بيان
مثل مشتمل على الإنذار و التبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهية و ما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة و الأجر الكريم لمن آمن بها و اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب، و من العذاب الأليم لمن كفر و كذب بها فحق عليه القول، و فيه إشارة إلى وحدانيته تعالى و معاد الناس إليه جميعا.
و لا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا و بين إنذارهم لأن في البلاغ إتماما للحجة و تكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة:» الأنفال: - 42، و قال: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:» الإسراء: - 82.
قوله تعالى: «و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون» المثل كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، و لما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد و الوعيد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضربها مثلا لهم.
و الظاهر أن «مثلا» مفعول ثان لقوله: «اضرب» و مفعوله الأول قوله: «أصحاب القرية» و المعنى و اضرب لهم أصحاب القرية و حالهم هذه الحال مثلا و قد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل.
قوله تعالى: «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون» التعزيز من العزة بمعنى القوة و المنعة، و قوله: «إذ أرسلنا إليهم» بيان تفصيلي لقوله: «إذ جاءها المرسلون».
و المعنى: و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و هم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم مرسلون من جانب الله.
قوله تعالى: «قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا و ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون» كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة و الوحي، و يستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أن حكم الأمثال واحد.
و على هذا التقرير يكون معنى قوله: «و ما أنزل الرحمن من شيء» لم ينزل الله وحيا و لو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، و تعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه و اتصافه بكرائم الصفات 1 كالخلق و الرحمة و الملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبرون و الآلهة المعبودون، و أما الله عز اسمه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.
و من الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه و رحمته تعالى قبل إنكارهم و تكذيبهم للحق الصريح.
و قوله: «إن أنتم إلا تكذبون» بمنزلة النتيجة لصدر الآية، و محصل قولهم إنكم بشر مثلنا و لا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه و أنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة و إذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون.
و يظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: «إن أنتم إلا تكذبون» و كذا الوجه في نفي الفعل و لم يقل: إن أنتم إلا كاذبون لأن المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار و الاستقبال.
قوله تعالى: «قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون و ما علينا إلا البلاغ المبين» لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم ما أنتم إلا بشر مثلنا» إلخ.
كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الأمم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة «إن أنتم إلا بشر مثلنا» فردتها رسلهم بقولهم: «إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء من عباده:» إبراهيم: - 11 و قد مر تقريره.
بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك و أنهم في غنى عن تصديقهم لهم و إيمانهم بهم و يكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك.
فقوله: «قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون» إخبار عن رسالتهم و قد أكد الكلام بأن المشددة المكسورة و اللام، و الاستشهاد بعلم ربهم بذلك، و قوله: «ربنا يعلم» معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة و يكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها و لا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا و لا نفع لنا فيه من أجر و نحوه و لا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة و إتمام الحجة.
و قوله: «و ما علينا إلا البلاغ المبين» البلاغ هو التبليغ و المراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر و لم نكلف إلا بتبليغ الرسالة و إتمام الحجة.
قوله تعالى: «قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم» القائلون أصحاب القرية و المخاطبون هم الرسل، و التطير هو التشؤم و قولهم: «لئن لم تنتهوا» إلخ.
تهديد منهم للرسل.
و المعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم و نقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ و لم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة و ليصلن إليكم و ليقعن بكم منا عذاب أليم.
قوله تعالى: «قالوا طائركم معكم أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون» القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية.
و قوله: «طائركم معكم» الطائر في الأصل هو الطير و كان يتشاءم به ثم توسع و استعمل في كل ما يتشاءم به، و ربما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث، و ربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان و حرمانه من كل خير.
و كيف كان فقوله: «طائركم معكم» ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم و هو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد و إقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك.
و قيل: المعنى طائركم أي حظكم و نصيبكم من الخير و الشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر، هذا و هو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: «أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون» أنسب بالنسبة إلى المعنى الأول.
و قوله: «أ ئن ذكرتم» استفهام توبيخي و المراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى و رجوع الكل إليه و نحوهما و جزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به و التقدير أ إن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع و الصنيع الفظيع من التطير و التوعد.
و قوله: «بل أنتم قوم مسرفون» أي مجاوزون للحد في المعصية و هو إضراب عما تقدم و المعنى بل السبب الأصلي في جحودكم و تكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الإسراف و مجاوزة الحد.
قوله تعالى: «و جاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين» أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدإ مفروض، و قد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها و السعي هو الإسراع في المشي.
و وقع نظير هذا التعبير في قصة موسى و القبطي و فيها «و جاء رجل من أقصى المدينة يسعى» فقدم «رجل» هناك و أخر هاهنا و لعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجيء الرجل و إخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر و إبلاغه فجيء بقوله: «يسعى» حالا مؤخرا بخلاف ما هاهنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه و بين الرسل في أمر الدعوة فقدم «من أقصى المدينة» و أخر الرجل و سعيه.
