بيان
آيات مقررة للتوحيد و احتجاجات حوله.
قوله تعالى: «قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة» إلى آخر الآية، أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على إبطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله: «قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله» أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولا «زعمتم» محذوفان لدلالة السياق عليهما - و دعاؤهم هو مسألتهم شيئا من الحوائج.
و قوله: «لا يملكون مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض» واقع موقع الجواب كأنه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشيء لأنهم «لا يملكون مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض» و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتم الربوبية و الألوهية إلا بأن يملك الرب و الإله شيئا مما يحتاج إليه الإنسان فيملكه له و ينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون ربا و لا إلها.
و قوله: «و ما لهم فيهما من شرك» كان الملك المنفي في الجملة السابقة «لا يملكون» إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي ينبسط على البعض دون الكل إما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أما الله سبحانه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.
و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم و ألوهيتهم.
و قوله: «و ما له منهم من ظهير» أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.
فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقا و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه.
قوله تعالى: «و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له» المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله»: يونس: 18، و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم و إصلاح شئونهم بتوسط آلهتهم.
و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلين بها إلا أن يملكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.
و قوله: «إلا لمن أذن له» يحتمل أن يكون اللام في «لمن» لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه.
انتهى.
و هو الوجه فإن الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهي و إجرائه، قال تعالى: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 27، و قال: «جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة»: فاطر: 1، و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر و لكل أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء: 28، لا في معنى قوله: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس: 3.
قوله تعالى: «حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير» التفزيع إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء و هم الملائكة.
و لازم قوله: «حتى إذا فزع عن قلوبهم» - و هو غاية - أن يكون هناك أمر مغيى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: «و لله يسجد - إلى أن قال - و الملائكة و هم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون»: النحل: 50، فالفزع هو التأثر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم.
و بذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم و هو تذللهم من حيث إنهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية و وقوعه على ما صدر و كما أريد، و كشف هذا التذلل هو تلقيهم الأمر الإلهي و اشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلا أمره فافهم ذلك.
و إنما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كل شيء إلا ربهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشيء غيره حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهي بلا مهل و لا تخلف فليس الأمر بحيث يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82، فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا أزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهي.
و قوله: «قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق» يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضا عن الأمر الإلهي بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.
و يتبين منه أن كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإن لازم السؤال أن يكون المسئول عالما بما سئل عنه قبل السائل.
فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الأمر الإلهي من العالية من غير تخلف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: «و ما منا إلا له مقام معلوم»: الصافات: 164، و قوله في وصف الروح الأمين: «ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين»: التكوير: 21.
فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلا لله سبحانه لأن المطاع منهم لا شأن له إلا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: «قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق» أي قال القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان و التبدل إليه.
و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: «و هو العلي الكبير» أي هو العلي الذي دونه كل شيء و الكبير الذي يصغر عنده كل شيء فليس للملائكة المكرمين إلا تلقي قوله الحق و امتثاله و طاعته كما يريد.
فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم ذاهلون عن كل شيء إلا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا و دنوا يتوسط كل عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.
فهم مع كونهم شفعاء و أسبابا متوسطة لا يشفعون و لا يتوسطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلا بإذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الأمر النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شيء أو يستبدوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشيء إلا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟ و في الآية أقوال مختلفة أخر: منها: أن ضمير «قلوبهم» و «قالوا» الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير «قالوا» الأول للملائكة و المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.
و منها: أن ضمير «قلوبهم» للملائكة و المراد أن الملائكة الموكلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة فيفزعون و يخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.
و منها: أن الله لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فترة بينه و بين عيسى (عليه السلام) لم ينزل فيها شيء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رءوسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق أي الوحي.
و منها: أن الضمير للملائكة و المراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم بعضا ما ذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الأمر في غيرهم.
و أنت بعد التدبر في الآية الكريمة و التأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها.
قوله تعالى: «قل من يرزقكم من السموات و الأرض قل الله» إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الآلهة فإنهم يتعللون في عبادتهم الآلهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.
فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنه الله سبحانه لأن الرزق خلق في نفسه و لا خالق - حتى عند المشركين - إلا الله عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: «قل الله».
و قوله: «و إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين»، تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة و وضوح الحق في مسألة الألوهية مبني على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا و إثباتا و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإما أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إما أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة و ميزوا المهدي من الضال و المحق من المبطل.
و اختلاف التعبير في قوليه: «على هدى» و «في ضلال» بلفظة على و في - كما قيل - للإشارة إلى أن المهتدي كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل و غايتها التي فيها سعادته، و الضال منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير و ما ذا يراد به؟.
