بيان
غرض السورة بيان الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته و رسالة الرسول و المعاد إليه و تقرير الحجة لذلك و قد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية و الأرضية و الإشارة إلى تدبيره المتقن لأمر العالم عامة و الإنسان خاصة.
و قد قدم على هذا التفصيل الإشارة الإجمالية إلى انحصار فتح الرحمة و إمساكها و هو إفاضة النعمة و الكف عنها فيه تعالى بقوله: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها» الآية.
و قدم على ذلك الإشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة و النعم الموهوبة و هم الملائكة المتوسطون بينه تعالى و بين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى و إيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.
و السورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، و قد استثنى بعضهم آيتين و هما قوله تعالى: «إن الذين يتلون كتاب الله» الآية و قوله: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا» الآية و هو غير ظاهر من سياق الآيتين.
قوله تعالى: «الحمد لله فاطر السموات و الأرض» الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات و الأرض فمحصل معناه أنه موجد السماوات و الأرض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع و المبدع و الفرق بين الإبداع و الفطر أن العناية في الإبداع متعلقة بنفي المثال السابق و في الفطر بطرد العدم و إيجاد الشيء من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن.
و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود فيشملهما و ما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الأجزاء و إرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات و الأرض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما و عجيب أمرهما كما قال: «لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس:» المؤمن - 57.
و كيف كان فقوله: «فاطر السموات و الأرض» من أسمائه تعالى أجري صفة لله و المراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لأن الإيجاد مستمر و فيض الوجود غير منقطع و لو انقطع لانعدمت الأشياء.
و الإتيان بالوصف بعد الوصف للإشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات و الأرض و على ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل.
قوله تعالى: «جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع» الملائكة جمع ملك بفتح اللام و هم موجودات خلقهم الله و جعلهم وسائط بينه و بين العالم المشهود وكلهم بأمور العالم التكوينية و التشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.
فقوله تعالى: «جاعل الملائكة رسلا» يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة - و الملائكة جمع محلى باللام مفيد للعموم - رسلا وسائط بينه و بين خلقه في إجراء أوامره التكوينية و التشريعية.
و لا موجب لتخصيص الرسل في الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء (عليهم السلام) و قد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا:» الأنعام: - 61، و قوله: «إن رسلنا يكتبون ما تمكرون:» يونس: - 21، و قوله: «و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية:» العنكبوت: - 31.
و الأجنحة جمع جناح و هو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو و النزول منه و الانتقال من مكان إلى مكان بالطيران.
فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الأرض بأمر الله و يعرج به منها إليها و من أي موضع إلى أي موضع، و قد سماه القرآن جناحا و لا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه و أما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش و زغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش و الكرسي و اللوح و القلم و غيرها.
و قوله: «أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع» صفة للملائكة، و مثنى و ثلاث و رباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين و بعضهم ذا ثلاثة أجنحة و بعضهم ذا أربعة أجنحة.
و قوله: «يزيد في الخلق ما يشاء» لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة.
و قوله: «إن الله على كل شيء قدير» تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الأخيرة و الأول أظهر.
بحث روائي
في البحار، عن الإختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الملائكة من نور، الخبر.
و في تفسير القمي، قال الصادق (عليه السلام): خلق الله الملائكة مختلفة و قد أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل و له ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء و الأرض و قال إذا أمر الله عز و جل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة و الأخرى في الأرض السابعة، و إن لله ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد و النار ثبت قلوبنا على طاعتك. و قال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمسمائة عام بخفقان الطير. و قال: إن الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش، و إن لله عز و جل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة و إن لله عز و جل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من شيء مما خلق الله عز و جل أكثر من الملائكة و إنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يأتون أمير المؤمنين (عليه السلام) فيسلمون ثم يأتون الحسين (عليه السلام) فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا. و قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله عز و جل خلق إسرافيل و جبرائيل و ميكائيل من تسبيحة واحدة، و جعل لهم السمع و البصر و جودة العقل و سرعة الفهم. و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلقة الملائكة: و ملائكة خلقتهم و أسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، و لا عندهم غفلة، و لا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك و أخوف خلقك منك، و أقرب خلقك منك، و أعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان لم يسكنوا الأصلاب، و لم تضمهم الأرحام، و لم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك و أكرمتهم بجوارك، و ائتمنتهم على وحيك، و جنبتهم الآفات، و وقيتهم البليات، و طهرتهم من الذنوب، و لو لا قوتك لم يقووا، و لو لا تثبيتك لم يثبتوا، و لو لا رحمتك لم يطيعوا، و لو لا أنت لم يكونوا. أما إنهم على مكانتهم منك و طاعتهم إياك و منزلتهم عندك و قلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، و لآزروا على أنفسهم، و لعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا و معبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك.
و في البحار، عن الدر المنثور، عن أبي العلاء بن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ «و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون».
و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان و جزء لهم ثلاثة أجنحة و جزء لهم أربعة أجنحة:. أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، و لعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الآية و الروايات الأخر.
و عن التوحيد، بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ليس أحد من الناس إلا و معه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه و بين ما يصيبه - الخبر.
و عن البصائر، عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره رفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم. ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما أن سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا.
