بيان
فصل آخر من آيات السورة تتكلم في أمر النبوة و ما يرجع إليها و ما يقول المشركون فيها و تتخلص في خلالها بما يجري عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، و قد اتصلت بقوله في الفصل السابق: «و ما أرسلناك إلا كافة للناس» الآية، و قد عرفت أن الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة و تجعلها دليلا على التوحيد.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن و لا بالذي بين يديه» المراد بالذين كفروا المشركون و المراد بالذي بين يديه الكتب السماوية من التوراة و الإنجيل و ذلك أن المشركين و هم الوثنيون ليسوا قائلين بالنبوة و يتبعها الكتاب السماوي.
و قول بعضهم: إن المراد بالذي بين يديه هو أمر الآخرة مما لا دليل يساعده، و قد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة و الإنجيل بالذي بين يديه، و من الخطإ قول بعضهم: إن المراد بالذين كفروا هم اليهود.
قوله تعالى: «و لو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم» إلخ، الظاهر أن اللام في «الظالمون» للعهد، و هذه الآية و الآيتان بعدها تشير إلى أن وبال هذا الكفر - و أساسه ضلال أئمة الكفر و إضلالهم تابعيهم - سيلحق بهم و سيندمون عليه و لن ينفعهم الندم.
فقوله: «و لو ترى» خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب «إذ الظالمون» و هم الكافرون بكتب الله و رسله، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر «موقوفون عند ربهم» للحساب و الجزاء يوم القيامة «يرجع بعضهم إلى بعض القول» أي يتحاورون و يتراجعون في الكلام متخاصمين «يقول الذين استضعفوا» بيان لرجوع بعضهم إلى بعض في القول و المستضعفون الأتباع الذين استضعفتهم المتبوعون «للذين استكبروا» و هم الأئمة القادة «لو لا أنتم لكنا مؤمنين» يريدون أنكم أجبرتمونا على الكفر و حلتم بيننا و بين الإيمان.
«قال الذين استكبروا للذين استضعفوا» جوابا عن قولهم و ردا لما اتهموهم به من الإجبار و الإكراه «أ نحن صددناكم» الاستفهام للإنكار أي أ نحن صرفناكم «عن الهدى بعد إذ جاءكم» فبلوغه إليكم بالدعوة النبوية أقوى الدليل على أنا لم نحل بينه و بينكم و كنتم مختارين في الإيمان به و الكفر «بل كنتم مجرمين» متلبسين بالإجرام مستمرين عليه فأجرمتم بالكفر به لما جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم و نحن برآء منه.
«و قال الذين استضعفوا للذين استكبروا» ردا لقولهم و دعواهم البراءة «بل مكر الليل و النهار» أي مكركم بالليل و النهار حملنا على الكفر «إذ تأمروننا أن نكفر بالله و نجعل له أندادا» و أمثالا من الآلهة أي أنكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون الليل و النهار و تخطون الخطط لتستضعفونا و تتآمروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما تريدون، فلم نشعر إلا و نحن مضطرون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر و الشرك.
«و أسروا» و أخفوا «الندامة لما رأوا العذاب» و شاهدوا أن لا مناص، و إخفاؤهم الندامة يوم القيامة - و هو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء - نظير كذبهم على الله و إنكارهم الشرك بالله و حلفهم لله كان بين كل ذلك من قبيل ظهور ملكاتهم الرذيلة التي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرون الندامة في الدنيا خوفا من شماتة الأعداء و كذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسروا و اليوم يوم تبلى السرائر كما يكذبون بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنهم كاذبون في قولهم.
ثم ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال: «و جعلنا الأغلال» السلاسل «في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون» فصارت أعمالهم أغلالا في أعناقهم تحبسهم في العذاب.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون» المترفون اسم مفعول من الإتراف و هو الزيادة في التنعيم، و فيه إشعار بأن الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة.
