بيان
الآيات أعني قوله: «و إذ تقول للذي أنعم الله عليه - إلى قوله - و كان الله بكل شيء عليما» في قصة تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزوج مولاه زيد الذي كان قد اتخذه ابنا، و لا يبعد أن تكون الآية الأولى أعني قوله: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة» الآية، مرتبطة بالآيات التالية كالتوطئة لها.
قوله تعالى: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» إلخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شيء مما يرجع إلى أعمال العباد أو تصرفه في شأن من شئونهم بواسطة رسول من رسله، و قضاء رسوله هو الثاني من القسمين و هو التصرف في شأن من شئون الناس بالولاية التي جعلها الله تعالى له بمثل قوله: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم».
فقضاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) قضاء منه بولايته و قضاء من الله سبحانه لأنه الجاعل لولايته المنفذ أمره، و يشهد سياق قوله: «إذا قضى الله و رسوله أمرا» حيث جعل الأمر الواحد متعلقا لقضاء الله و رسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شئون الناس دون الجعل التشريعي المختص بالله.
و قوله: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة» أي ما صح و لا يحق لأحد من المؤمنين و المؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاءوا و قوله: «إذا قضى الله و رسوله أمرا» ظرف لنفي الاختيار.
و ضميرا الجمع في قوله: «لهم الخيرة من أمرهم» للمؤمن و المؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين و المؤمنات لوقوعهما في حيز النفي و وضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل: «من أمرهم» و لم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشإ توهم الخيرة و هو انتساب الأمر إليهم.
و المعنى: ليس لأحد من المؤمنين و المؤمنات إذا قضى الله و رسوله بالتصرف في أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم و كونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله و رسوله بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله و رسوله.
و الآية عامة لكنها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجيء من قوله: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم» الآية، حيث يلوح منه أن بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بزوج زيد و تعييره بأنها كانت زوج ابنه المدعو له بالتبني و سيجيء في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام.
قوله تعالى: «و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله» إلى آخر الآية المراد بهذا الذي أنعم الله عليه و أنعم النبي عليه زيد بن حارثة الذي كان عبدا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم حرره و اتخذه ابنا له و كان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزلت الآيات.
فقوله: «أنعم الله عليه» أي بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: «و أنعمت عليه» أي بالإحسان إليه و تحريره و تخصيصه بنفسك، و قوله: أمسك عليك زوجك و اتق الله» كناية عن الكف عن تطليقها، و لا يخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها.
و قوله: «و تخفي في نفسك ما الله مبديه» أي مظهره «و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه» ذيل الآيات أعني قوله: «الذين يبلغون رسالات الله و لا يخشون أحدا إلا الله» دليل على أن خشيته (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة، و هذا الخوف - كما ترى ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه.
و قوله: «و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه» الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله و هي خشيته عن طريق الناس و هداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى و أنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس و لا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه و هذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتروج زوج زيد الذي كان تبناه ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فآمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في قوله تعالى: «يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك - إلى قوله - و الله يعصمك من الناس» الآية.
فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله: «و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه» مسوق لانتصاره و تأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله: «عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين»: التوبة: 43.
و من الدليل على أنه انتصار و تأييد في صورة العتاب قوله بعد: «فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها» حيث أخبر عن تزويجه إياها كأنه أمر خارج عن إرادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اختياره ثم قوله: «و كان أمر الله مفعولا».
فقوله: «فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها» متفرع على ما تقدم من قوله: و تخفي في نفسك ما الله مبديه» و قضاء الوطر منها كناية عن الدخول و التمتع، و قوله: «لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا» تعليل للتزويج و مصلحة للحكم، و قوله: «و كان أمر الله مفعولا» مشير إلى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم.
و من ذلك يظهر أن الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها و حبه الشديد لها و هي بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين و اعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية، و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوز في الإسلام لذكر حلائل الناس و التشبب بهن.
قوله تعالى: «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له» إلخ، الفرض هو التعيين و الإسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له و أسهمه به، و قيل: هو في المقام بمعنى الإباحة و التجويز، و الحرج الكلفة و الضيق، و المراد بنفي الحرج نفي سببه و هو المنع عما فرض له.
و المعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون عليه حرج في ذلك.
و قوله: «سنة الله في الذين خلوا من قبل» اسم موضوع موضع المصدر فيكون مفعولا مطلقا و التقدير سن الله ذلك سنة، و المراد بالذين خلوا من قبل هم الأنبياء و الرسل الماضون بقرينة قوله بعد: «الذين يبلغون رسالات الله» إلخ.