و عن الصحيفة السجادية، و كان من دعائه على حملة العرش و كل ملك مقرب: اللهم و حملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، و لا يسأمون من تقديسك، و لا يستحسرون عن عبادتك، و لا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، و لا يغفلون عن الوله إليك، و إسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن و حلول الأمر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، و ميكائيل ذو الجاه عندك و المكان الرفيع من طاعتك و جبريل الأمين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، و الروح الذي هو على ملائكة الحجب و الروح الذي هو من أمرك. اللهم فصل عليهم و على الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك و أهل الأمانة على رسالاتك، و الذين لا يدخلهم سأمة من دءوب و لا إعياء من لغوب و لا فتور و لا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات و لا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك و المتواضعون دون عظمتك و جلال كبريائك، و الذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فصل عليهم و على الروحانيين من ملائكتك و أهل الزلفة عندك و حمال الغيب إلى رسلك و المؤتمنين على وحيك و قبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك و أغنيتهم عن الطعام و الشراب بتقديسك و أسكنتهم بطون أطباق سماواتك، و الذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك. و خزان المطر و زواجر السحاب و الذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، و إذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، و مشيعي الثلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل، و القوام على خزائن الرياح، و الموكلين بالجبال فلا تزول، و الذين عرفتهم مثاقيل المياه و كيل ما يحويه لواعج الأمطار و عوالجها و رسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء و محبوب الرخاء. و السفرة الكرام البررة و الحفظة الكرام الكاتبين، و ملك الموت و أعوانه، و منكر و نكير، و مبشر و بشير، و رؤمان فتان القبور، و الطائفين بالبيت المعمور، و مالك و الخزنة، و رضوان و سدنة الجنان، و الذين لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و الذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، و الزبانية الذين إذا قيل لهم: «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه» ابتدروه سراعا و لم ينظروه، و من ألهمنا ذكره و لم نعلم مكانه منه و بأي أمر وكلته، و سكان الهواء و الأرض و الماء، و من منهم على الخلق. فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق و شهيد و صل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم و طهارة على طهارتهم.
الدعاء.
و في البحار، عن الدر المنثور، عن ابن شهاب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل جبرئيل أن يتراءى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين رآه ثم أفاق و جبرئيل مسنده و واضع إحدى يديه على صدره و الأخرى بين كتفيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق و جناح في المغرب و إن العرش على كاهله، و إنه ليتضأل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع 1 حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته.
و في الصافي، عن التوحيد، بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و قوله في آخر الآيات: «ما زاغ البصر و ما طغى - لقد رأى من آيات ربه الكبرى» رأى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة و مرة أخرى و ذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلا الله.
و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه.
أقول: و هناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الإحصاء واردة في باب المعاد و معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبواب متفرقة أخرى، و فيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك.
و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة بإسناده عنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، و قرأ «يزيد في الخلق ما يشاء».
و في التوحيد، بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن القضاء و القدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «يزيد في الخلق ما يشاء»: روى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: هو الوجه الحسن و الصوت الحسن و الشعر الحسن.
أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من قبيل الجري و الانطباق.
كلام في الملائكة
تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم و لم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل و ميكال و ما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت و الكرام الكاتبين و السفرة الكرام البررة و الرقيب و العتيد و غير ذلك.
و الذي ذكره الله سبحانه في كلامه - و تشايعه الأحاديث السابقة - من صفاتهم و أعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى و بين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا و للملائكة فيها شأن و عليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات و ليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون:» الأنبياء: - 27.
و ثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادة مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل و لا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون:» التحريم: - 6.
و ثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا و دنوا فبعضهم فوق بعض و بعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع و منهم مأمور مطيع لأمره، و الآمر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور و المأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شيء البتة قال تعالى: «و ما منا إلا له مقام معلوم:» الصافات: - 146 و قال: «مطاع ثم أمين:» التكوير: - 21، و قال: «قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق:» سبأ: - 23.
و رابعا: أنهم غير مغلوبين لأنهم إنما يعملون بأمر الله و إرادته «و ما كان الله ليعجزه من شيء في السموات و لا في الأرض:» فاطر: - 44، و قد قال الله: «و الله غالب على أمره:» يوسف: - 21، و قال: «إن الله بالغ أمره:» الطلاق: - 3.
و من هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال و الفساد و التغير و من شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، و ربما صادفت الموانع و الآفات فحرمت الغاية و بطلت دون البلوغ إليها.
و من هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة و أشكالهم و هيئاتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم و ظهوراتهم للواصفين من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام)، و ليس من التصور و التشكل في شيء ففرق بين التمثل و التشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان فهو في ظرف المشاهدة و الإدراك ذو صورة الإنسان و شكله و في نفسه و الخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكية و هذا بخلاف التشكل و التصور فإنه لو تشكل بشكل الإنسان و تصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك و الخارج عنه فهو إنسان في العين و الذهن معا؟ و قد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم.
و لقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح و مريم: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا:» مريم: - 17 و قد تقدم تفسيره.
و أما ما شاع في الألسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب و الخنزير، و الجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب و الخنزير فمما لا دليل عليه من عقل و لا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، و أما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية.
|