قوله تعالى: «و قالوا نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين» ضمير الجمع للمترفين، و من شأن الإتراف و الترفه و التقلب في نعم الدنيا أن يتعلق قلب الإنسان بها و يستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحق أم خالفه فلا يذكر إلا ظاهر الحياة و ينسى ما وراءه.
و لذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا» فلا سعادة إلا فيها و لا شقوة معها «و ما نحن بمعذبين» في آخرة، و لم ينفوا العذاب إلا للغفلة و الانصراف عما وراء كثرة الأموال و الأولاد فإذ كانت هي السعادة و الفلاح فحسب فالعذاب في فقدها و لا عذاب معها.
و هاهنا وجه آخر و هو أنهم لغرورهم بما رزقوا به من المال و الولد ظنوا أن لهم كرامة على الله سبحانه و هم على كرامتهم عليهم ما داموا، و المعنى: أنا ذوو كرامة على الله بما أوتينا من كثرة الأموال و الأولاد و نحن على كرامتنا فما نحن بمعذبين لو كان هناك عذاب.
فتكون الآية في معنى قوله: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50.
قوله تعالى: «قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر و لكن أكثر الناس لا يعلمون» الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم: «نحن أكثر أموالا» إلخ، و قد أجيب عنه بوجهين أحدهما أن أمر الرزق من الأموال و الأولاد سعة و ضيقا بيد الله على ما تستدعيه الحكمة و المصلحة و هيأ من الأسباب لا بمشية الإنسان و لا لكرامة له على الله فربما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق خفيف العقل، و ربما بسط على واحد ثم قدر له.
فلا دلالة في الإتراف على سعادة أو كرامة.
و هذا معنى قوله: «قل إن ربي» نسبه إلى نفسه لأنهم لم يكونوا يرون الله ربا لأنفسهم و الرزق من شئون الربوبية «يبسط» أي يوسع «الرزق لمن يشاء» من عباده بحسب الحكمة و المصلحة «و يقدر» أي يضيق «و لكن أكثر الناس لا يعلمون» فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهرية الاتفاقية ثم إذا أوتوه نسبوه إلى حزمهم و حسن تدبيرهم أنفسهم و كفى به دليلا على الحمق.
قوله تعالى: «و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى» إلى آخر الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين» و محصله أن انتفاء العذاب المترتب على القرب من الله لا يترتب على الأموال و الأولاد إذ لا توجب الأموال و الأولاد قربا و زلفى من الله حتى ينتفي معها العذاب الإلهي فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبب.
و هذا معنى قوله: «و ما أموالكم و لا أولادكم» التي تعتمدون عليها في السعادة و انتفاء عذاب الله «بالتي» أي بالجماعة التي «تقربكم عندنا زلفى» أي تقريبا.
«إلا من آمن و عمل صالحا» في ماله و ولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله و بث الإيمان و العمل الصالح في أولاده بتربية دينية «فأولئك لهم جزاء الضعف» لعله من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنهم اهتدوا و هدوا و أيضا من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها و زيادة «و هم في الغرفات» أي في القباب العالية «آمنون» من العذاب فما هم بمعذبين.
«و الذين يسعون في آياتنا معاجزين» أي يجدون في آياتنا و هم يريدون أن يعجزونا - أو أن يسبقونا - أولئك في العذاب محضرون» و إن كثرت أموالهم و أولادهم.
و في قوله: «و ما أموالكم و لا أولادكم» إلخ، انتقال إلى خطاب عامة الناس من الكفار و غيرهم و الوجه فيه أن ما ذكره من الحكم حكم الأموال و الأولاد سواء في ذلك المؤمن و الكافر فالمال و الولد إنما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان و عمل صالح فيهما و إلا فلا يزيدان إلا وبالا.
قوله تعالى: «قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين» قال في مجمع البيان،: يقال: أخلف الله له و عليه إذا أبدل له ما ذهب عنه.
انتهى.
