بيان
تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه و فساده خلق السماوات و الأرض و أنهم ليس لهم من دونه من ولي كما يذكره هذا الكتاب.
و من هنا ينتقل إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة هذا الكتاب الذي أوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول لين و مجادلة حسناء و يجيب عن اقتراح المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بآيات غير القرآن و أن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به.
قوله تعالى: «مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا» إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكر و يؤنث.
العناية في قوله: «مثل الذين اتخذوا» إلخ، باتخاذ الأولياء من دون الله و لذا جيء بالموصول و الصلة كما أن العناية في قوله: «كمثل العنكبوت اتخذت بيتا» إلى اتخاذها البيت فيئول المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، و هو الوصف الذي يدل عليه تنكير «بيتا».
و يكون قوله: «إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» بيانا لصفة البيت الذي أخذته العنكبوت و لم يقل: إن أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير.
و المعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الذين يتولونهم و يركنون إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلا اسمه لا يدفع حرا و لا بردا و لا يكن شخصا و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم إلا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرون و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا.
و مورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم و تدبيرا لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشر عنهم و الشفاعة في حقهم.
و الآية - مضافا إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور و شأن من الشئون وليا من دون الله يركن إليه و يراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه و إن لم يعد من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول و الأئمة و المؤمنين كما قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف: 106.
و قوله: «لو كانوا يعلمون» أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما اتخذوهم أولياء.
كذا قيل.
قوله تعالى: «إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء و هو العزيز الحكيم» يمكن أن يكون «ما» في «ما يدعون» موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و «من» في «من شيء» على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح الاحتمالات الأولان و أرجحهما أولهما.
و المعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي إن الذي يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا.
و المعنى: على الأول أن الله يعلم الشيء الذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، و ليس لأوليائهم من الولاية إلا اسمها.
و يؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق و الإيجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: «خلق الله السماوات و الأرض بالحق».
قوله تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون» يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الإشراف على حقيقة معانيها و لب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور و لا ينجمد على ظواهرها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: «و ما يعقلها» دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما في معناه.
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لا حظ له منها إلا تلقي ألفاظها و تصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة.
و فيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري و دعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية و حقيقة حقة ثابتة و هي التي تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: «خلق الله السماوات و الأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين» المراد بكون خلق السماوات و الأرض بالحق نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان: 39.
فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغير و سنة إلهية جارية لا تختلف و لا تتخلف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفك أحدهما عن الآخر، و إذ كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريا و لا محيص فالتدبير أيضا له و لا محيص و ما من شيء غيره تعالى إلا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و من المحال قيامه بشيء من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه و الجد الذي لا هزل فيه.
فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعبا منه تعالى و تقدس إذ ليس إلا فرضا لا حقيقة له و وهما لا واقع له و هو معنى اللعب.
و منه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها إلا اسم الولاية من غير مسمى كما أن بيت العنكبوت كذلك.
و قوله: «إن في ذلك لآية للمؤمنين» تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.
قوله تعالى: «اتل ما أوحي إليك من الكتاب و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر» إلخ، لما ذكر إجمال قصص الأمم و ما انتهى إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم انتقل من ذلك - مستأنفا للكلام - إلى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة ما أوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق و تشتمل على القصص و العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه و من سمعه.
و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل و علل ذلك بقوله: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر» و السياق يشهد أن المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة.
فلطبيعة هذا التوجه العبادي - إذ أتى به العبد و هو يكرره كل يوم خمس مرات و يداوم عليه و خاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتم فيه بما اهتم - به أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس عدوانا و أكل مال اليتيم ظلما و الزنا و اللواط، و عن كل ما ينكره الطبع السليم و الفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين و العمل.
و ذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيته تعالى و الرسالة و جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية إلى صراطه المستقيم متعوذا من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربه بحمده و الثناء عليه و تسبيحه و تكبيره ثم السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله.
مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و التحرز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربه فالإنسان لو داوم على صلاته مدة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء و المنكر البتة، و لو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن و تتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة و لا روضك بأزيد مما تروضك به.
