بيان
يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير و الألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا الله الذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و ليس له سبحانه إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة.
قوله تعالى: «و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون» المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية.
و قوله: «ثم إذا أنتم بشر تنتشرون» إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة و شعور عقلي ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: «ثم إذا أنتم بشر تنتشرون» في معنى قوله: «ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14.
فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنسانا ذا حياة و شعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر و يجري هذا النظام العجيب.
و قد ظهر بهذا المعنى أن «ثم» للتراخي الرتبي و الجملة معطوفة على قوله: «خلقكم» لا على قوله: «أن خلقكم».
قوله تعالى: «و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها» إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى: «فجعل منه الزوجين الذكر و الأنثى» و قال: «و زوجك الجنة» و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات - إلى أن قال - و جمع الزوج أزواج.
انتهى.
فقوله: «أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها» أي خلق لأجلكم - أو لينفعكم - من جنسكم قرائن و ذلك أن كل واحد من الرجل و المرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر و يتم بمجموعهما أمر التوالد و التناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تام له أن يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله و كل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره و هذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين.
و قوله: «و جعل بينكم مودة و رحمة» المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة و الكبرياء.
و الرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه.
و من أجل موارد المودة و الرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة و المحبة و هما معا و خاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة لانقطع النسل و لم يعش النوع قط.
و نظير هذه المودة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة.
و المراد بالمودة و الرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية.
و قوله: «لآيات لقوم يتفكرون» لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي و المودة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتيه الدنيا و الأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم.
قوله تعالى: «و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم» إلى آخر الآية.
الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية و الفارسية و الأردوية و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض و السواد و الصفرة و الحمرة.
و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلم و النطق و باختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.
فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلا بالله و لا ينتهي إلا إليه.
قوله تعالى: «و من آياته منامكم بالليل و النهار و ابتغاؤكم من فضله» إلى آخر الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطية لأن المعطي إنما يعطي ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق.
و في خلق الإنسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة و السعي ثم هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى وجود الليل و النهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه.
قال في الكشاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد و يجوز أن يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو الأول لتكرره في القرآن و أسد المعاني ما دل عليه القرآن.
انتهى.
و قد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون».
قوله تعالى: «و من آياته يريكم البرق خوفا و طمعا و ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها» الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر و لذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله: «أن خلقكم» و قوله: «أن خلق لكم» و تنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة و عليه يحمل المثل السائر: «و تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله: «منامكم» «يريكم» «أن تقوم».
و احتمل في قوله: «يريكم» أن يكون بحذف أن المصدرية و التقدير أن يريكم البرق و أيد بقراءة النصب في يريكم.
و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق إلخ، و احتمل أن يكون «من آياته» متعلقا بقوله: «يريكم»، و التقدير: و يريكم من آياته البرق، و احتمل أن يكون «من آياته» حالا من البرق، و التقدير: و يريكم البرق حال كون البرق من آياته.
و هذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.
و قوله: «خوفا و طمعا» أي خوفا من الصاعقة و طمعا في المطر، و قوله: «و ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها» تقدم تفسيره كرارا، و قوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» أي إن أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقه بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق و صدفة.
قوله تعالى: «و من آياته أن تقوم السماء و الأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون» القيام مقابل القعود و لما كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشيء و استقراره على أعدل حالاته كما يستعار لتدبير الأمر، قال تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت»: الرعد: 33.
و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون و تغير و ثبات بأمره تعالى و قد عرف أمره بقوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82.
و قوله: «ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون» «إذا» الأولى شرطية و «إذا» الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و «من الأرض» متعلق بقوله: «دعوة» و الجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لأن المراد بالجملة أعني قوله: «ثم إذا دعاكم» إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتج عليه سابقا و سيحتج عليه لاحقا.
و أما قول القائل: إن الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على «أن تقوم» و التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض.
فلازمه كون البعث معدودا من الآيات و ليس منها على أن البعث أحد الأصول الثلاثة التي يحتج بالآيات عليه، و لا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد عليه فافهم ذلك.
و لما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجا و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله: «أن تقوم السماء و الأرض» بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعي و حالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الإنساني المرتبطة بهما و كان قوله: «ثم إذا دعاكم» إلخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي إن خروجهم من الأرض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبىء به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى.
و يظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق «و من آياته خلق السماوات و الأرض» خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية و ينفعانها.
و قد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكونه ثم تصنفه صنفين: الذكر و الأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم ثم السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثم إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتى تنتهي إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الإنساني ما قدر له من أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.
و قد رتبت الفواصل أعني قوله «يتفكرون» «للعالمين» «يسمعون» «يعقلون» على هذا الترتيب لأن الإنسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله و الله أعلم.
قوله تعالى: «و له من في السماوات و الأرض كل له قانتون» كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيته تعالى و ألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه و لما انتهى الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجة مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة.
فقوله: «و له من في السماوات و الأرض» إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأن وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و هذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.
و قد أكد ذلك بقوله: «كل له قانتون» و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات -، و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية - على ما يعطيه السياق - دون التشريعية التي ربما تخلفت.
و ذلك أنهم الملائكة و الجن و الإنس فأما الملائكة فليس عندهم إلا خضوع الطاعة، و أما الجن و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونية و كلما احتالوا في إلغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى و سبب آخر كوني ثم علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون إلا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج و لا يتحقق مما شاءوا إلا ما أذن فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه.
|