بيان
احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية و الأرضية التي يتنعم بها الإنسان و لا خالق لها و لا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه، و فيها بعض الإشارة إلى البعث.
قوله تعالى: «و الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت» إلخ.
العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار و إنبات النبات بها، و لذلك قال: «الله الذي أرسل الرياح» و هذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله: «الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا:» الروم: - 48.
و قوله: «فتثير سحابا» عطف على «أرسل» و الضمير للرياح و الإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية و الإثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا.
و قوله: «فسقناه إلى بلد ميت» أي إلى أرض لا نبات فيها «فأحيينا به الأرض بعد موتها» و أنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، و نسبة الإحياء إلى الأرض و إن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية و أعمال النبات من التغذية و النمو و توليد المثل و ما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة.
و لذلك شبه البعث و إحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل و ركوده في الشتاء فقال: «كذلك النشور» أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم و إخراجهم من القبور.
و في قوله: «فسقناه إلى بلد ميت» إلخ.
التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: «و الله الذي أرسل» بنعت الغيبة و في قوله: «فسقناه» إلخ.
بنعت التكلم مع الغير و لعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: «و الله الذي أرسل الرياح» أخذ لنفسه نعت الغيبة و يتبعه فيه الإرسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: «فتثير سحابا» على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل و يشاهد الرياح و هي تثير السحاب و تنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم و اختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
و قوله: «فأحيينا به الأرض» و لم يقل: فأحييناه مع كفايته و كذا قوله: «بعد موتها» مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه.
قوله تعالى: «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا» قال الراغب في المفردات،: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا» انتهى.
فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر و لا يقهر كقوله تعالى: «يا أيها العزيز مسنا:» يوسف: - 88.
و كذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: «و عزني في الخطاب:» (صلى الله عليه وآله وسلم): - 23 و العزة بمعنى القلة و صعوبة المنال، قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز:» حم السجدة: - 41 و العزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: «عزيز عليه ما عنتم:» التوبة: - 182: «و العزة بمعنى الأنفة و الحمية قال تعالى بل الذين كفروا في عزة و شقاق:» ص: - 2 إلى غير ذلك.
ثم إن العزة بمعنى كون الشيء قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز و جل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله و يؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين:» المنافقون: - 8.
و بذلك يظهر أن قوله: «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا» ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره و أن من أرادها فقد طلب محالا و أراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات.
فوضع قوله: «فلله العزة جميعا» في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع المسبب و هو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإيمان و العمل الصالح.
قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه» الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر و يؤنث، و قال في المجمع،: و الكلم جمع كلمة يقال؟ هذا كلم و هذه كلم فيذكر و يؤنث، و كل جمع ليس بينه و بين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث انتهى.
و المراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا و يشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه و متكلمه بحيث تنبسط منه و تستلذه و تستكمل به و ذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس و فلاحها.
و بذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها و بناء عمله عليها و المتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة و هي المشمولة لقوله تعالى: «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها:» إبراهيم: - 25 و تسمية الاعتقاد قولا و كلمة أمر شائع بينهم.
و صعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات، و إذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، و قد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له و هو من لوازم المعنى.
ثم إن الاعتقاد و الإيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل و لم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم و آثاره التي لا تنفك عنه، و كلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا و جلاء و قوي في تأثيره فالعمل الصالح و هو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية و الإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه و هو الصعود إليه تعالى و هو المعزى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
فقد تبين بما مر معنى قوله: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه» و أن ضمير «إليه» لله سبحانه و المراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، و بصعوده تقربه منه تعالى، و بالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق و يلائمه و أن الفاعل في «يرفعه» ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح و ضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب.
و لهم في الآية أقوال أخر: فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله و الإثابة عليه كما تقدمت الإشارة إليه، و قيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان و الطاعات إلى الله سبحانه، و قيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا.
و قيل: إن فاعل «يرفعه» ضمير عائد إلى الكلم الطيب و ضمير المفعول للعمل الصالح و المعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، و قيل: فاعل «يرفعه» ضمير مستكن راجع إليه تعالى و المعنى العمل الصالح يرفعه الله.
و جملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد و الأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى.
قوله تعالى: «و الذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك هو يبور» ذكروا أن «السيئات» وصف قائم مقام موصوف محذوف و هو المكرات، و وضع اسم الإشارة موضع الضمير في «مكر أولئك» للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم و المعنى و الذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك الماكرين هو يبور و يهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم و عزتهم.