و قد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب الكبائر و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر.
و لذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإن ذلك يردع الناس عن الفحشاء و المنكر.
و فيه أنه صرف الكلام عن ظاهره.
و ذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أن بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد الاستغراق حتى يرد الإشكال.
و ذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلي في صلاته كأنه قيل: إن المصلي ما دام مصليا في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و المنكر.
و قال بعضهم: إن الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا و لا تقترف كذا لكن النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر»: النحل: 90، و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء و هو توهم باطل.
و عن بعضهم في دفع الإشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: «أقم الصلاة لذكري» و من كان ذاكرا لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كل من تراه يصلي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره.
و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية فإن الذي يعطيه السياق أن الأمر بإقامة الصلاة إنما علل بقوله: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر» ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث إقامته صفة روحية في الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء و المنكر و تتطهر عن قذارة الذنوب و الآثام.
فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، و لا أن المراد هو التوسل إلى تلقي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس.
فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى الله سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلية التامة فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر و تقربه من الغفلة و الانصراف عن حاق الذكر فكلما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحض الإخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء و المنكر و كلما ضعف ضعف الأثر.
و أنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و عامة الواجبات الدينية و لا يفرق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شيء ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه و على هذا القياس.
و قوله: «و لذكر الله أكبر» قال الراغب في المفردات:، الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره.
و تارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر.
انتهى.
و الظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول و تسمية اللفظ ذكرا إنما هو لاشتماله على المعنى القلبي و الذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب على سببه و الغاية المقصودة من الفعل.
و الصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل و تحميد و تنزيه و هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه كما قال: «إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله»: الجمعة: 9، و هي باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى: «و أقم الصلاة لذكري»: طه: 14.
و الذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور صدوره عن الإنسان و أعلاه كعبا و أعظمه قدرا و أثرا فإنه السعادة الأخيرة التي هيئت للإنسان و مفتاح كل خير.
ثم إن الظاهر من سياق قوله: «و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر» إن قوله: «و لذكر الله أكبر» متصل به مبين لأثر آخر للصلاة و هو أكبر مما بين قبله، فيقع قوله: «و لذكر الله أكبر» موقع الإضراب و الترقي و يكون المراد الذكر القلبي الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و هو مفتاح كل خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير.
و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة.
و الجملة أيضا واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهي عن الفحشاء و المنكر لأن النهي أثر من آثارها الحسنة و «ذكر الله» على الاحتمالين جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضل عليه لقوله: «أكبر» هو النهي عن الفحشاء و المنكر.
و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر و كون المفضل عليه خاصا أو عاما أقوال أخر.
فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أن الله تعالى يذكر من ذكره لقوله: «فاذكروني أذكركم»: البقرة: 152، و قيل: المعنى: ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شيء.
و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إن قوله: «أكبر» معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: «ما عند الله خير من اللهو».
فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها إيثارا للاختصار، و التدبر في الآية يكفي مئونة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى.
و قوله: «و الله يعلم ما تصنعون» أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه و لا تغفلوا عنه ففيه حث و تحريض على المراقبة و خاصة على القول الأول.
قوله تعالى: «و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم» لما أمر في قوله: «اتل ما أوحي إليك» إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون - إلا بالمجادلة - التي هي أحسن المجادلة.
و المجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا و طعنا و إهانة، فمن حسنها أن تقارن رفقا و لينا في القول لا يتأذى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه حتى يتفقا و يتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن.
و لهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم، فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و الاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة و هوان للمجادل و يعتبره تمويها و احتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن.
و لهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحق فقال: «و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و كذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به و من هؤلاء من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» أي على تلك الصفة و هي الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن.
و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو القرآن.
فقوله: «فالذين آتيناهم الكتاب» إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل الكتاب و هؤلاء المشركين إلا الكافرون و هم الساترون للحق بالباطل.
و قد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في «يؤمن به» إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في قوله: «و من هؤلاء من يؤمن به» نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.
قوله تعالى: «و ما كنت تتلوا من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخط الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الذي يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه، و الأنسب في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأول.
