بيان
احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض» الآية، و قوله: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا» الآية، و على نفي ربوبية شركائهم «قل أ رأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله» الآية و توبيخ و تهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين و مكرهم السيىء.
ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شيء و إنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض» إلخ.
الخلائف جمع خليفة، و كون الناس خلائف في الأرض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه و سلطته على التصرف و الانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه و هم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة و هو الخلقة من طريق النسل و الولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف و خلف.
فجعل الخلافة الأرضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه و لذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لأنه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.
فقوله: «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض» حجة على توحده تعالى في ربوبيته و انتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الأرضية في العالم الإنساني هو ربهم المدبر لأمرهم، و جعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الإنسان هو رب الإنسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الإنسان.
و قوله: «فمن كفر فعليه كفره» أي فالله سبحانه هو رب الإنسان فمن كفر و ستر هذه الحقيقة و نسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره.
و قوله: «و لا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا و لا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا» بيان لكون كفرهم عليهم و هو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم و المقت شدة البغض لأن فيه إعراضا عن عبوديته و استهانة بساحته، و يورث لهم خسارا في أنفسهم لأنهم بدلوا السعادة الإنسانية شقاء و وبالا سيصيبهم في مسيرهم و منقلبهم إلى دار الجزاء.
و إنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لأن الفطرة الإنسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال و الازدياد فإن أسلم الإنسان زاده ذلك كمالا و قربا من الله و إن كفر زاده ذلك مقتا عند الله و خسارا.
و إنما قيد المقت بقوله: «عند ربهم» دون الخسار لأن الخسار من تبعات تبديل الإيمان كفرا و السعادة شقاء و هو أمر عند أنفسهم و أما المقت و شدة البغض فمن عند الله سبحانه.
و الحب و البغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الأفعال و هي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، و معنى حبه تعالى لأحد انبساط رحمته عليه و انجذابها إليه و بغضه تعالى لأحد انقباض رحمته منه و ابتعادها عنه.
قوله تعالى: «قل أ رأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله» إلى آخر الآية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية.
و في الآية تلقين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم و تقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شيء من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لأن الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر و لو كانوا خالقين لدل عليه دليل و الدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شيء منه يدل على كونه مخلوقا لهم و لو بنحو الشركة و هو قوله: «أروني ما ذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات».
و أما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم و يجوز للناس أن يعبدوهم و يتخذوهم آلهة، و لم ينزل كتاب على هذه الصفة و هم معترفون بذلك و هو قوله: «أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه».
و إنما عبر عن نفي خالقيتهم في الأرض بقوله: «أروني ما ذا خلقوا من الأرض» و لم يقل: أنبئوني أ لهم شرك في الأرض؟ و عبر في السماوات بقوله: «أم لهم شرك في السماوات» و لم يقل: أم ما ذا خلقوا من السماوات.
لأن المراد بالأرض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الأرضي و هو الأرض بما فيها و ما عليها و المراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات و ما فيها و ما عليها فقوله: «ما ذا خلقوا من الأرض» في معنى أ لهم شرك في الأرض و لا يكون إلا بخلق شيء منها، و قوله: «أم لهم شرك في السماوات» في معنى أم ما ذا خلقوا من السماوات، و قد اكتفى بذكر الخلق في جانب الأرض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق.
و قوله: «أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه» أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معنا و ذلك بدلالته على أنهم شركاء لله.
و قد قال: «أم آتيناهم كتابا» و لم يقل: أم لهم كتاب و نحو ذلك ليتأكد النفي و الإنكار فإن قولنا: أم لهم كتاب و نحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: «أم آتيناهم كتابا» إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل.
و قد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في «آتيناهم» و في «فهم على بينة» للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء.
و قوله: «بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا» إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه و يعتمدون عليها بل غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة و الزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم و رؤساؤهم و أئمتهم يغرون مرءوسيهم و تابعيهم و يعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه و لا حقيقة لها.
و حجة الآية عامة على المشركين عبدة الأصنام و هم الذين يعبدون الملائكة و الجن و قديسي البشر و يتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، و على الذين يعبدون روحانيي الكواكب و يتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، و على الذين يعبدون الملائكة و العناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، و على الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح (عليه السلام).
قوله تعالى: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده» إلخ.
