بيان
لما بين لهم أن الخلق و التدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب بالوعيد و التهديد و هو أنه تعالى غني عنهم و هم فقراء إليه فله أن يذهبهم و يأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا.
ثم وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما حاصله أن هذه المؤاخذة و الإهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينهما فرق ظاهر و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نذير كالنذر الماضين و حاله كحال من قبله من المنذرين و إن يكذبوه فقد كذبت الأنبياء الماضين مكذبو أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا و سيأخذ المكذبين من هذه الأمة.
قوله تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد» لا ريب أن في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبين بها مضمونهما و هي مع ذلك مستقلة في مفادها.
بيان ذلك: أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم و أن لله إليهم حاجة و لذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى و فقر و لهم نصيب من الغنى و لله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك.
فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني» فقصر الفقر فيهم و قصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم و كل الغنى فيه سبحانه، و إذ كان الغنى و الفقر و هما الوجدان و الفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر و هو قصرهم في الفقر و قصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر و ليس له تعالى إلا الغنى.
فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم و يستغني عنهم و هم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره.
و الملاك في غناه تعالى عنهم و فقرهم أنه تعالى خالقهم و مدبر أمرهم و إليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم و بيان غناه، و الإشارة إلى الخلق و التدبير في قوله: «إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد» و كذا توصيفه تعالى بالحميد و هو المحمود في فعله الذي هو خلقه و تدبيره.
فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر و الحاجة و الله بما أنه الخالق المدبر، الغني لا غنى سواه.
و على هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم و ذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لأمركم و هو الغني الحميد.
و قد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب: منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم و شدة احتياجهم هم الفقراء فحسب و أن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم و لذلك قال تعالى: «خلق الإنسان ضعيفا» و لا يرد الجن لأنهم لا يحتاجون في المطعم و الملبس و غيرهما كما يحتاج الإنسان.
و منها أن المراد الناس و غيرهم و هو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب و أولي العلم على غيرهم.
و منها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد و في الفقراء على الجنس لأن المخاطبين في الآية هم الذين خوطبوا في قوله: «ذلكم الله ربكم له الملك» الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه و أنتم أشد الخلائق احتياجا إليه.
و منها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي.
و غير خفي عليك أن مفاد الآية و سياقها لا يلائم شيئا من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه.
و تذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنه غني محمود الأفعال إن أعطى و إن منع لأنه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء و الشكر و كل بدل مفروض و إن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لأحد عليه و لا يملك منه شيء.
قوله تعالى: «إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك على الله بعزيز» أي إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لأنه غني عنكم لا يستضر بذهابكم و يأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنه حميد و مقتضاه أن يجود فيحمد و ليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنه الله عز اسمه.
فقد بان أن مضمون الآية متفرع على مضمون الآية السابقة فقوله: «إن يشأ يذهبكم» متفرع على كونه تعالى غنيا، و قوله: «و يأت بخلق جديد» متفرع على كونه تعالى حميدا، و قد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه و رحمته قال تعالى: «و ربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء:» الأنعام: - 133.
قوله تعالى: «و لا تزر وازرة وزر أخرى» إلخ.
قال الراغب: الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: «كلا لا وزر» و الوزر - بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة» الآية كقوله: «ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم».
انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى و لازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها و اكتسبته من الوزر.
و الآية كأنه دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال: إن يشأ يذهبكم و يأت بآخرين، فهددهم بالإهلاك و الإفناء، قيل: هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين؟ أ يؤخذون بوزر غيرهم؟.
فأجيب أن لا تزر وازرة وزر أخرى و لا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها و إن كانت ذات قربى.
فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد و لا تنفع فيهم دعوتك و إنذارك لأنهم مطبوع على قلوبهم، و إنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة و الفريقان لا يستويان لأن مثلهم مثل الأعمى و البصير، و الظلمات و النور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات.
فقوله: «و لا تزر وازرة وزر أخرى» أي لا تحمل نفس حاملة للوزر و الإثم إثم نفس أخرى حاملة.
و قوله: «و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء و لو كان ذا قربى» أي و إن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها و لا يحمل من حملها شيء و لو كان المدعو ذا قربى للداعي كالأب و الأم و الأخ و الأخت.
و قوله: «إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب و أقاموا الصلاة» أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار و لا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر و ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات و أهمها و بالجملة يؤمنون بالله و يعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم و يصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله: «إني أراني أعصر خمرا:» يوسف: - 36.
و قوله: «و من تزكى فإنما يتزكى لنفسه» بدل الخشية و إقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة و الإنذار هو التزكي و تزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب و إقامة الصلاة.
و فيه تقرير و تأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه.
و قد ختم الآية بقوله: «و إلى الله المصير» للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة و هو يحاسبهم و يجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء.