سياق الآية يدل على أن المراد بالإنفاق فيها الإنفاق في وجوه البر و المراد بيان أن هذا النحو من الإنفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه و يرزق بدله.
فقوله في صدر الآية: «قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر» للإشارة إلى أن أمر الرزق في سعته و ضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالإنفاق و لا يزيد بالإمساك ثم قال: «و ما أنفقتم من شيء» قليلا كان أو كثيرا و أيا ما كان من المال «فهو يخلفه» و يرزقكم بدله إما في الدنيا و إما في الآخرة «و هو خير الرازقين» فإنه يرزق جودا و رزق غيره معاملة في الحقيقة و معاوضة، و لأنه الرازق في الحقيقة و غيره ممن يسمى رازقا واسطة لوصول الرزق.
قوله تعالى: «و يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون» المراد بهم جميعا بشهادة السياق العابدون و المعبودون جميعا.
و قوله: «ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون» ليس سؤال استخبار عن أصل عبادتهم لهم و لو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا و قد أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حد قوله تعالى لعيسى بن مريم: «أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله».
و الغرض من السؤال تبكيت المشركين و إقناطهم من نصرة الملائكة و شفاعتهم لهم و قد عبدوهم في الدنيا لذلك.
قوله تعالى: «قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون» أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزهوه سبحانه أولا تنزيها مطلقا فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثم نفوا رضاهم بعبادة المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة و لا بالتفوه بعبادتهم صونا لساحة المخاطبة عما يقرع السمع بذلك، و لو تصورا لا تصديقا بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه تعالى و نفيها عنهم ليدل على نفي الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فإن الرضا بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، و الموالاة بينهم تنافي قصر الولاية في الله سبحانه فإذا انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة و إذا لم تكن موالاة لم يكن رضا.
ثم قالوا على ما حكاه الله سبحانه: «بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون» و الجن هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث التي يعبدهم الوثنيون و هم الملائكة و الجن و القديسون من البشر، و الأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الأوليان و الطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال و إن كانوا أفضل منهما.
و الإضراب في قولهم: «بل كانوا يعبدون الجن» يدل على أن الجن كانوا على رضى من عبادتهم لهم.
و هؤلاء من الجن هم الذين يعدهم الوثنيون مبادىء الشرور في العالم فيعبدونهم اتقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعا في خيراتهم لما أنهم مباد للخيرات لا كما قيل: إن المراد بالجن إبليس و ذريته و قبيله و معنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، و يرده ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الإيمان دون الطاعة و لا ما قيل: إنهم كانوا يتمثلون لهم و يخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم و لا ما قيل: إنهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها.
و لعل الوجه في نسبة الإيمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أن أكثرهم يعبدون الآلهة اتقاء من طروق الشر من قبلهم، و مبادىء الشر عندهم مطلقا الجن لا كما قيل: إن المراد بالأكثر الكل، و هو مبني على تفسير العبادة بمعنى الطاعة و قد عرفت ما فيه.
قوله تعالى: «فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا و لا ضرا و نقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون» نوع تفريع على تبري الملائكة منهم و قد بين تبري عامة المتبوعين من تابعيهم و التابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى: «و يوم القيامة يكفرون بشرككم»: فاطر: 14، و قوله: «ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا»: العنكبوت: 25.
و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم» إلخ، خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم و تحريض لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات و هي بينة لا ريب فيها فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها حثوهم على الإصرار على تقليد آبائهم و حرضوهم عليه - و في إضافة الآباء إلى ضمير «كم» مبالغة في التحريض و الإثارة.
و قوله: «و قالوا ما هذا إلا إفك مفترى» معطوف على «قالوا» أي و قالوا مشيرا إلى الآيات البينات إشارة تحقير ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه مكذوبا به على الله، بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى - و قد أشاروا إلى الآيات البينات بهذا دلالة على أنهم لم يفهموا منها إلا أنها شيء ما لا أزيد من ذلك.