قيل: إن الآية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك و هوله أي إن الله تعالى يحفظ السماوات و الأرض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا و تضمحلا لأن الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه.
انتهى.
و الظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الإنساني بقوله: «هو الذي جعلكم خلائف في الأرض» الآية ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات و الأرض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشيء و أصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه و تلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشيء بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال و الاستمرار.
و إبقاء الشيء بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الإيجاد كذلك هو تدبير لأمره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالإحداث و الإبقاء فقط.
و الموجد و الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات و الأرض وحده لا شريك له.
فقوله: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا» الإمساك بمعناه المعروف و قوله: «أن تزولا» - و تقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا - متعلق به، و قيل: الإمساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ و على أي حال فالإمساك كناية عن الإبقاء و هو الإيجاد بعد الإيجاد على سبيل الاتصال و الاستمرار، و الزوال هو الاضمحلال و البطلان.
و نقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، و المعنى أن الله يمنع السماوات و الأرض من أن ينتقل شيء منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى و الشأن في تصور مراده تصورا صحيحا.
و قوله: «و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده» السياق يعطي أن المراد بالزوال هاهنا الإشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الإمساك و المعنى و أقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره و يمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي و المراد بالإمساك القدرة على الإمساك و قد تبين أن «من» الأولى زائدة للتأكيد و الثانية للابتداء، و ضمير «من بعده» راجع إليه تعالى، و قيل: راجع إلى الزوال.
و قوله: «إنه كان حليما غفورا» فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر و لمغفرة يستر جهات العدم في الأشياء، و مقتضى الاسمين أن يمسك السماوات و الأرض أن تزولا إلى أجل مسمى.
و قال في إرشاد العقل السليم،: إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى: «تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض» انتهى.
قوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا» قال الراغب: الجهد - بفتح الجيم - و الجهد - بضمها - الطاقة و المشقة - إلى أن قال - و قال تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم» أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.
انتهى.
و قال: النفر الانزعاج عن الشيء و إلى الشيء كالفزع إلى الشيء و عن الشيء يقال: نفر عن الشيء نفورا قال تعالى: «ما زادهم إلا نفورا» انتهى.
قيل 1: بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود و النصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم انتهى، و سياق الآية يصدق هذا النقل و يؤيده.
فقوله: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم» الضمير لقريش و قد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله بعد: «فلما جاءهم نذير»، و المقسم به قوله: «لئن جاءهم نذير» إلخ.
و قوله: «لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم» أي إحدى الأمم التي جاءهم نذير كاليهود و النصارى و إنما قال: «ليكونن أهدى من إحدى الأمم» و لم يقل: أهدى منهم لأن المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الأمم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها و هو قوله: «أهدى من إحدى الأمم» فافهمه.
و قيل: إن مقتضى المقام العموم، و قوله: «إحدى الأمم» عام و إن كان نكرة في سياق الإثبات و اللام في «الأمم» للعهد، و المعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم من اليهود و النصارى و غيرهم.
و قيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال: هو واحد القوم و واحد عصره.
انتهى.
و لا يخلو الوجه الأخير عن تكلف و بعد.
و قوله: «فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا» المراد بالنذير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و النفور التباعد و الهرب.
قوله تعالى: «استكبارا في الأرض و مكر السيىء و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله» قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: مكر محمود و ذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل و على ذلك قال تعالى: «و الله خير الماكرين» و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: «لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله» انتهى.
و قال أيضا: قال عز و جل: «و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله» أي لا ينزل و لا يصيب.
قيل: و أصله حق فقلب نحو زل و زال و قد قرىء فأزلهما الشيطان و أزالهما و على هذا ذمه و ذامه.
انتهى.
و قوله: «استكبارا في الأرض» مفعول لأجله لقوله: «نفورا» أي نفروا عنه و تباعدوا للاستكبار في الأرض و قوله: «و مكر السيىء» معطوف على «استكبارا» و مفعول لأجله مثله، و قيل: معطوف على «نفورا» و الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: «و لا يحيق المكر السيىء» إلخ.
