بيان
هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.
قوله تعالى: «الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا و شيبة» إلخ، الضعف و القوة متقابلان، و «من» في قوله: «من ضعف للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية و إن أمكن صدقه على النطفة.
و المراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد و بالضعف بعد القوة الشيخوخة و لذا عطف عليه «شيبة» عطف تفسير، و تنكير «ضعف» و «قوة» للدلالة على الإبهام و عدم تعين المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.
و قوله: «يخلق ما يشاء» أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إن ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلا كما يقوله الوثنية.
ثم تمم الكلام بالعلم و القدرة فقال: «و هو العليم القدير».
قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون»، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات و الحجج على وحدانيته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية التي تختتم بها السورة فإنه لما عد شيئا من الآيات و الحجج و أشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.
و هذا الإفك و التقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتى قيام الساعة فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا.
فقوله: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة»، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات الدنيا.
و قوله: «كذلك كانوا يؤفكون» أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنونه باطلا من القول و خرافة من الرأي.
قوله تعالى: «و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث» إلخ، رد منهم لقول المجرمين: «ما لبثوا غير ساعة» فإن المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه و بين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم.
فرد عليهم أهل العلم و الإيمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الذي يشير إليه قوله: «و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون»: المؤمنون: 100.
فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث و لكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم إلا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم: «لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون»، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «أوتوا العلم و الإيمان»، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أن العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهية، و من هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب السماوية أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به.
قوله تعالى: «فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون» الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.
قوله تعالى: «و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل» إلخ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لأنها مطبوع عليها، و لذا عقبه بقوله: «و لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون» أي جاءون بالباطل و هذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق يرون كل حق باطلا، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.
قوله تعالى: «كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون»، أي يجهلون بالله و آياته و منها البعث و هم يصرون على جهلهم و ارتيابهم.
قوله تعالى: «فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون»، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم: «إن أنتم إلا مبطلون» و سائر تهكماتهم، إن وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين»، و لا يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.
و قول بعضهم: إن المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشيء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعا بالنصرة.
|