ثم غير سبحانه السياق و قال: «و قال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين» و مجيء الحق لهم بلوغه و ظهوره لهم، و الأخذ بوصف الكفر للإشعار بالتعليل و المعنى: و الذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم و ظهر لهم هذا سحر ظاهر سحريته و بطلانه.
و أكد إصرارهم على دحض الحق باتباع الهوى من غير دليل يدل عليه بقوله: «و ما آتيناهم من كتب يدرسونها و ما أرسلنا إليهم قبلك من نذير» و الجملة حالية أي و عد الذين كفروا - أي كفار قريش - الحق الصريح الظاهر لهم سحرا مبينا و الحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل و لم نرسل إليهم قبلك من رسول ينذرهم و يبين لهم ذلك فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل.
قوله تعالى: «و كذب الذين من قبلهم و ما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير» ضميرا الجمع الأول و الثاني لكفار قريش و من يتلوهم و الثالث و الرابع للذين من قبلهم، و المعشار العشر و النكير الإنكار، و المراد به في الآية لازمه و هو الأخذ بالعذاب.
و المعنى: و كذب بالحق من الآيات الذين كانوا من قبل كفار قريش من الأمم الماضية و لم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة و الشدة فكذب أولئك الأقوام رسلي فكيف كان أخذي بالعذاب و ما أهون أمر قريش.
و الالتفات في الآية إلى التكلم لاستعظام الجرم و تهويل المؤاخذة.
قوله تعالى: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة» المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينا، و قوله: «أن تقوموا لله» أي تنهضوا لأجل الله و لوجهه الكريم، و قوله: «مثنى و فرادى» أي اثنين اثنين و واحدا واحدا كناية عن التفرق و تجنب التجمع و الغوغاء فإن الغوغاء لا شعور لها و لا فكر و كثيرا ما تميت الحق و تحيي الباطل.
و قوله: «ما بصاحبكم من جنة» استئناف «ما» نافية و يشهد بذلك قوله بعد: «إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد» و يمكن أن يكون «ما» استفهامية أو موصولة و «من جنة» بيانا له.
و المراد بصاحبكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه و الوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدة لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكروا أنهم لم يعهدوا منه اختلالا في فكر أو خفة في رأي أو أي شيء يوهم أن به جنونا.
و المعنى: قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا و تنتصبوا لوجه الله متفرقين حتى يصفو فكركم و يستقيم رأيكم اثنين اثنين و واحدا واحدا و تتفكروا في أمري فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي و صدق و أمانة ليس في من جنة.
ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن.
قوله تعالى: «قل ما سألتكم من أجر فهو لكم» إلخ، كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة فإنه إذا وهبهم كما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسئول و لازمه أن لا يسألهم و هذا تطييب لنفوسهم أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه.
ثم تمم القول بقوله: «إن أجري إلا على الله و هو على كل شيء شهيد» لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية فدفعه بأن لعملي أجرا لكنه على الله لا عليكم و هو يشهد عملي و هو على كل شيء شهيد.
قوله تعالى: «قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب» القذف الرمي، و قوله: «علام الغيوب» خبر بعد خبر أو خبر لمبتدء محذوف و هو الضمير الراجع إليه تعالى.
و مقتضى سياق الآيات السابقة أن المراد بالحق المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي من عنده تعالى الذي هو قول فصل يحق الحق و يبطل الباطل فهو الحق المقذوف إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند علام الغيوب فيدمغ الباطل و يزهقه، قال تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»: الأنبياء: 18، و قال: «قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا»: إسراء: 81.
قوله تعالى: «قل جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد» المراد بمجيء الحق على ما تهدي إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة لكل باطل من أصله.
