بيان
لما أشار إلى الملائكة و هم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد و أن وعده تعالى بالبعث و عذاب الكافرين و مغفرة المؤمنين الصالحين حق، و في الآيات تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده» إلخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة و هو الرزق فلا مانع عنه و ما يمنع فلا مؤتي له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس إلخ.
كما عبر في الجملة الثانية بالإرسال لكنه عدل عن الإرسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله: «أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب:» ص: - 9 و قوله: «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق:» الإسراء: - 100 و التعبير بالفتح أنسب من الإرسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مئونة زائدة.
و قد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به.
و قوله: «و ما يمسك فلا مرسل له من بعده» أي و ما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، و في التعبير بقوله: «من بعده» إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الإعطاء.
و قوله: «و هو العزيز الحكيم» تقرير للحكم المذكور في الآية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه و إذا منع فليس لمعط أن يعطيه، و هو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة و مصلحة و إذا منع منع عن حكمة و مصلحة و بالجملة لا معطي إلا الله و لا مانع إلا هو، و منعه و إعطائه عن حكمة.
قوله تعالى: «يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض» الخ.
لما قرر في الآية السابقة أن الإعطاء و المنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الآية بذلك على توحده في الربوبية.
و تقرير الحجة أن الإله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته و هي ملكة تدبير أمر الناس و غيرهم، و الذي يملك تدبير الأمر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس و غيرهم و يرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الآلهة التي اتخذوها لأنه سبحانه هو الذي خلقها دونهم و الخلق لا ينفك عن التدبير و لا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لأنه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها و إنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لأنه خالقها و خالق النظام الذي يجري عليها.
و بذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا.
و قوله: «اذكروا نعمة الله عليكم» المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذكر اللفظي.
و قوله: «هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض» الرزق هو ما يمد به البقاء و مبدؤه السماء بواسطة الأشعة و الأمطار و غيرهما و الأرض بواسطة النبات و الحيوان و غيرهما.
و بذلك يظهر أيضا أن في الآية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الآية السابقة نعمة في هذه الآية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا و كان مقتضى سياق الآيتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: «هل من خالق» ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام و أمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: «هل من خالق» أشير بالوصف إلى أن الرازق و المدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام و لم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء و الأرض.
و قوله: «لا إله إلا هو» اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه».
أي لا معبود بالحق إلا هو لأن المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم و يرزقكم و ليس إلا الله.
و قوله: «فأنى تؤفكون» توبيخ متفرع على ما سبغ من البرهان أي فإذا كان الأمر هكذا و أنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل و من التوحيد إلى الإشراك.
و في إعراب الآية أعني قوله: «هل من خالق غير الله» الخ.
بين القوم مشاجرات طويلة و الذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن «من» زائدة للتعميم، و قوله: «غير الله» صفة لخالق تابع لمحله، و كذا قوله: «يرزقكم» الخ.
و «من خالق» مبتدأ محذوف الخبر و هو موجود، و قوله: «لا إله إلا هو» اعتراض، و قوله: «فأنى تؤفكون» تفريع على ما تقدمه.
قوله تعالى: «و إن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك و إلى الله ترجع الأمور» تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي و إن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم أممهم و أقوامهم و إلى الله ترجع عامة الأمور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم.
و من هنا يظهر أن قوله؟ «فقد كذبت رسل من قبلك» من قبيل وضع السبب موضع المسبب و أن قوله: «و إلى الله ترجع الأمور» معطوف على قوله: «قد كذبت» الخ.
قوله تعالى: «يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور» خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية و الألوهية.
فقوله: «إن وعد الله حق» أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا و إن شرا «حق أي ثابت واقع، و قد صرح بهذا الوعد في قوله الآتي: «الذين كفروا لهم عذاب شديد و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفره و أجر كبير».
و قوله: «فلا تغرنكم الحياة الدنيا» النهي و إن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، و المعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها و التلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها و ملاهيها و الاستغراق في طلبها و الإعراض عن الحق.
و قوله: «و لا يغرنكم بالله الغرور» الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم و هو الذي يبالغ في الغرور و من عادته ذلك، و الظاهر - كما قيل - إن المراد به الشيطان و يؤيده التعليل الواقع في الآية التالية: «إن الشيطان لكم عدو» الخ.
و معنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه و عفوه تعالى تارة و مظاهر ابتلائه و استدراجه و كيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا و نسيان الآخرة و الإعراض عن الحق و الحقيقة لا يستعقب عقوبة و لا يستتبع مؤاخذة، و أن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم و توغلوا في غفلتهم و استغرقوا في المعاصي و الذنوب زادوا في عيشهم طيبا و في حياتهم راحة و بين الناس جاها و عزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، و لا خبر عما وراءها و ليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد و الوعيد و تخبر به النبوة من البعث و الحساب و الجنة و النار إلا خرافة.
فالمراد بغرور الشيطان الإنسان بالله اغترار الإنسان بما يعامل به الله الإنسان على غفلته و ظلمه.
و ربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للإنسان و أن قوله: «و لا يغرنكم بالله الغرور» تأكيد لقوله: «فلا تغرنكم الحياة الدنيا» بتكراره معنى.
قوله تعالى: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا» الخ.
تعليل للنهي المتقدم في قوله: «و لا يغرنكم بالله الغرور» و المراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا أغواء الإنسان و تحريمه سعادة الحياة و حسن العاقبة، و المراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل و عدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه و تسويلاته و لذلك علل عداوته بقوله: «إنما يدعوا حزبه».
فقوله؟ «إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير» في مقام تعليل ما تقدمه و الحزب هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، و اللام في «ليكونوا» للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، و السعير النار المسعرة و هو من أسماء جهنم في القرآن.
قوله تعالى: «الذين كفروا لهم عذاب شديد و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفره و أجر كبير» هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، و تنكير العذاب للدلالة على التفخيم على أن لهم دركات و مراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم و فسوقهم فالإبهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: «مغفره و أجر».
قوله تعالى: «أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء» تقرير و بيان للتقسيم الذي تتضمنه الآية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر له عذاب شديد و مؤمن عامل بالصالحات له مغفره و أجر كبير و المراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما.
فقوله: «أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا» مبتدأ خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، و الفاء لتفريع الجملة على معنى الآية السابقة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر و يشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه و المعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيىء فرآه حسنا و الذي ليس كذلك بل يرى السيىء سيئا.
و قوله: «فإن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء» تعليل للإنكار السابق في قوله: «أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا» أي الكافر الذي شأنه ذلك و المؤمن الذي بخلافه لا يستويان لأن الله يضل أحدهما بمشيته و هو الكافر الذي يرى السيئة حسنة و يهدي الآخر بمشيته و هو المؤمن الذي يعمل الصالحات و يرى السيئة سيئة.
و هذا الإضلال إضلال على سبيل المجازاة و ليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه.
و بالجملة اختلاف الكافر و المؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الإلهي بالعذاب و الرحمة لاختلافهما بالإضلال و الهداية الإلهيين و اختلافهما بالإضلال و الهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة و عدمها.
و قوله: «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» الحسرات جمع حسرة و هي الغم لما فأت و الندم عليه، و هي منصوبة لأنه مفعول لأجله و المراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لأجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم.
و الجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالإضلال و الهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك و كفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم و رؤيتهم السيئة حسنة و هو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الأمر و لا يفعل بهم إلا الحق و لا يجازيهم إلا بالحق.
و من هنا يظهر أن قوله: «إن الله عليم بما يصنعون» في موضع التعليل لقوله: «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» فلا ينبغي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا و حقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم و هو عليم بما يصنعون.
|