و قوله: «و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله» أي لا يصيب و لا ينزل المكر السيىء إلا بأهله و لا يستقر إلا فيه، فإن المكر السيىء و إن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول و لا يدوم إلا أن أثره السيىء بما أنه المكر سيىء يبقى في نفس الماكر و سيظهر فيه و يجزى به إما في الدنيا و إما في الآخرة البتة، و لهذا فسر الآية في مجمع البيان، بقوله: و المعنى لا ينزل جزاء المكر السيىء إلا بمن فعله.
و الكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى: «إنما بغيكم على أنفسكم:» يونس: - 23 «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه:» الفتح: - 10.
و قوله: «فهل ينظرون إلا سنة الأولين» النظر و الانتظار بمعنى التوقع و الفاء للتفريع و الجملة استنتاج مما تقدمها و الاستفهام للإنكار و المعنى و إذ مكروا المكر السيىء و المكر السيىء يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الأمم الماضين و هي العذاب الإلهي النازل بهم إثر مكرهم و تكذيبهم بآيات الله.
و قوله: «فلن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا» تبديل السنة أن توضع العافية و النعمة موضع العذاب، و تحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، و سنة الله لا تقبل تبديلا و لا تحويلا لأنه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا و لا استثناء.
و قد أخذ الله بالعذاب هؤلاء المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم.
و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل سامع.
قوله تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم و كانوا أشد منهم قوة» استشهاد على سنته الجارية في الأمم الماضية و قد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا و كذبوا.
قوله تعالى: «و ما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات و لا في الأرض إنه كان عليما قديرا» تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم و تخويفهم، و المحصل ليتقوا الله و ليؤمنوا به و لا يمكروا به و لا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الأمم السابقة من الإهلاك و التعذيب و قد كانوا أشد قوة منهم و الله سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات و الأرض بقوة أو مكر فإنه عليم على الإطلاق لا يغفل و لا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الإطلاق لا يقاومه شيء.
قوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة» إلخ.
المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الآتي: «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» إلخ.
و المراد بالناس جميعهم فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم و هم الماكرون المكذبون بآيات الله، و المراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب و قد قال في نظيره الآية من سورة النحل: «و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة:» النحل: - 61.
و المراد بظهرها ظهر الأرض لأن الناس يعيشون عليه على أن الأرض تقدم ذكرها في الآية السابقة.
و المراد بالدابة كل ما يدب في الأرض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير و احتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان و إهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا:» البقرة: - 29.
و قول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي و قد قال تعالى: «و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره و قد قال تعالى: «و لا تزر وازرة وزر أخرى:» فاطر: - 18، و أما الآية أعني قوله: «و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة:» الأنفال: - 25 فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم و لغيرهم فراجع.
و قوله: «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» و هو الموت أو القيامة و قوله: «فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا» أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده و كيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه و الرب عمل عبده؟.
و قد بان بما تقدم أن قوله: «فإن الله كان بعباده بصيرا» من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء.
و الآية أعني قوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس» إلخ.
واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الآية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر و التكذيب من المشركين بالمؤاخذة و استشهد بما جرى في الأمم السابقة و ذكر أنه لا يعجزه شيء في السماوات و الأرض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شيء في السماوات و الأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ و ما ذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الأرض أحدا منهم يدب و يتحرك، و قد قضى سبحانه أن يعيشوا في الأرض و يعمروها إذ قال: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:» البقرة: - 36 فلا يؤاخذهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و هو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إياكم و المكر السيىء فإنه لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله و لهم من الله طالب.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سبق العلم، و جف القلم، و مضى القضاء و تم القدر بتحقيق الكتاب، و تصديق الرسل، و بالسعادة من الله لمن آمن و اتقى و بالشقاء لمن كذب و كفر، و بالولاية من الله عز و جل للمؤمنين، و بالبراءة منه المشركين. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز و جل يقول: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بقوتي و عصمتي و عافيتي أديت إلي فرائضي و أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أوليتك به و الشر منك إليك بما جنيت جزاء و بكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، و بسوء ظنك بي قنطت من رحمتي. فلي الحمد و الحجة عليك بالبيان، و لي السبيل عليك بالعصيان، و لك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك، و لم آخذك عند غرتك و هو قوله عز و جل: «و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا - ما ترك على ظهرها من دابة»، لم أكلفك فوق طاقتك، و لم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت بها على نفسك، و رضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز و جل: «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى - فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا».
|