بيان
تتكلم السورة حول الأصول الثلاثة أعني الوحدانية و النبوة و البعث فتذكرها و تذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها و الشبه التي ألقوها ثم تدفعها بوجوه الدفع من حكمة و موعظة و مجادلة حسنة و تهتم ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح الكلام ثم تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه.
و هي مكية بشهادة مقاصد آياتها على ذلك.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض» إلخ، المطلوب بيان البعث و الجزاء بيانا لا يعتريه شك بالإشارة إلى الحجة التي ينقطع بها الخصم و الأساس الذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكل شيء من كل جهة حتى يصح له أي تصرف أراد فيها من إبداء و رزق و إماتة و إحياء بالإعادة و جزاء، و ثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علما لا يطرأ عليه عزوب و زوال حتى يعيد كل من أراد و يجزيه على ما علم من أعماله خيرا أو شرا.
و قد أشير إلى أول الأمرين في الآية الأولى التي نحن فيها و إلى الثانية في الآية الثانية و بذلك يظهر أن الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة و الرابعة.
فقوله: «الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض» ثناء عليه على ملكه المنبسط على كل شيء بحيث له أن يتصرف في كل شيء بما شاء و أراد.
و قوله: «و له الحمد في الآخرة» تخصيص الحمد بالآخرة لما أن الجملة الأولى تتضمن الحمد في الدنيا فإن النظام المشهود في السماوات و الأرض نظام دنيوي كما يشهد به قوله تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات»: إبراهيم: 48. و قوله: «و هو الحكيم الخبير» ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبني على الحكمة و الخبرة فبحكمته عقب الدنيا بالآخرة و إلا لغت الخلقة و بطلت و لم يتميز المحسن من المسيء كما قال: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا - إلى أن قال - أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28، و بخبرته يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا و يجزي كل نفس بما كسبت.
و الخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة و هي العلم بالجزئيات فهو أخص من العليم.
قوله تعالى: «يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها» الولوج مقابل الخروج و العروج مقابل النزول و كان العلم بالولوج و الخروج و النزول و العروج كناية عن علمه بحركة كل متحرك و فعله و اختتام الآية بقوله: «و هو الرحيم الغفور» كان فيه إشارة إلى أن له رحمة ثابتة و مغفرة ستصيب قوما بإيمانهم.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربي لتأتينكم عالم الغيب» إلخ، يذكر إنكارهم لإتيان الساعة و هي يوم القيامة و هم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه و علمه بكل شيء و لا مورد للارتياب في إتيانها مع ذلك كما تقدم فضلا عن إنكار إتيانها و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن قولهم بقوله: «قل بلى و ربي لتأتينكم» أي الساعة.
و لما كان السبب العمدة في إنكارهم هو اختلاط الأشياء و منها أبدان الأموات بعضها ببعض و تبدل صورها تبدلا بعد تبدل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: «عالم الغيب لا يعزب» أي لا يفوت «عن علمه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض».
و قوله: «و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين» تعميم لعلمه لكل شيء و فيه مع ذلك إشارة إلى أن للأشياء كائنة ما كانت ثبوتا في كتاب مبين لا تتغير و لا تتبدل و إن زالت رسومها عن صفحة الكون و قد تقدم بعض الكلام في الكتاب المبين في سورة الأنعام و غيرها.
قوله تعالى: «ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة و رزق كريم» اللام في «ليجزي» للتعليل و هو متعلق بقوله: «لتأتينكم» و في قوله: «لهم مغفرة و رزق كريم» نوع محاذاة لقوله السابق: «و هو الرحيم الغفور».
و في الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة و هو أن يجزي الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالمغفرة و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها و السبب الأخير ما يشير إليه قوله: «و الذين سعوا في آياتنا معاجزين» إلخ.
قوله تعالى: «و الذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم» السعي الجد في المشي و المعاجزة المبالغة في الإعجاز و قيل: المسابقة و الكلام مبني على الاستعارة بالكناية كان الآيات مسافة يسيرون فيها سيرا حثيثا ليعجزوا الله و يسبقوه و الرجز كالرجس القذر و لعل المراد به العمل السيىء فيكون إشارة إلى تبدل العمل عذابا أليما عليهم أو سببا لعذابهم، و قيل: الرجز هو سيء العذاب.
و في الآية تعريض للكفار الذين يصرون على إنكار البعث.
قوله تعالى: «و يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق» الموصول الأول فاعل يرى و الموصول الثاني مفعوله الأول و الحق مفعوله الثاني و المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله و بآياته، و بالذي أنزل إليه القرآن النازل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و جملة «و يرى» إلخ، استئناف متعرض لقوله السابق: «و قال الذين كفروا» أو حال من فاعل كفروا، و المعنى: أولئك يقولون: لا تأتينا الساعة و ينكرونه جهلا، و العلماء بالله و آياته يرون أن هذا القرآن النازل إليك المخبر بأن الساعة آتية هو الحق.
و قوله: «و يهدي إلى صراط العزيز الحميد» معطوف على الحق أي و يرون القرآن يهدي إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنه لا يفعل مع عزته إلا الجميل و هو الله سبحانه، و في التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما وصفهم به في قوله: «الذين سعوا في آياتنا معاجزين».
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد» كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرفون فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعضهم لبعض بالقول بالمعاد.
و التمزيق التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانيا بعد عدمهم، و قوله: «إذا مزقتم» ظرف لقوله: «إنكم لفي خلق جديد».
و المعنى: و قال الذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنذاره إياهم بالبعث و الجزاء: هل ندلكم على رجل و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينبئكم و يخبركم أنكم ستستقرون في خلق جديد و يتجدد لكم الوجود إذا فرقت أبدانكم كل التفريق و قطعت بحيث لا يتميز شيء منها من شيء.
قوله تعالى: «افترى على الله كذبا أم به جنة» إلخ، الاستفهام للتعجيب فإن القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا رددوا الأمر بين الافتراء و الجنة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم.
و قوله: «بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب و الضلال البعيد» رد لقولهم و إضراب عن الترديد الذي أتوا به مستفهمين، و محصله أن ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفار مستقرون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحق فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحق و يذعنوا به.
و وضع الموصول موضع الضمير في قوله: «بل الذين لا يؤمنون بالآخرة» للدلالة على أن علة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.
قوله تعالى: «أ فلم يروا إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء» إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله: «ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض» إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلهم و أرضا تقلهم لا مفر لهم منهما.
و قوله: «إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء» أي إذ أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبرتان بتدبيرنا منقادتان مسخرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.
و قوله: «إن في ذلك لآية لكل عبد منيب»، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكل عبد منيب، راجع إلى ربه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الأمور و لا يجترءون على تكذيب هذه الآيات إلا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربهم و رجوعا إلى طاعته.
|