قوله تعالى: «و ما يستوي الأعمى و البصير» الظاهر أنه عطف على قوله: «و إلى الله المصير» تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين، و قيل: عطف على قوله السابق: «و ما يستوي البحران».
قوله تعالى: «و لا الظلمات و لا النور» تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الآية و ما يليها لتأكيد النفي.
قوله تعالى: «و لا الظل و لا الحرور» الحرور شدة حر الشمس على ما قيل و قيل: هو السموم و قيل: السموم يهب نهارا و الحرور يهب ليلا و نهارا.
قوله تعالى: «و ما يستوي الأحياء و لا الأموات» إلى آخر الآية عطف على قوله: «و ما يستوي الأعمى و البصير» و إنما كرر قوله: «ما يستوي» و لم يعطف «الأحياء و لا الأموات» على قوله: الأعمى و البصير» كرابعته لطول الفصل فأعيد «ما يستوي» لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله: «كيف يكون للمشركين عهد عند الله و رسوله - إلى أن قال - كيف و إن يظهروا عليكم» إلخ. التوبة: - 8.
و الجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: «و ما يستوي الأعمى و البصير - إلى قوله - و ما يستوي الأحياء و لا الأموات» تمثيلات للمؤمن و الكافر و تبعات أعمالهما.
و قوله: «إن الله يسمع من يشاء» و هو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا:» الأنعام: - 122، و أما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنما هو وسيلة و الهدى هدى الله.
و قوله: «و ما أنت بمسمع من في القبور» أي الأموات و المراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم.
قوله تعالى: «إن أنت إلا نذير» قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم و أما هداية من اهتدى منهم و إضلال من ضل و لم يهتد جزاء له بسيىء عمله فإنما ذلك لله سبحانه.
و لم يذكر البشير مع النذير مع كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) متلبسا بالوصفين معا لأن المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرض لوصف الإنذار مع أنه مذكور في الآية التالية.
قوله تعالى: «إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و إن من أمة إلا خلا فيها نذير» المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير و الإنذار و ليس ببدع مستغرب فما من أمة من الأمم إلا و قد خلا و مضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه.
و ظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله و فسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة و الإنذار من نبي أو عالم غير نبي و هو خلاف ظاهر الآية.
نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: «خلا فيها» و لم يقل: «خلا منها».
قوله تعالى: «و إن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات و بالزبر و بالكتاب المنير» البينات هي الآيات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، و الزبر جمع زبور و لعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف و الكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الأحكام و الشرائع، و الكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح و إبراهيم و توراة موسى و إنجيل عيسى (عليه السلام)، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير» الأخذ كناية عن التعذيب، و النكير الإنكار، و الباقي ظاهر.
كلام في معنى عموم الإنذار
قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح (عليه السلام) في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة و يؤيده الكتاب.
فلا تخلو أمة من الأمم الإنسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها و أما كون نبي كل أمة من نفس تلك الأمة فلا دليل عليه، و قد عرفت أن قوله تعالى: «و إن من أمة إلا خلا فيها نذير» الآية مفاده ذلك.
و أما فعلية الإنذار - بحيث يبلغ كل فرد فرد من الأمة مضافا إلى أصل الاقتضاء - و اطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل و الأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا و الحوادث تحول بين أكثر الأفراد و بين ذلك، و كل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد و الإيلاد و كثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر.
فالنبوة و الإنذار عام لكل أمة و لا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الأمة و تتخلف عن بعض لحيلولة علل و أسباب مزاحمة بينه و بين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة و بلغته تمت عليه الحجة و من توجهت إليه و لم تبلغه لم تتم عليه الحجة و كان من المستضعفين و كان أمره إلى الله قال تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا:» النساء: - 98.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و لا تزر وازرة وزر أخرى»: أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده و لا مولود على والده.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن الله يسمع من يشاء و ما أنت بمسمع من في القبور» قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور.
و في الدر المنثور، أخرج أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس: في قوله: «إنك لا تسمع الموتى و ما أنت بمسمع من في القبور» قال كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقف على القتلى يوم بدر و يقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا يا فلان بن فلان أ لم تكفر بربك؟ أ لم تكذب نبيك؟ أ لم تقطع رحمك؟ فقالوا: يا رسول الله أ يسمعون ما تقول؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول: فأنزل الله: «إنك لا تسمع الموتى و ما أنت بمسمع من في القبور» مثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله.
أقول: و في الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه و يخبر به.
على أن ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية 80 و ذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية 22.
على أن سياق الآية مكي في سياق آيات سابقة و لاحقة مكية.
و في الإحتجاج، في احتجاج الصادق (عليه السلام): قال السائل فأخبرني عن المجوس أ فبعث إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة و مواعظ بليغة و أمثالا شافية، و يقرون بالثواب و العقاب، و لهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، و قد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه و جحدوا كتابه.
|