن قول الله عز و جل: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم» و عن قول الله عز و جل: «الذين يتوفاهم الملائكة طيبين» و «الذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» و عن قول الله عز و جل: «توفته رسلنا» و عن قوله عز و جل: «و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة» و قد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلا الله عز و جل، فكيف هذا؟. فقال: إن الله تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة و يتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، و يتوفاها الله تعالى من ملك الموت.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق. و اعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول: و الله ما لي من ذنب و إن لي لعودة و عودة الحذر الحذر و ما خلق الله من أهل بيت و لا مدر و لا شعر و لا وبر في بر و لا بحر إلا و أنا أتصفحهم في كل يوم و ليلة خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم. و الله يا محمد إني لا أقدر أن أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك و تعالى هو الذي يأمر بقبضه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها» قال: لو شئنا أن نجعلهم كلهم معصومين لقدرنا.
أقول: العصمة لا تنافي الاختيار فلا تنافي بين مضمون الرواية و ما قدمناه في تفسير الآية.
كلام في كينونة الإنسان الأولي
تقدم في تفسير أول سورة النساء كلام في هذا المعنى و كلامنا هذا كالتكملة له.
قدمنا هناك أن الآيات القرآنية ظاهرة ظهورا قريبا من الصراحة في أن البشر الموجودين اليوم - و نحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل و امرأة بعينهما و قد سمي الرجل في القرآن بآدم و هما غير متكونين من أب و أم بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.
فهذا هو الذي يفيده الآيات ظهورا معتدا به و إن لم تكن نصة صريحة لا تقبل التأويل و لا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريا من القرآن و أما أن آدم هذا هل أريد به آدم النوعي أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدة معدودة من الأفراد هم أصول النسب و الآباء و الأمهات الأولية أو فرد إنساني واحد بالشخص؟.
و على هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلا على طريق تطور الأنواع و ظهور الأكمل من الكامل و الكامل من الناقص و هكذا أو هو فرد من الإنسان كامل بالكمال الفكري تولد من زوج من الإنسان غير المجهز بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف و انفصاله من النوع غير المجهز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم، و ينشعب هذا النوع الكامل بالتولد تطورا من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقل و هو يسير القهقرى في أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزا و أنقصها كمالا و إن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل و من كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقل ثم إلى الإنسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة مؤلفة من آباء و أعقاب.
أو أن سلسلة التوالد و التناسل تنقطع بالاتصال بآدم و زوجه و هما متكونان من الأرض من غير تولد من أب و أم فليس شيء من هذه الصور ضروريا.
و كيف كان فظاهر الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة و هي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه المتكونين من الأرض من غير أب و أم.
غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض و أنه هل عملت في خلقه علل و عوامل خارقة للعادة؟ و هل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل الجسد المصنوع من طين بدنا عاديا ذا روح إنساني أو أنه عاد إنسانا تاما كاملا في أزمنة معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد و صورة و شكل بعد صورة و شكل حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح و بالجملة اجتمعت عليه من العلل و الشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم.
و من أوضح الدليل عليه قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59، فإن الآية نزلت جوابا عن احتجاج النصارى على بنوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشري و لا ولد إلا بوالد فأبوه هو الله سبحانه، فرد في الآية بما محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأن آدم ابن الله؟.
و لو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكونين من النطف إلى الأرض كان المعنى: أن صفة عيسى و لا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، و من المعلوم أن لا خصوصية لآدم على هذا المعنى حتى يؤخذ و يقاس إليه عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه و من حيث الاحتجاج به على النصارى.
و بهذا يظهر دلالة جميع الآيات الدالة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب كقوله: «إني خالق بشرا من طين»: ص: 71، و قوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين»: الم السجدة: 7.
و أما قول من قال: إن المراد بآدم هو آدم النوعي دون الشخصي بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد، و المراد ببنوة الأفراد له تكثر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه و قصة دخوله الجنة و إخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي لمكانته في نفسه و وقوفه موقف القرب ثم كونه في معرض الهبوط باتباع الهوى و طاعة إبليس.
ففيه أنه مدفوع بالآية السابقة و ظواهر كثير من الآيات كقوله: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء»: النساء: 1، فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي لم يبق لفرض الزوج لها محل و نظير الآية الآيات التي تفيد أن الله أدخله و زوجه الجنة و أنه و زوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة.
على أن أصل القول بآدم النوعي مبني على قدم الأرض و الأنواع المتأصلة و منها الإنسان و أن أفراده غير متناهية من الجانبين و الأصول العلمية تبطل ذلك بتاتا.
و أما القول بكون النسل منتهيا إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض اللون و سواده و حمرته و صفرته أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة و بعضهم بالدنيا الحديثة و الأراضي المكشوفة أخيرا و فيها بشر قاطنون كأمريكا و أستراليا.
فمدفوع بجميع الآيات الدالة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه فإن المراد بآدم فيها إما شخص واحد إنساني و إما الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد و هو آدم النوعي و أما الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتة.