و قد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات و الحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، و الآية مطلقة، و قيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار الندوة و غيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم و أخرجهم إلى بدر و قتلهم و أثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات و الإخراج و القتل و هذا وجه حسن لكن الآية مطلقة.
و وجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله: «إليه يصعد» إلى آخر الآية بقوله: «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا» أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى: «و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا:» مريم: - 81 فدعاهم الله سبحانه و هم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا و بين تعالى ذلك بأن توحيده يصعد إليه و العمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة و أما الذين يمكرون كل مكر سيىء لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد و ما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل و لا يكسب لهم عزا.
قوله تعالى: «و الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا» إلخ.
يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب و هو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة و هي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة.
و قيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشيء يضاف إلى أصله و قيل: بل المراد خلق آدم نفسه و قيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب و الخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: ثم من نطفة.
و الفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، و في الثاني المراد بخلقهم خلق آدم و لا مجاز في النسبة، و في الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي و بهذا يفارق ما قدمناه من الوجه.
و يمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى: «خلق الإنسان من صلصال كالفخار:» الرحمن: - 14، و الثاني بنحو قوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين:» السجدة: - 8، و الثالث بقوله: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم:» الأعراف: - 11 و لكل وجه.
و قوله: «ثم جعلكم أزواجا أي ذكورا و إناثا، و قيل: أي قدر بينكم الزوجية و زوج بعضكم من بعض، و هو كما ترى، و قيل: أي أصنافا و شعوبا.
و هو كسابقه.
و قوله: «و ما تحمل من أنثى و لا تضع إلا بعلمه» من زائدة لتأكيد النفي، و الباء في «بعلمه» للمصاحبة و هو حال من الحمل و الوضع، و المعنى ما تحمل و لا تضع أنثى إلا و علمه يصاحب حمله و وضعه، و ذكر بعضهم أنه حال من الفاعل و أن كونه حالا من الحمل و الوضع و كذا من مفعوليهما أي المحمول و الموضوع خلاف الظاهر و هو ممنوع.
و قوله: «و ما يعمر من معمر و لا ينقص من عمره إلا في كتاب» أي و ما يمد و يزاد في عمر أحد فيكون معمرا و لا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب.
فقوله: «و ما يعمر من معمر» من قبيل قوله: «إني أراني أعصر خمرا:» يوسف: - 26 فوضع معمر موضع نائب الفاعل و هو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا و إلا فتعمير المعمر لا معنى له.
و قوله: «و لا ينقص من عمره» الضمير في «عمره» راجع إلى «معمر» باعتبار موصوفه المحذوف و هو أحد و المعنى و لا ينقص من عمر أحد و إلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض.
و قوله: «إلا في كتاب» و هو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا و فلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا و أما كتاب المحو و الإثبات فهو مورد التغير و سياق الآية يفيد وصف العلم الثابت و لهم في قوله: «و ما يعمر من معمر و لا ينقص من عمره» وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها.
و قوله: «إن ذلك على الله يسير» تعليل و تقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان و كيفية إحداثه و إبقائه و المعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث و جزئياتها المقرر كل شيء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شيء بعلمه و قدرته فهو تعالى رب الإنسان كما أنه رب كل شيء.
قوله تعالى: «و ما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج» إلى آخر الآية قيل: العذب من الماء طيبه، و الفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، و السائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته و الأجاج الذي يحرق لملوحته أو المر.
و قوله: «و من كل تأكلون لحما طريا و تستخرجون حلية تلبسونها» اللحم الطري الغض الجديد، و المراد لحم السمك أو السمك و الطير، البحري و الحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ و المرجان و الأصداف قال تعالى: «يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان:» الرحمن: - 22.
و في الآية تمثيل للمؤمن و الكافر بالبحر العذب و المالح يتبين به عدم تساوي المؤمن و الكافر في الكمال الفطري و إن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية و آثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة و الكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية و سيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة و ملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية و هي العذوبة و الخروج عنها بالملوحة و إن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا و هو لحم السمك و الطير المصطاد من البحر و تستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ و المرجان و الأصداف.
فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب و البحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ و المرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، و قد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة.
منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة و إن اختص ببعضها كأنه قيل: و من كل تنتفعون و تستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا و تستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر.
و منها أنه شبه المؤمن و الكافر بالعذب و الأجاج ثم فضل الأجاج على الكافر بأن في الأجاج بعض النفع و الكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى: «ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة» ثم قال: «و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله:» البقرة: - 74.
و منها أن قوله: «و تستخرجون حلية تلبسونها» من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين و إن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته و المؤمن و الكافر و إن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة و السخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر.