و قوله: «و ما يبدىء الباطل و ما يعيد» أي ما يظهر أمرا ابتدائيا جديدا بعد مجيء الحق و ما يعيد أمرا كان قد أظهره من قبل إظهارا ثانيا بنحو الإعادة فهو كناية عن بطلان الباطل و سقوطه عن الأثر من أصله بالحق الذي هو القرآن.
قوله تعالى: «قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي و إن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب» بيان لأثر الحق الذي هو الوحي فإنه عرفه حقا مطلقا فالحق إذا كان حقا من كل جهة لم يخطىء في إصابة الواقع في جهة من الجهات و إلا كان باطلا من تلك الجهة فالوحي يهدي و لا يخطىء البتة.
و لذا قال تأكيدا لما تقدم: «قل إن ضللت» و فرض مني ضلال «فإنما أضل» مستقرا ذلك الضلال «على نفسي» فإن للإنسان من نفسه أن يضل «و إن اهتديت فبما يوحي إلي ربي» فوحيه حق لا يحتمل ضلالا و لا يؤثر إلا الهدى.
و قد علل الكلام بقوله: «إنه سميع قريب» للدلالة على أنه يسمع الدعوة و لا يحجبه عنها حاجب البعد و قد مهد له قبلا وصفه تعالى في قذف الحق بأنه علام الغيوب فلا يغيب عنه أمر يخل بأمره و يمنع نفوذ مشيته هداية الناس بالوحي قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا»: الجن: 28.
قوله تعالى: «و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب» ظاهر السياق السابق و يشعر به قوله الآتي: «و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل» أن الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش و من يلحق بهم حال الموت.
فقوله: «و لو ترى إذ فزعوا» أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت «فلا فوت» أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو أي حائل آخر.
و قوله: «و أخذوا من مكان قريب» كناية عن عدم فصل بينهم و بين من يأخذهم و قد عبر بقوله: «أخذوا» مبنيا للمفعول ليستند الأخذ إليه سبحانه، و قد وصف نفسه بأنه قريب، و كشف عن معنى قربه بقوله: «و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون»: الواقعة: 85، و أزيد منه في قوله: «من حبل الوريد»: ق: 16، و أزيد منه في قوله: «إن الله يحول بين المرء و قلبه»: الأنفال: 24، فبين أنه أقرب إلى الإنسان من نفسه و هذا الموقف هو المرصاد الذي ذكره في قوله: «إن ربك لبالمرصاد»: الفجر: 14، فكيف يتصور فوت الإنسان منه و هو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين الذين يأخذون الأمر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسط بينه و بينهم.
فقوله: «و أخذوا من مكان قريب» نوع تمثيل لقربه تعالى من الإنسان بحسب ما نتصوره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان و المكان و أنسنا بالأمور المادية و إلا فالأمر أعظم من ذلك.
قوله تعالى: «و قالوا آمنا به و أنى لهم التناوش من مكان بعيد» التناوش التناول و ضمير «به» للقرآن على ما يعطيه السياق.
و المراد بكونهم في مكان بعيد أنهم في عالم الآخرة و هي دار تعين الجزاء و هي أبعد ما يكون من عالم الدنيا التي هي دار العمل و موطن الاكتساب بالاختيار و قد تبدل الغيب شهادة لهم و الشهادة غيبا كما تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: «و قد كفروا به من قبل و يقذفون بالغيب من مكان بعيد» حال من الضمير في «و أنى لهم التناوش» و المراد بقوله: «و يقذفون بالغيب من مكان بعيد» رميهم عالم الآخرة و هم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به و كونه غائبا عن حواسهم إذ كانوا يقولون: لا بعث و لا جنة و لا نار، و قيل: المراد به رميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر و الكذب و الافتراء و الشعر.
و العناية في إطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيره إطلاقه على الآخرة بالنسبة إلى الدنيا و قد تقدمت الإشارة إليه.