على أنه مبني على تباين الأصناف الأربعة من الإنسان: البيض و السود و الحمر و الصفر و كون كل من هذه الأصناف نوعا برأسه ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر أو كون قارات الأرض منفصلا بعضها عن بعض انفصالا أبديا غير مسبوق بالعدم، و قد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلانا كاد يلحقها بالبديهيات.
و أما القول بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصلا أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه كالقرد مثلا انفصال الأكمل من الكامل تطورا.
ففيه أن الآيات السابقة الدالة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب و أم تدفعه.
على أن ما أقيم عليه من الحجة العلمية قاصر عن إثباته كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي.
و أما القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكري من طريق التولد ثم انشعابهما و انفصالهما بالتطور من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكري ثم انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح.
فيدفعه قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» على التقريب المتقدم و ما في معناه من الآيات.
على أن الحجة التي أقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته فإنها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي و أجنة الحيوان و الآثار الحفرية الدالة على التغير التدريجي في صفات الأنواع و أعضائها و ظهور الحيوان تدريجا آخذا من الناقص إلى الكامل و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشد تركيبا.
و فيه أن ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زمانا لا يدل على أزيد من تدرج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة فهي قد استعدت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة و الشريفة بعد الخسيسة و أما كون الكامل من الحيوان منشعبا من الناقص بالتولد و الاتصال النسبي فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرع نوع آخر على أن يقف على نفس التولد دون الفرد و الفرد.
و ما وجد منها شاهدا على التغير التدريجي فإنما هو تغير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته و المدعى خلاف ذلك.
فالذي يتسلم أن نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسة و أعلى مراتبها الحياة الإنسانية ثم ما يليها ثم الأمثل فالأمثل و أما أن ذلك من طريق تبدل كل نوع مما يجاوره من النوع الأكمل، فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج.
نعم يوجب حدسا ما غير يقيني بذلك فالقول بتبدل الأنواع بالتطور فرضية حدسية تبتني عليها العلوم الطبيعية اليوم و من الممكن أن يتغير يوما إلى خلافها بتقدم العلوم و توسع الأبحاث.
و ربما استدل على هذا القول بقوله تعالى: «إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين»: آل عمران: 33، بتقريب أن الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشيء و إنما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يختار المصطفى من بينهم و يؤثر عليهم كما اصطفي كل من نوح و آل إبراهيم و آل عمران من بين قومهم و لازم ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفى من بينهم عليهم، و ليس إلا البشر الأولي غير المجهز بجهاز التعقل فاصطفي آدم من بينهم فجهز بالعقل فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى مرتبة الإنسان المجهز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم ثم نسل و كثر نسله و انقرض الإنسان الأولي الناقص.
و فيه أن «العالمين» في الآية جمع محلى باللام و هو يفيد العموم و يصدق على عامة البشر إلى يوم القيامة فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم كمثل قوله: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» فما المانع من كون آدم مصطفى مختارا من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟.
و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم ما هو المانع من كونه مصطفى مختارا من بين أولاده المعاصرين له و لا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول خلقته قبل ولادة أولاده.
على أن اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأولي كما يذكره المستدل كان ذلك بما أنه مجهز بالعقل و كان ذلك مشتركا بينه و بين بني آدم جميعا على الإنسان الأولي فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصا من غير مخصص.
و ربما استدل بقوله: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» الآية: الأعراف: 11، بناء على أن «ثم» تدل على التراخي الزماني فقد كان للنوع الإنساني وجود قبل خلق آدم و أمر الملائكة بالسجدة له.
و فيه أن «ثم» في الآية للترتيب الكلامي و هو كثير الورود في كلامه تعالى على أن هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.
و ربما استدل بقوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه و نفخ فيه من روحه» الآيات و تقريبه أن الآية الأولى المتعرضة لأول خلق الإنسان تذكر خلقته الأولية من تراب التي يشترك فيها جميع الأفراد، و الآية الثالثة تذكر تسويته و نفخ الروح فيه و بالجملة كماله الإنساني و العطف بثم تدل على توسط زمان معتد به بين أول خلقته من تراب و بين ظهوره بكماله.
و ليس هذا الزمان المتوسط إلا زمان توسط الأنواع الأخر التي تنتهي بتغيرها التدريجي إلى الإنسان الكامل و خاصة بالنظر إلى تنكر «سلالة» المفيد للعموم.
و فيه أن قوله: «ثم سواه» عطف على قوله «بدأ» و الآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنساني بالخلق و أن بدأ خلقه و هو خلقه و هو خلق آدم كان من طين ثم بدل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثم تمت الخلقة سواء كان فيه أو في أولاده بالتسوية و نفخ الروح.
و هذا معنى صحيح يقبل الانطباق على اللفظ و لا يلزم منه حمل قوله: «ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين» على أنواع متوسطة بين الخلق من الطين و بين التسوية و نفخ الروح، و كون «سلالة» نكرة لا يستلزم العموم فإن إفادة النكرة للعموم إنما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات.
و قد استدل بآيات أخر مربوطة بخلقه الإنسان و آدم بنحو مما مر يعلم الجواب عنها بما قدمناه فلا موجب لنقلها و إطالة الكلام بالجواب عنها.
|