بيان
تتضمن السورة تفاريق من المعارف و الأحكام و القصص و العبر و المواعظ و فيها قصة غزوة الخندق و إشارة إلى قصة بني القريظة من اليهود، و سياق آياتها يشهد بأنها مما نزلت بالمدينة.
قوله تعالى: «يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين إن الله كان عليما حكيما» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقوى الله و فيه تمهيد للنهي الذي بعده «و لا تطع الكافرين و المنافقين».
و في سياق النهي - و قد جمع فيه بين الكافرين و المنافقين و نهى عن إطاعتهم - كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمرا لا يرتضيه الله سبحانه و كان المنافقون يؤيدونهم في مسألتهم و يلحون، أمرا كان الله سبحانه بعلمه و حكمته قد قضى بخلافه و قد نزل الوحي الإلهي بخلافه، أمرا خطيرا لا يؤمن مساعدة الأسباب على خلافه إلا أن يشاء الله فحذر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إجابتهم إلى ملتمسهم و أمر بمتابعة ما أوحى الله إليه و التوكل عليه.
و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدة من صناديد قريش بعد وقعة أحد دخلوا المدينة بأمان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم و آلهتهم فيتركوه و إلهه فنزلت الآيات و لم يجبهم النبي إلى ذلك و سيأتي في البحث الروائي التالي.
و بما تقدم ظهر وجه تذييل الآية بقوله: «إن الله كان عليما حكيما» و كذا تعقيب الآية بالآيتين بعدها.
قوله تعالى: «و اتبع ما يوحى إليك من ربك أن الله كان بما تعملون خبيرا» الآية عامة في حد نفسها لكنها من حيث وقوعها في سياق النهي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ما نزل به الوحي فيما يسأله الكافرون و المنافقون و أتباعه إجراؤه عملا بدليل قوله: «إن الله كان بما تعملون خبيرا».
قوله تعالى: «و توكل على الله و كفى بالله وكيلا» الآية كالآية السابقة في أنها عامة في حد نفسها، لكنها لوقوعها في سياق النهي السابق تدل على الأمر بالتوكل على الله فيما يأمره به الوحي و تشعر بأنه أمر صعب المنال بالنظر إلى الأسباب الظاهرية لا يسلم القلب معه من عارضة المخافة و الاضطراب إلا التوكل على الله سبحانه فإنه السبب الوحيد الذي لا يغلبه سبب مخالف.
قوله تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» كناية عن امتناع الجمع بين المتنافيين في الاعتقاد فإن القلب الواحد أي النفس الواحدة لا يسع اعتقادين متنافيين و رأيين متناقضين فإن كان هناك متنافيان فهما لقلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فالرجل الواحد لا يسعه أن يعتقد المتنافيين و يصدق بالمتناقضين و قوله: «في جوفه» يفيد زيادة التقرير كقوله: «و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»: الحج: 46.
قيل: الجملة توطئة و تمهيد كالتعليل لما يتلوها من إلغاء أمر الظهار و التبني فإن في الظهار جعل الزوجة بمنزلة الأم و في التبني و الدعاء جعل ولد الغير ولدا لنفسه و الجمع بين الزوجية و الأمومة و كذا الجمع بين بنوة الغير و بنوة نفسه جمع بين المتنافيين و لا يجتمعان إلا في قلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
و لا يبعد أن تكون الجملة في مقام التعليل لقوله السابق: «لا تطع الكافرين و المنافقين» «و اتبع ما يوحى إليك من ربك» فإن طاعة الله و ولايته و طاعة الكفار و المنافقين و ولايتهم متنافيتان متباينتان كالتوحيد و الشرك لا يجتمعان في القلب الواحد و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
قوله تعالى: «و ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم» كان الرجل في الجاهلية يقول لزوجته أنت مني كظهر أمي أو ظهرك علي كظهر أمي فيشبه ظهرها بظهر أمه و كان يسمى ذلك ظهارا و يعد طلاقا لها، و قد ألغاه الإسلام.
فمفاد الآية أن الله لم يجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن بقول ظهرك علي كظهر أمي أمهات لكم و إذ لم يجعل ذلك فلا أثر لهذا القول و الجعل تشريعي.
قوله تعالى: «و ما جعل أدعياءكم أبناءكم» الأدعياء جمع دعي و هو المتخذ ولدا المدعو ابنا و قد كان الدعاء و التبني دائرا بينهم في الجاهلية و كذا بين الأمم الراقية يومئذ كالروم و فارس و كانوا يرتبون على الدعي أحكام الولد الصلبي من التوارث و حرمة الازدواج و غيرهما و قد ألغاه الإسلام.
فمفاد الآية أن الله لم يجعل الذين تدعونهم لأنفسكم أبناء لكم بحيث يجري فيهم ما يجري في الأبناء الصلبيين.