و قوله: «و كان أمر الله قدرا مقدورا» أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم حاله و يناسبها، و الأنبياء لم يمنعوا مما قدره الله و أباحه لغيرهم حتى يمنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعض ما قدر و أبيح.
قوله تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله» إلخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعني قوله: «الذين خلوا من قبل».
و الخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه و ربما ينسب إلى السبب الذي يتوقع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بي كذا، و الأنبياء يخشون الله و لا يخشون أحدا غيره لأنه لا مؤثر في الوجود عندهم إلا الله.
و هذا غير الخوف الذي هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء كان معه تأثر قلبي أو لا فإنه أمر عملي ربما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): «ففررت منكم لما خفتكم»: الشعراء: 21، و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و إما تخافن من قوم خيانة»: الأنفال: 58، و هذا هو الأصل في معنى الخوف و الخشية و ربما استعملا كالمترادفين.
و مما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الأنبياء (عليهم السلام) مطلقا و إن كان سياق قوله: «يبلغون رسالات الله و يخشونه» إلخ، يلوح إلى أن المنفي هو الخشية في تبليغ الرسالة.
على أن جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم.
و قوله: «و كفى بالله حسيبا» أي محاسبا يحاسب على الصغيرة و الكبيرة فيجب أن يخشى و لا يخشى غيره.
قوله تعالى:» ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين» إلخ، لا شك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه تزوج زوج ابنه و محصل الدفع أنه ليس أبا زيد و لا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: «من رجالكم» للناس الموجودين في زمن نزول الآية، و المراد بالرجال ما يقابل النساء و الولدان و نفي الأبوة نفي تكويني لا تشريعي و لا تتضمن الجملة شيئا من التشريع.
و المعنى: ليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه و زيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة و أما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه شيء من آثار الأبوة و البنوة و ما جعل أدعياءكم أبناءكم.
و أما القاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية و كذا الحسن و الحسين و هما ابنا رسول الله فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض قبل أن يبلغا حد الرجال.
و مما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفي أبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) للقاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم و كذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية.
و قوله: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين» الخاتم بفتح التاء ما يختم به كالطابع و القالب بمعنى ما يطبع به و ما يقلب به و المراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت به (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا نبي بعده.
و قد عرفت فيما مر معنى الرسالة و النبوة و أن الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس و النبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فإن الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة.
و من هنا يظهر أن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل.
و في الآية إيماء إلى أن ارتباطه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تعلقه بكم تعلق الرسالة و النبوة و أن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه.
و قوله: «و كان الله بكل شيء عليما» أي ما بينه لكم إنما كان بعلمه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت: أنا خير منه حسبا و كانت امرأة فيها حدة فأنزل الله «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة» الآية كلها.
أقول: و في معناها روايات أخر.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالت إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت.
أقول: و الروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول.
و في العيون،: في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة علي بن الجهم في عصمة الأنبياء:. قال: و أما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قول الله عز و جل: «و تخفي في نفسك ما الله مبديه - و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه» فإن الله عز و جل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماء أزواجه في دار الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين و أحد من سمي له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمها في نفسه و لم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: أنه قال في امرأة في بيت رجل: إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين و خشي قول المنافقين. قال الله عز و جل: «و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه» يعني في نفسك الحديث.
أقول: و روي ما يقرب منه فيه عنه (عليه السلام) في جواب مسألة المأمون عنه في عصمة الأنبياء.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و تخفي في نفسك ما الله مبديه» قيل: إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه و أن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد و قال له: أريد أن أطلق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟: و روي ذلك عن علي بن الحسين (عليهما السلام).
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و ابن المنذر و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: اتق الله و أمسك عليك زوجك فنزلت: «و تخفي في نفسك ما الله مبديه». قال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاتما شيئا لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث.
أقول: و الروايات كثيرة في المقام و إن كان كثير منها لا يخلو من شيء و في الروايات: ما أولم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم، و في الروايات أنها كانت تفتخر على سائر نساء النبي بثلاث أن جدها و جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحد فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن الذي زوجها منه هو الله سبحانه و أن السفير جبريل.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين»: و صح الحديث عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها و نظر إليها فقال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء: أورده البخاري و مسلم في صحيحيهما.
أقول: و روى هذا المعنى غيرهما كالترمذي و النسائي و أحمد و ابن مردويه عن غير جابر كأبي سعيد و أبي هريرة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنت أقرىء الحسن و الحسين فمر بي علي بن أبي طالب و أنا أقرئهما فقال لي: أقرئهما و خاتم النبيين بفتح التاء.
|