و قد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل و اسم أبيه و حرفته و شغله و لا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد و لو توقف عليه الفهم بعض التوقف لأشار سبحانه في كلامه إليه و لم يهمله.
و إنما المهم هو التدبر في حظه من الإيمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل (عليهم السلام) و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم.
قوله تعالى: «اتبعوا من لا يسألكم أجرا و هم مهتدون» بيان لقوله: «اتبعوا المرسلين» و في وضع قوله: «من لا يسألكم أجرا و هم مهتدون» في هذه الآية موضع قوله: «المرسلين» في الآية السابقة إشعار بالعلية و بيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لأحد أمرين: إما لكون قوله ضلالا و القائل به ضالا و لا يجوز اتباع الضال في ضلاله، و إما لأن القول و إن كان حقا و الحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال و اكتساب الجاه و المقام و نحو ذلك، و أما إذا كان القول حقا و كان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد و المكر و الخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، و هؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلا الله، و هم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم.
أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد و كونه حقا، و الحجة هي قوله: «و ما لي لا أعبد» إلى تمام الآيتين.
و أما أنهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: «ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون» و قد تقدم تقريره.
و بهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: «ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون» مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك.
قوله تعالى: «و ما لي لا أعبد الذي فطرني و إليه ترجعون ء أتخذ من دونه آلهة» - إلى قوله - و لا ينقذون» شرع في استفراغ الحجة على التوحيد و نفي الآلهة في آيتين و اختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام و هي قوله: «و إليه ترجعون» و ذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله و فطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله و الأفراد أمثال فقوله: «و ما لي لا أعبد» إلخ.
في معنى و ما للإنسان لا يعبد إلخ.
أ يتخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ.
و قد عبر عنه تعالى بقوله: «الذي فطرني» للإشعار بالعلية فإن فطره تعالى للإنسان و إيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للإنسان من ذات و صفات و أفعال إليه تعالى و قيامه به و ملكه له فليس للإنسان إلا العبودية محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية و يظهرها بالنسبة إليه تعالى و هذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنه أهل لها.
و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعا في جنة و لا خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة.
و إذ كان الإيمان به تعالى و عبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الأكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: «و إليه ترجعون» يريد به إنذارهم بيوم الرجوع و أنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوىء أعمالهم فقوله: «و إليه ترجعون» كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي.
ثم إن الآيتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية و بنوا على ذلك عبادة الأصنام و أربابها.
توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شيء من القوى الإدراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته و الأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام و الجن و القديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات و دفع الشرور و المكاره.
و الجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الإنسان و إن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات و إنكار إمكانه مكابرة، و هذا الجواب هو الذي أشار إليه بقوله: «و ما لي لا أعبد الذي فطرني».
و عن الثانية أن هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم و الله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة و لازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه:» يونس: - 3 أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة و عدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، و إلى ذلك أشار بقوله: «ء أتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا و لا ينقذون».
و تعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته و كثرتها و أن النعم كلها من عنده و تدبير الخير و الشر إليه و يتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم و كذا النظام الجاري فيها، من رحمته و قائمة به من غير استقلال في شيء منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشيء من رحمته و تدبيره تعالى و كانت الربوبية له تعالى وحده و كذا الألوهية.
قوله تعالى: «إني إذا لفي ضلال مبين» تسجيل للضلال على اتخاذ الآلهة.
قوله تعالى: «إني آمنت بربكم فاسمعون» من كلام الرجل خطابا للرسل و قوله: «فاسمعون» كناية عن الشهادة بالتحمل، و قوله: «إني آمنت بربكم» إلخ.
تجديد الشهادة بالحق و تأكيد للإيمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: «إني آمنت بربكم» بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه و ليؤيدهم بإيمانهم بمرأى من القوم و مسمع.
و قيل: إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، و المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني و آمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم و يشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رأى أنهم بصدد الإيقاع بهم.
هذا.
و فيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: «ربكم» فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم و إنما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه.
و رد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم و هو الله سبحانه.
و فيه أنه تقييد من غير مقيد.
قوله تعالى: «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين» الخطاب للرجل و هو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: «و ما أنزلنا على قومه من بعده» إلخ فوضع قوله: «قيل ادخل الجنة موضع الإخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم و بين أمره بدخول الجنة أي فصل و انفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة.
و المراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الآخرة، و قول بعضهم: إن المراد بها جنة الآخرة و المعنى سيقال له: ادخل الجنة يوم القيامة و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، و هو تحكم كسابقه.