قوله تعالى: «ذلكم قولكم بأفواهكم و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل» الإشارة بقوله: «ذلكم» إلى ما تقدم من الظهار و الدعاء أو إلى الدعاء فقط و هو الأظهر و يؤيده اختصاص الآية التالية بحكم الدعاء فحسب.
و قوله: «قولكم بأفواهكم» أي إن نسبة الدعي إلى أنفسكم ليس إلا قولا تقولونه بأفواهكم ليس له أثر وراء ذلك فهو كناية عن انتفاء الأثر كما في قوله: «كلا إنها كلمة هو قائلها»: المؤمنون: 100.
و قوله: «و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل» معنى كون قوله: هو الحق أنه إن أخبر عن شيء كان الواقع مطابقا لما أخبر به و إن أنشأ حكما ترتب عليه آثاره و طابقته المصلحة الواقعية.
و معنى هدايته السبيل أنه يحمل من هداه على سبيل الحق التي فيها الخير و السعادة و في الجملتين تلويح إلى أن دعوا أقوالكم و خذوا بقوله.
قوله تعالى: «ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله» إلى آخر الآية.
اللام في «لآبائهم» للاختصاص أي ادعوهم و هم مخصوصون بآبائهم أي انسبوهم إلى آبائهم و قوله: «هو أقسط عند الله»، الضمير إلى المصدر المفهوم من قوله: «ادعوهم» نظير قوله: «اعدلوا هو أقرب للتقوى» و «أقسط» صيغة تفضيل من القسط بمعنى العدل.
و المعنى: انسبوهم إلى آبائهم - إذا دعوتموهم - لأن الدعاء لآبائهم أعدل عند الله.
و قوله: «فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين و مواليكم»، المراد بعدم علمهم آباءهم عدم معرفتهم بأعيانهم، و الموالي هم الأولياء، و المعنى: و إن لم تعرفوا آباءهم فلا تنسبوهم إلى غير آبائهم بل ادعوهم بالإخوة و الولاية الدينية.
و قوله: «ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم» أي لا ذنب لكم في الذي أخطأتم به لسهو أو نسيان فدعوتموهم لغير آبائهم و لكن الذي تعمدته قلوبكم ذنب أو و لكن تعمد قلوبكم بذلك فيه الذنب.
و قوله: «و كان الله غفورا رحيما» راجع إلى ما أخطىء به.
قوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم» أنفس المؤمنين هم المؤمنون فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم: و معنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه و بين ما هو أولى منه فالمحصل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ و الكلاءة و المحبة و الكرامة و استجابة الدعوة و إنفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه و لو دار الأمر بين النبي و بين نفسه في شيء من ذلك كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.
ففيما إذا توجه شيء من المخاطر إلى نفس النبي فليقه المؤمن بنفسه و يفده نفسه و ليكن النبي أحب إليه من نفسه و أكرم عنده من نفسه و لو دعته نفسه إلى شيء و النبي إلى خلافه أو أرادت نفسه منه شيئا و أراد النبي خلافه كان المتعين استجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعته و تقديمه على نفسه.
و كذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم».
و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن المراد أنه أولى بهم في الدعوة فإذا دعاهم إلى شيء و دعتهم أنفسهم إلى خلافه كان عليهم أن يطيعوه و يعصوا أنفسهم، فتكون الآية في معنى قوله: «و أطيعوا الرسول»: النساء: 59، و قوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء: 64، و ما أشبه ذلك من الآيات و هو مدفوع بالإطلاق.
و كذا ما قيل إن المراد أن حكمه فيهم أنفذ من حكم بعضهم على بعض كما في قوله: «فسلموا على أنفسكم»: النور: 61، و يئول إلى أن ولايته على المؤمنين فوق ولاية بعضهم على بعض المدلول عليه بقوله: «المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض»: براءة: - 71.
و فيه أن السياق لا يساعد عليه.
و قوله: «و أزواجه أمهاتهم» جعل تشريعي أي أنهن منهم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن و حرمة نكاحهن بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سيأتي التصريح به في قوله: «و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا».
فالتنزيل إنما هو في بعض آثار الأمومة لا في جميع الآثار كالتوارث بينهن و بين المؤمنين و النظر في وجوههن كالأمهات و حرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات لهم و كصيرورة آبائهن و أمهاتهن أجدادا و جدات و إخوتهن و أخواتهن أخوالا و خالات للمؤمنين.
قوله تعالى: «و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين» إلخ، الأرحام جمع رحم و هي العضو الذي يحمل النطفة حتى تصير جنينا فيتولد، و إذ كانت القرابة النسبية لازمة الانتهاء إلى رحم واحدة عبر عن القرابة بالرحم فسمي ذوو القرابة أولي الأرحام.