و ظاهر التعبير في قوله: «و ما كنت تتلوا» إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو و تخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: «فقد لبثت فيكم عمرا من قبله»: يونس: 16.
و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخط من قبله و الوجه الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة و قد أقامها لتثبيت حقية القرآن و نزوله من عنده.
و تقييد قوله: «و لا تخطه» بقوله: «بيمينك» نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني.
و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا و لا كان من عادتك أن تخط كتابا و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أميا - و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و معاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى و ليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتى يرتاب المبطلون و يعتذروا به.
قوله تعالى: «بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون» إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) التلاوة و الخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: «بل هو - أي القرآن - آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم».
و قوله: «و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون» المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عنادا و تعنتا.
قوله تعالى: «و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير مبين» لما ذكر الكتاب و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتلوه و يدعوهم إليه به و أن منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذي هو آية النبوة و اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بآيات غيره و الجواب عنه.
فقوله: «و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه» اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية و زعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة إلهية غيبية يقوى على كل ما يريد، و في قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: «يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين»: الحجر: 7.
و قوله: «قل إنما الآيات عند الله» جواب عن زعمهم أن من يدعي الرسالة يدعي قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شيء إلا أن يشاء الله ثم زاده بيانا بقصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإنذار فحسب بقوله: «إنما أنا نذير مبين».
قوله تعالى: «أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم» إلى آخر الآية توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملو رحمة و تذكرة للمؤمنين.
قوله تعالى: «قل كفى بالله بيني و بينكم شهيدا» إلقاء جواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليجيبهم به و هو أن الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم فيه و هو أمر الرسالة فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله علي برسالتي و هو تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئا و كفى بشهادته لي دليلا على دعواي.
و ليس لهم أن يقولوا إنه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال الآيات و منه يعلم أن قوله: «قل كفى بالله بيني و بينكم شهيدا» ليس دعوى مجردة أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي و حجة قاطعة على ما عرفت.
و قوله: «و الذين آمنوا بالباطل و كفروا بالله أولئك هم الخاسرون» قصر الخسران فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة و هم بكفرهم بالله الحق يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم.
قوله تعالى: «و يستعجلونك بالعذاب و لو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب و ليأتينهم بغتة و هم لا يشعرون» إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: «و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه»: هود: 8.
و المراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36، و قال: «و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: الأعراف: 34.
و هذا العذاب الذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: «و ربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا»: الكهف: 58، و لا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و إنظار، قال تعالى: «و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون»: إسراء: 59.
قوله تعالى: «يستعجلونك بالعذاب و إن جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم العذاب» إلى آخر الآية، تكرار «يستعجلونك» للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم و أن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا و استعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.
و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله: «يوم يغشاهم» ظرف لقوله: «محيطة» و الباقي ظاهر.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «و ما يعقلها إلا العالمون»: روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية و قال: العالم الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه.
و فيه،: في قوله تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: روى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عمران بن الحصين و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا.
و فيه، و أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا صلاة لمن لم تطع الصلاة و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مسعود و غيره.
و فيه، و روى أنس: أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن صلاته تنهاه يوما ما.
و فيه، روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لذكر الله أكبر»: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و لذكر الله أكبر» يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه أ لا ترى أنه يقول: «اذكروني أذكركم».
أقول: و هذا أحد المعاني التي تقدم نقلها.
و في نور الثقلين، عن مجمع البيان، و روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الله عند ما أحل و حرم.
و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عز و جل.
و فيه، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معاذ إن السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز و جل و من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز و جل.
و في الكافي، بإسناده عن العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم» قال: هم الأئمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدة طرق: و هو من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.
و في البصائر، بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: «بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم» فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟.
و في الدر المنثور، أخرج الإسماعيلي في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن أحمق الحمق و أضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم و إلى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: «أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم» الآية.
و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها و قالت: يتتبع الكتب و قد قال الله: «أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم» فقيل لها: إنه عبد الله بن عامر فقبلها.
أقول: ظاهر الروايتين و خاصة الأولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى ذلك.
|