قوله تعالى: «قل لا تسألون عما أجرمنا و لا نسأل عما تعملون» أي إن العمل و خاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله و لا يلحق وباله إلا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عما أجرمنا بل نحن المسئولون عنه و لا نسأل عما تعملون بل أنتم المسئولون.
و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإن الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيرا و شرا كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميز كل من الأخرى حتى يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء و الذي يفتح و يميز هو الرب تعالى.
و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله: «تعملون» و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.
قوله تعالى: «قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق و هو الفتاح العليم» لما كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن و المسيء جزاء عمله و كان لازمه التمييز بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الأمر و هو الرب أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكرهم أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء و أولئك فإنه هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق و التدبير فيتميز بذلك الشيء من الشيء كما قال: «إن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما»: الأنبياء: 30، و هو العليم بكل شيء.
فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسيء أولا ثم انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه و يبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب.
و الفتاح من أسماء الله الحسنى و الفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.
قوله تعالى: «قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم» أمر آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله: «أروني الذين ألحقتم به شركاء» أي ألحقتموهم به شركاء له.
ثم ردع بنفسه و قال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم إما أن يروه الأصنام بما أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إما أن يروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شيء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شيء من كماله.
اللهم إلا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ما له من الشئون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتية و هذا ينافي حكمته تعالى.
و قد أشير إلى هذه الحجة بقوله: «بل هو الله العزيز الحكيم» فإن عزته تعالى - و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد - تمنع أن يشاركه في شيء من صفات كماله كالربوبية و الألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك و لو كانت عن إرادة حزافية منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك.
و قد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها.
قوله تعالى: «و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا و لكن أكثر الناس لا يعلمون» قال الراغب في المفردات:، الكف كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها و تعورف الكف بالدفع على أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله: و ما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علامة و نسابة.
انتهى.
و يؤيد هذا المعنى توصيفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبشير و النذير، فقوله: «بشيرا و نذيرا» حالان يبينان صفته لقوله: «كافة للناس».
و ربما قيل: إن التقدير و ما أرسلناك إلا إرساله كافة للناس و لا يخلو من تكلف و بعد.
و أما كون كافة بمعنى جميعا و حالا من الناس، و المعنى: و ما أرسلناك إلا للناس جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور.
و اعلم أن منطوق الآية و إن كان راجعا إلى النبوة و فيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى على التوحيد و ذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم و مسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره لجاءهم رسوله و لم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عمتهم و احتاجوا معه إلى غيره، و هذا معنى قول علي (عليه السلام) - على ما روي - لو كان لربك شريك لأتتك رسله.
و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون» فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا و نذيرا.
فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له و الحال أنا لم نرسلك إلا كافا لجميع الناس بشيرا و نذيرا و لو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم و هم عباد لإله آخر و الله أعلم.
قوله تعالى: «و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين» سؤال عن وقت الجمع و الفتح و هو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: «قل يجمع بيننا ربنا» الآية، و هذا أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: «و ما أرسلناك إلا كافة» و إلا كانت هذه الآية و التي بعدها متخللتين بين قوله: «و ما أرسلناك» الآية، و الآيات التالية المتعرضة لمسألة النبوة.
قوله تعالى: «قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون» أمر منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضي محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع قطعا و لا يختلف وقت وقوعه البتة أي إن الله وعد به وعدا لا يخلفه إلا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلا الله سبحانه.
و ما قيل: إن المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا إلا عما تقدم وعده و هو يوم الجمع و الفتح و الجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «حتى إذا فزع عن قلوبهم - قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير» و ذلك أن أهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات. فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق و هو العلي الكبير: أقول: و روي مثله من طرق أهل السنة موصولا و موقوفا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية و لا تصلح لتفسيرها البتة.
و في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس و في المجمع عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي. بعثت إلى الناس كافة الأحمر و الأسود و إنما كان النبي يبعث إلى قومه، و نصرت بالرعب يرعب مني عدوي على مسيرة شهر، و أطعمت المغنم، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة و هي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا.
أقول: و روي أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة و ذكر في بعضها إبراهيم (عليه السلام) و في بعضها أن أولي العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة، و تخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات و قد قال تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف: 86، و قد شهد القرآن بأن المسيح (عليه السلام) من الشهداء قال تعالى: «و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا»: النساء: 159.
و الروايات من طرق العامة و الخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة و ظاهر كثير منها أخذ «كافة» في قوله تعالى: «و ما أرسلناك إلا كافة للناس» حالا من «للناس» قدم عليه و يمنعه البصريون من النحاة و يجوزه الكوفيون.
|