و المراد بكون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، الأولوية في التوارث، و قوله: «في كتاب الله» المراد به اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة، و قوله: «من المؤمنين و المهاجرين» مفضل عليه و المراد بالمؤمنين غير المهاجرين منهم، و المعنى: و ذوو القرابة بعضهم أولى ببعض من المهاجرين و سائر المؤمنين الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة الدينية، و هذه الأولوية في كتاب الله و ربما احتمل كون قوله: «من المؤمنين و المهاجرين» بيانا لقوله: «و أولوا الأرحام».
و الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة و الموالاة في الدين.
و قوله: «إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا» الاستثناء منقطع، و المراد بفعل المعروف إلى الأولياء الوصية لهم بشيء من التركة، و قد حد شرعا بثلث المال فما دونه، و قوله: «كان ذلك في الكتاب مسطورا» أي حكم فعل المعروف بالوصية مسطور في اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة.
قوله تعالى: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا» إضافة الميثاق إلى ضمير النبيين دليل على أن المراد بالميثاق ميثاق خاص بهم كما أن ذكرهم بوصف النبوة مشعر بذلك فالميثاق المأخوذ من النبيين ميثاق خاص من حيث إنهم نبيون و هو غير الميثاق المأخوذ من عامة البشر الذي يشير إليه في قوله: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى»: الأعراف: 127.
و قد ذكر أخذ الميثاق من النبيين في موضع آخر و هو قوله: «و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أ أقررتم و أخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا»: آل عمران: 81.
و الآية المبحوث عنها و إن لم تبين ما هو الميثاق المأخوذ منهم و إن كانت فيها إشارة إلى أنه أمر متعلق بالنبوة لكن يمكن أن يستفاد من آية آل عمران أن الميثاق مأخوذ على وحدة الكلمة في الدين و عدم الاختلاف فيه كما في قوله: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون»: الأنبياء: 92، و قوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: الشورى: 13.
و قد ذكر النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثم سمى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم فقال: «و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم» و معنى العطف إخراجهم من بينهم و تخصيصهم بالذكر كأنه قيل: و إذ أخذنا الميثاق منكم أيها الخمسة و من باقي النبيين.
و لم يخصهم بالذكر على هذا النمط إلا لعظمة شأنهم و رفعة مكانهم فإنهم أولوا عزم و أصحاب شرائع و كتب و قد عدهم على ترتيب زمانهم: نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى بن مريم (عليهما السلام)، لكن قدم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخرهم زمانا لفضله و شرفه و تقدمه على الجميع.
و قوله: «و أخذنا منهم ميثاقا غليظا» تأكيد و تغليظ للميثاق نظير قوله: «فلما جاء أمرنا نجينا هودا و الذين آمنوا معه برحمة منا و نجيناهم من عذاب غليظ»: هود: 58.
قوله تعالى: «ليسأل الصادقين عن صدقهم و أعد للكافرين عذابا أليما» اللام في «ليسأل» للتعليل أو للغاية و هو متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: «و إذ أخذنا» و قوله: «و أعد» معطوف على ذلك المحذوف، و التقدير فعل ذلك أي أخذ الميثاق ليتمهد له سؤال الصادقين عن صدقهم و أعد للكافرين عذابا أليما.
و لم يقل: و ليعد للكافرين عذابا، إشارة أن عذابهم ليس من العلل الغائية لأخذ الميثاق و إنما النقص من ناحيتهم و الخلف من قبلهم.
و أما سؤال الصادقين عن صدقهم فقيل: المراد بالصادقين الأنبياء و سؤالهم عن صدقهم هو سؤالهم يوم القيامة عما جاءت به أممهم و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: «يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم»: المائدة: 190.
و قيل: المراد سؤال الصادقين في توحيد الله و عدله و الشرائع عن صدقهم أي عما كانوا يقولون فيه، و قيل: المراد سؤال الصادقين في أقوالهم عن صدقهم في أفعالهم، و قيل: المراد سؤال الصادقين عما قصدوا بصدقهم أ هو وجه الله أو غيره؟ إلى غير ذلك من الوجوه و هي كما ترى.
و التأمل فيما يفيده قوله: «ليسأل الصادقين عن صدقهم» يرشد إلى خلاف ما ذكروه، ففرق بين قولنا: سألت الغني عن غناه و سألت العالم عن علمه، و بين قولنا: سألت زيدا عن ماله أو عن علمه، فالمتبادر من الأولين أني طالبته أن يظهر غناه و أن يظهر علمه، و من الأخيرين أني طالبته أن يخبرني هل له مال أو هل له علم؟ أو يصف لي ما له من المال أو من العلم.