و معنى الآيتين: و قال المشركون حينما أخذوا آمنا بالحق الذي هو القرآن و أنى لهم تناول الإيمان به - إيمانا يفيد النجاة - من مكان بعيد و هو الآخرة و الحال أنهم كفروا به من قبل في الدنيا و هم ينفون أمور الآخرة بالظنون و الأوهام من مكان بعيد و هو الدنيا.
قوله تعالى: «و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب» ظاهر السياق أن المراد بما يشتهون اللذائذ المادية الدنيوية التي يحال بينهم و بينها بالموت، و المراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الأمم الماضية أو موافقوهم في المذهب، و قوله: «إنهم كانوا في شك مريب» تعليل لقوله: «كما فعل» إلخ.
و المعنى: و وقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين و بين ما يشتهون من ملاذ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم إنهم كانوا في شك مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.
و اعلم أن ما قدمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبني على ما يعطيه ظاهر السياق و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآيات ناظرة إلى خسف جيش السفياني بالبيداء و هو من علائم ظهور المهدي (عليه السلام) المتصلة به فعلى تقدير نزول الآيات في ذلك يكون ما قدمناه من المعنى من باب جري الآيات فيه.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و أسروا الندامة لما رأوا العذاب» قال: يسرون الندامة في النار إذا رأوا ولي الله فقيل: يا بن رسول الله و ما يغنيهم أسرارهم الندامة و هم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء:. أقول: و رواه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و فيه،: و ذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء و وقع فيهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اسكت فإن الغني إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول: «و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى - إلا من آمن و عمل صالحا - فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا - و هم في الغرفات آمنون».
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يقول فيه: حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز و جل: «جزاء من ربك عطاء حسابا» و قال: «أولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا - و هم في الغرفات آمنون».
و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صدق بالخلف جاد بالعطية.
و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف فإني سمعت الله يقول: «و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه» إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟ و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم» و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل قومه أن يودوا أقاربه و لا يؤذوهم. و أما قوله: «فهو لكم» يقول: ثوابه لكم.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و لو ترى إذ فزعوا» الآية،: أخرج الحاكم و صححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق و عامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء و يقتل الصبيان فيجمع لهم قيس فيقتلها حتى لا يمنع ذنب تلعة و يخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبر منهم.
أقول: و الرواية مستفيضة من طرق أهل السنة مختصرة أو مفصلة و قد رووها من طرق مختلفة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و أبي هريرة و جد عمرو بن شعيب و أم سلمة و صفية و عائشة و حفصة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نفيرة امرأة القعقاع عن سعيد بن جبير موقوفا.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت»: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله لكأني أنظر إلى القائم (عليه السلام) و قد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله. فأنا أولى بالله أيها الناس من يحاجني بآدم فأنا أولى بآدم. أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى بنوح. أيها الناس من يحاجني بإبراهيم فأنا أولى بإبراهيم. أيها الناس من يحاجني بموسى فأنا أولى بموسى. أيها الناس من يحاجني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيها الناس من يحاجني بمحمد فأنا أولى بمحمد. أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين و ينشد الله حقه. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): هو و الله المضطر في كتاب الله في قوله: «أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض». فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة و الثلاثة عشر فمن كان ابتلي بالمسير وافى و من لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هم المفقودون عن فرشهم و ذلك قول الله: «فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا» قال: الخيرات الولاية، و قال في موضع آخر: «و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة» و هم أصحاب القائم (عليه السلام) يجتمعون و الله إليه في ساعة واحدة. فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني فيأمر الله عز و جل الأرض فيأخذ بأقدامهم و هو قوله عز و جل: «و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت - و أخذوا من مكان قريب و قالوا آمنا به» يعني بالقائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «و أنى لهم التناوش من مكان بعيد و حيل بينهم و بين ما يشتهون» يعني أن لا يعذبوا «كما فعل بأشياعهم» يعني من كان قبلهم من المكذبين هلكوا «من قبل إنهم كانوا في شك مريب».
تم و الحمد لله.
|