و منها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة و إن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع.
و منها منع أصل الدعوى و هو كون الآية «و ما يستوي البحران» إلخ.
تمثيلا للمؤمن و الكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبية كقوله قبلا: «و الله الذي أرسل الرياح» و قوله بعدا: «يولج الليل في النهار» إلخ.
فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر و اختلافه بالعذوبة و الملوحة و ما فيهما من المنافع المشتركة و المختصة.
و يؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه و هو قوله: «و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية تلبسونها و ترى الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون: النحل: - 14.
و الحق أن أصل الاستشكال في غير محله و أن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشئون مشروح فيها 1.
قوله تعالى: «و ترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون» ضمير «فيه» للبحر، و مواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجؤتها.
قيل: إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله: «ترى» بخلاف الخطابات المتقدمة و المتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط.
و قوله: «لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون» أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه و هو الرزق و رجاء أن تشكروا الله سبحانه، و قد تقدم أن الترجي الذي تفيده «لعل» في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم.
و قد قيل في هذه الآية: «و ترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله» و في سورة النحل: «و ترى الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله» فاختلفت الآيتان في تقديم «فيه» على «مواخر» و تأخيره منه و عطف «لتبتغوا» و عدمه.
و لعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير و الأنسب لذلك تأخير «فيه» ليتعلق بمواخر و يشير إلى مخر البحر فيصرح بالتسخير بخلاف ما هاهنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل و الأنسب لذلك عطف «لتبتغوا» على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما هاهنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون - و قد تقدم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم و يكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف.
و الله أعلم.
و قال في روح المعاني، في المقام: و الذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها و لواحقها و تعقيب الآيات بقوله سبحانه: «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة و هو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه «فيه» إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، و كان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية: «و لتبتغوا» بالواو و مخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: «لتبتغوا» انتهى.
قوله تعالى: «يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى» إلخ.
إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل و إيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، و المراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام و لذا عبر بقوله: «يولج» الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس و القمر فإنه ثابت على حاله و لذا عبر فيه بقوله: «و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى» و العناية صورية مسامحية.
و قوله: «ذلكم الله ربكم» بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم و تدبيركم برا و بحرا و أرضا و سماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم و يدبر أمركم.
و قوله: «له الملك» مستنتج مما قبله و توطئة و تمهيد لما بعده من قوله: «و الذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير».
و قوله: «و الذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير» القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة و ذلك مثل للشيء الطفيف، و في المجمع، القطمير لفافة النواة و قيل: الحبة في بطن النواة انتهى و الكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك و المراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام و أربابها.
قوله تعالى: «إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم و لو سمعوا ما استجابوا لكم» إلخ.
بيان و تقرير لما تقدم من قوله: «و الذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير» أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا حس و أرباب الأصنام كالملائكة و القديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه.
و قوله: «و لو سمعوا ما استجابوا لكم» إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا و لا فعلا أما الأصنام فظاهر و أما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه و لن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون و من يستنكف عن عبادته و يستكبر فسيحشرهم إليه جميعا:» النساء: - 127.
و قوله: «و يوم القيامة يكفرون بشرككم» أي يردون عبادتكم إليكم و يتبرءون منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا:» البقرة: - 166.
فالآية في نفي الاستجابة و كفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله: «و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم عن دعائهم غافلون و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين:» الأحقاف: - 6.
و قوله: «و لا ينبئك مثل خبير» أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير و هو خطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله: «و ترى الفلك فيه مواخر» الآية السابقة، و قوله: «و ترى الشمس إذا طلعت» الآية: الكهف: - 17، و قوله: «و تحسبهم إيقاظا و هم رقود:» الكهف: - 18.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «كذلك النشور:» حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.
أقول: و في هذا المعنى عدة روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أ ما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى و كذلك النشور.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم و صدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، و إذا قال و خالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار.
و في التوحيد، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام) في حديث قال: و إن لله تبارك و تعالى بقاعا في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. أ لا تسمع الله عز و جل يقول: «تعرج الملائكة و الروح إليه» و يقول في قصة عيسى بن مريم (عليهما السلام) «بل رفعه الله» و يقول عز و جل: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه:». أقول: و عن الفقيه، مثله.
و في نهج البلاغة،: و لو لا إقرارهن 1 له بالربوبية و إذعانهن له بالطواعية 2 لما جعلهن موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «و ما يستوي البحران - هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح أجاج» الأجاج المر.
و فيه: في قوله: «و الذين تدعون من دونه - ما يملكون من قطمير» قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى.
|