بيان
لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة و كانوا يهددونهم بالفتنة و العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكلوا على ربهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.
قوله تعالى: «يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون» توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق و الاستنان بسنته و يدل على ذلك ذيل الآية.
و قوله: «إن أرضي واسعة» الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال.
و قوله: «فإياي فاعبدون» الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام و الظاهر أن تقديم «إياي» لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري بل اعبدوني، و قوله: «فاعبدون» قائم مقام الجزاء.
و محصل المعنى: أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها.
قوله تعالى: «كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون» الآية تأكيد للأمر السابق في قوله: «فإياي فاعبدون» و كالتوطئة لقوله الآتي: «الذين صبروا» إلخ.
و قوله: «كل نفس ذائقة الموت» من الاستعارة بالكناية و المراد أن كل نفس ستموت لا محالة، و الالتفات في قوله: «ثم إلينا ترجعون» من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
و محصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل و الموت وراءه ثم الرجوع إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا - و هي زينة فانية - عن التهيؤ للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد.
قوله تعالى: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا» إلخ، بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حث و ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكل على الله، و التبوئة الإنزال على وجه الإقامة، و الغرف جمع غرفة و هي في الدار، العلية العالية.
و قد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال: «نعم أجر العاملين» ثم فسر العاملين بقوله: «الذين صبروا و على ربهم يتوكلون» فعاد بذلك الصبر و التوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من التعب و العناء في الله.
قوله تعالى: «الذين صبروا و على ربهم يتوكلون» وصف للعالمين، و الصبر أعم من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة.
قوله تعالى: «و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم و هو السميع العليم» كأين للتكثير، و حمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الإنسان و النمل و الفأر و النحل من سائر الحيوان.
و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق و هو السميع العليم.
و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها و هو أن الإنسان و سائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم.
بحث روائي
في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة» يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإن أرضي واسعة، و هو يقول: «فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض» فقال: «أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها».
و في المجمع:، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.
و في العيون، بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما نزلت «إنك ميت و إنهم ميتون» قلت: يا رب أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت «كل نفس ذائقة الموت»: أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي، و لا يخلو متنه عن شيء فإن قوله: «إنك ميت و إنهم ميتون» يخبر عن موته (صلى الله عليه وآله وسلم) و موت سائر الناس، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء.
و في الجمع، عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت «و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم - و هو السميع العليم» أقول: و قد روى الرواية في الدر المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدمها.
|