و على هذا فمعنى سؤال الصادقين عن صدقهم مطالبتهم أن يظهروا ما في باطنهم من الصدق في مرتبة القول و الفعل و هو عملهم الصالح في الدنيا فالمراد بسؤال الصادقين عن صدقهم توجيه التكليف على حسب الميثاق إليهم ليظهر منهم صدقهم المستبطن في نفوسهم و هذا في الدنيا لا في الآخرة فأخذ الميثاق في نشأة أخرى قبل الدنيا كما يدل عليه آيات الذر «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» الآيات.
و بالجملة الآيتان من الآيات المنبئة عن عالم الذر المأخوذ فيه الميثاق و تذكر أن أخذ الميثاق من الأنبياء (عليهم السلام) و ترتب شأنهم و عملهم في الدنيا على ذلك في ضمن ترتب صدق كل صادق على الميثاق المأخوذ منه.
و لمكان هذا التعميم ذكر عاقبة أمر الكافرين مع أنهم ليسوا من قبيل النبيين و الكلام في الميثاق المأخوذ منهم فكأنه قيل: أخذنا ميثاقا غليظا من النبيين أن تتفق كلمتهم على دين واحد يبلغونه ليسأل الصادقين و يطالبهم بالتكليف و الهداية إظهار صدقهم في الاعتقاد و العمل ففعلوا فقدر لهم الثواب و أعد للكافرين عذابا أليما.
و من هنا يظهر وجه الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: «ليسأل الصادقين» إلخ، و ذلك لأن الميثاق على عبادته وحده لا شريك له و إن كان أخذه منه تعالى بوساطة من الملائكة المصحح لقوله: «أخذنا» «و أخذنا» فالمطالب لصدق الصادقين و المعد لعذاب الكافرين بالحقيقة هو تعالى وحده ليعبد وحده فتدبر.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «يا أيها النبي اتق الله» الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبي الأعور السلمي قدموا المدينة و نزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكلموه فقاموا و قام معهم عبد الله بن أبي و عبد الله بن سعيد بن أبي سرح و طعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات و العزى و مناة و قل: إن لها شفاعة لمن عبدها و ندعك و ربك. فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان و أمر فأخرجوا من المدينة و نزلت الآية «و لا تطع الكافرين» من أهل مكة أبا سفيان و أبا الأعور و عكرمة «و المنافقين» ابن أبي و ابن سعيد و طعمة: أقول: و روي إجمال القصة في الدر المنثور، عن جرير عن ابن عباس، و روي أسباب أخر لنزول الآيات لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و ما جعل أدعياءكم أبناءكم»: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة و رأى زيدا يباع و رآه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبىء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه إلى الإسلام فأسلم و كان يدعى زيد مولى محمد. فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة و كان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي و بلغني أنه صار إلى ابن أخيك تسأله إما أن يبيعه و إما أن يفاديه و إما أن يعتقه. فكلم أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني الحق بشرفك و حسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك و نسبك و تكون عبدا لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيا، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه و ليس هو ابني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا أن زيدا ابني أرثه و يرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه و سماه زيد الحب. فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش و أبطأ عنه يوما فأتى رسول الله منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها يستحق طيبها بفهر لها فدفع رسول الله الباب و نظر إليها و كانت جميلة حسنة فقال: سبحان الله رب النور و تبارك الله أحسن الخالقين، ثم رجع رسول الله إلى منزله و وقعت زينب في قلبه موقعا عجيبا. و جاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوج بك رسول الله؟ فقالت: أخشى أن تطلقني و لا يتزوجني رسول الله. فجاء زيد إلى رسول الله فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا و كذا فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال له رسول الله: لا اذهب و اتق الله و أمسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: «أمسك عليك زوجك و اتق الله - و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشى الناس - و الله أحق أن تخشاه - فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها إلى قوله و كان أمر الله مفعولا» فزوجه الله من فوق عرشه. فقال المنافقون: يحرم علينا نساء أبنائنا و يزوج امرأة ابنه زيد فأنزل الله في هذا «و ما جعل أدعياءكم أبناءكم إلى قوله يهدي السبيل».
أقول: و روى قريبا منه مع اختلاف ما في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و ابن مردويه عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات و ترك دينا فالي، و من ترك مالا فهو لورثته.
أقول: و في معناه روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي عن بريدة قال: غزوت مع على اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغير و قال: يا بريدة أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
و في الاحتجاج، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في حديث طويل قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. من كنت أولى به من نفسه فأنت أولى به من نفسه و علي بين يديه في البيت: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن جعفر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأحاديث في هذا المعنى من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء.
و في الكافي، بإسناده عن حنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي شيء للموالي؟ فقال: ليس لهم من الميراث إلا ما قال الله عز و جل: «إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا».
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: و آدم بين الروح و الجسد.
أقول: و هو بلفظه مروي بطرق مختلفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه كون الميثاق مأخوذا في نشأة غير هذه النشأة و قبلها.
|