و قيل: إن القائل: «ادخل الجنة» هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء و فيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: «قال يا ليت قومي يعلمون» إلخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء «ادخل الجنة» و لم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك.
و قوله: «قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين» استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل؟ فقيل: «قيل ادخل الجنة» ثم قيل: فما ذا كان بعد؟ فقيل: «قال يا ليت قومي يعلمون» إلخ و هو نصح منه لقوله ميتا كما كان ينصحهم حيا.
و «ما» في قوله: «بما غفر لي» إلخ مصدرية، و قوله: «و جعلني» عطف على «غفر» و المعنى بمغفرة ربي لي و جعله إياي من المكرمين.
و موهبة الإكرام و إن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله: «فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن:» الفجر: - 15، و قوله: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم:» الحجرات: - 13 فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الإطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون:» الأنبياء: - 27، و الكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله: «أولئك في جنات مكرمون:» المعارج: - 35، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله: «إلا عباد الله المخلصين - إلى أن قال - و هم مكرمون:» الصافات: - 42.
و الآية من أدلة وجود البرزخ.
قوله تعالى: «و ما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء و ما كنا منزلين» الضميران للرجل، و «من بعده» أي من بعد قتله، و «من» الأولى و الثالثة لابتداء الغاية، و الثانية مزيدة لتأكيد النفي.
و الآية توطئة للآية التالية، و هي مسوقة لبيان هوان أمر القوم و الانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه و أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة و عدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم و لا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الأمم الماضين و إنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم.
قوله تعالى: «إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذا هم خامدون» أي ما كان الأمر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، و تأنيث الفعل لتأنيث الخبر و تنكير «صيحة» و توصيفها بالوحدة للاستحقار، و الخمود السكون و استئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان سبب إهلاكهم؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة.
و المعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر و هي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس و هم عن آخرهم موتى لا يتحركون.
قوله تعالى: «يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون» أي يا ندامة العباد و نداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، و سبب الحسرة ما يتضمنه قوله: «ما يأتيهم من رسول» إلخ.
و من هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس و تتأكد الحسرة بكونهم عبادا فإن رد العبد دعوة مولاه و تمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح.
و بذلك يظهر سخافة قول من قال: إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما جميعا.
و كذا قول من قال: إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل.
و ظهر أيضا أن قوله: «يا حسرة على العباد» إلخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل.
قوله تعالى: «أ لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون» توبيخ لأولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و «من القرون» بيان لكم، و القرون جمع قرن و هو أهل عصر واحد.
و قوله: «إنهم إليهم لا يرجعون» بيان لقوله: «كم أهلكنا قبلهم من القرون» ضمير الجمع الأول للقرون و الثاني و الثالث للعباد.
و المعنى: أ لم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية و أنهم مأخوذون بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه؟ و للقوم في مراجع الضمائر و في معنى الآية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها.
قوله تعالى: «و إن كل لما جميع لدينا محضرون» لفظة «إن» حرف نفي و «كل» مبتدأ تنوينه عوض عن المضاف إليه، و «لما» بمعنى إلا، و جميع بمعنى مجموع، و لدينا ظرف متعلق به، و محضرون خبر بعد خبر و هو جميع، و احتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع.
و المعنى: و ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب و الجزاء يوم القيامة فالآية في معنى قوله: «ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود:» هود - 103.
بحث روائي
في المجمع، قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أ معكما آية؟ قالا نعم نحن نشفي المريض و نبرىء الأكمه و الأبرص بإذن الله تعالى فقال الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزل نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى. و كان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر. قال الملك: و لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك و آلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما. قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلد كل واحد منهما مائة جلدة. فلما كذب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. فدعاهما الملك فقال لها شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء لا شريك له. قال: و ما آتاكما؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أ رأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا؟ فيكون لك و لأهلك شرفا. فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر و لا ينفع. ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به و بكما. قالا: إلهنا قادر على كل شيء فقال، الملك إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميت و قد تغير و أروح فجعلا يدعوان ربهما علانية و جعل شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت و قال لهم إني قد مت منذ سبعة أيام و أدخلت في سبعة أودية من النار و أنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.
قال: و قد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث و في بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، و أن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك و أنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.
و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و قومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.
أقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و أبو نعيم و ابن عساكر و الديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصديقين ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، و حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم.
أقول: و رواه أيضا عن البخاري في تأريخه عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون و حبيب النجار صاحب آل ياسين و علي بن أبي طالب.
في المجمع، عن تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصديقون و علي أفضلهم.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و ضعفه عن ابن عباس عنه (عليه السلام) و لفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون و السابق إلى عيسى صاحب يس و السابق إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب.
|