بيان
غرض السورة بيان الأصول الثلاثة للدين فهي تبتدىء بالنبوة و تصف حال الناس في قبول الدعوة و ردها و أن غاية الدعوة الحقة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة و تحقيق القول على آخرين و بعبارة أخرى تكميل الناس في طريقي السعادة و الشقاء.
ثم تنتقل السورة إلى التوحيد فتعد جملة من آيات الوحدانية ثم تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء و امتياز المجرمين يومئذ من المتقين و تصف ما تئول إليه حال كل من الفريقين.
ثم ترجع إلى ما بدأت فتلخص القول في الأصول الثلاثة و تستدل عليها و عند ذلك تختتم السورة.
و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء و إليه ترجعون» فالسورة عظيمة الشأن تجمع أصول الحقائق و أعراقها و قد ورد من طرق العامة و الخاصة: أن لكل شيء قلبا و قلب القرآن يس 1.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «يس و القرآن الحكيم - إلى قوله - فهم غافلون» إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المرسلين، و قد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة و هي حقائق المعارف و ما يتفرع عليها من الشرائع و العبر و المواعظ.
و قوله: «إنك لمن المرسلين» مقسم عليه كما تقدم.
و قوله: «على صراط مستقيم» خبر بعد خبر لقوله: «إنك»، و تنكير الصراط - كما قيل - للدلالة على التفخيم و توصيفه بالمستقيم للتوضيح فإن الصراط هو الطريق الواضح المستقيم، و المراد به الطريق الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الإنسانية التي فيها كمال العبودية لله و القرب، و قد تقدم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام.
و قوله: «تنزيل العزيز الرحيم» وصف للقرآن مقطوع عن الوصفية منصوب على المدح، و المصدر بمعنى المفعول و محصل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الذي أنزله الله العزيز الرحيم الذي استقر فيه العزة و الرحمة.
و التذييل بالوصفين للإشارة إلى أنه قاهر غير مقهور و غالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديته و لا يستذله جحود الجاحدين و تكذيب المكذبين، و أنه ذو رحمة واسعة لمن يتبع الذكر و يخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم و كمالهم فهو بعزته و رحمته أرسل الرسول و أنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحق كلمة العذاب على بعضهم و يشمل الرحمة منهم آخرين.
و قوله: «لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون» تعليل للإرسال و التنزيل و «ما» نافية و الجملة صفة لقوله: «قوما» و المعنى إنما أرسلك و أنزل عليك القرآن لتنذر و تخوف قوما لم ينذر آباؤهم فهم غافلون.
و المراد بالقوم إن كان هو قريش و من يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون فإن الأبعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله، و قد أرسل إلى العرب رسل آخرون كهود و صالح و شعيب (عليهما السلام)، و إن كان المراد جميع الناس المعاصرين نظرا إلى عموم الرسالة فكذلك أيضا فآخر رسول معروف بالرسالة قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عيسى (عليه السلام) و بينهما زمان الفترة.
و اعلم أن ما ذكرناه في تركيب الآيات هو الذي يسبق منها إلى الفهم و قد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون» اللام للقسم أي أقسم لقد ثبت و وجب القول على أكثرهم، و المراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول.
و المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء الخلقة مخاطبا بها إبليس: «الحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين:» ص: - 85 و المراد بتبعية إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة و التسويل بحيث تثبت الغواية و ترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لإبليس: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:» الحجر: - 43.
و لازمه الطغيان و الاستكبار على الحق كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين و التابعين في النار: «بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين:» الصافات: - 32، و قوله: «و لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين:» الزمر: - 72.
و لازمه الانكباب على الدنيا و الإعراض عن الآخرة بالمرة و رسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: «و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون:» النحل: - 108 فيطبع الله على قلوبهم و من آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى: «إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون:» يونس: - 96.
و بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: «فهم لا يؤمنون» للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم.
قوله تعالى: «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون» الأعناق جمع عنق بضمتين و هو الجيد، و الأغلال جمع غل بالكسر و هي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب و التشديد، و مقمحون اسم مفعول من الإقماح و هو رفع الرأس كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رءوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها و يميزوها من غيرها.
و تنكير قوله: «أغلالا» للتفخيم و التهويل.
و الآية في مقام التعليل لقوله السابق: «فهم لا يؤمنون».
قوله تعالى: «و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون» السد الحاجز بين الشيئين، و قوله: «من بين أيديهم و من خلفهم» كناية عن جميع الجهات، و الغشي و الغشيان التغطية يقال: غشيه كذا أي غطاه و أغشى الأمر فلانا أي جعل الأمر يغطيه، و الآية متممة للتعليل السابق و قوله: «جعلنا» معطوف على «جعلنا» المتقدم.
و عن الرازي في تفسيره في معنى التشبيه في الآيتين أن المانع عن النظر في الآيات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه و لا يقع بصره على بدنه، و قسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية.
و معنى الآيتين أنهم لا يؤمنون لأنا جعلنا في أعناقهم أغلالا نشد بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مرفوعة رءوسهم باقون على تلك الحال و جعلنا من جميع جهاتهم سدا فجعلناه يغطيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون.
ففي الآيتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الإيمان و تحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم و غوايتهم و طغيانهم في ذلك.
و قد تقدم في قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا:» البقرة: - 26 في الجزء الأول من الكتاب أن ما وقع في القرآن من هذه الأوصاف و نظائرها التي وصف بها المؤمنون و الكفار يكشف عن حياة أخرى للإنسان في باطن هذه الحياة الدنيوية مستورة عن الحس المادي ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، و عليه فالكلام في أمثال هذه الآيات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم.
قوله تعالى: «و سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون» عطف تفسير و تقرير لما تتضمنه الآيات الثلاث المتقدمة و تلخيص للمراد و تمهيد لما يتلوه من قوله: «إنما تنذر من اتبع الذكر» الآية.
و احتمل أن يكون عطفا على قوله: «لا يبصرون» و المعنى فهم لا يبصرون و يستوي عليهم إنذارك و عدم إنذارك لا يؤمنون و الوجه الأول أقرب إلى الفهم.
قوله تعالى: «إنما تنذر من اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة و أجر كريم» القصر للإفراد، و المراد بالإنذار الإنذار النافع الذي له أثر، و بالذكر القرآن الكريم، و باتباعه تصديقه و الميل إليه إذا تليت آياته، و التعبير بالماضي للإشارة إلى تحقق الوقوع، و المراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب و قبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، و قيل: أي حال غيبته من الناس بخلاف المنافق و هو بعيد.
و قد علقت الخشية على اسم الرحمن الدال على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للإشعار بأن خشيتهم خوف مشوب برجاء و هو الذي يقر العبد في مقام العبودية فلا يأمن و لا يقنط.
و تنكير «مغفرة» و «أجر كريم» للتفخيم أي فبشره بمغفرة عظيمة من الله و أجر كريم لا يقدر قدره و هو الجنة، و الدليل على جميع ما تقدم هو السياق.
و المعنى: إنما تنذر الإنذار النافع الذي له أثر، من اتبع القرآن إذا تليت عليه آياته و مال إليه و خشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة و أجر كريم لا يقدر قدره.
قوله تعالى: «إنا نحن نحيي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين» المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء.
و المراد بما قدموا الأعمال التي عملوها قبل الوفاة فقدموها على موتهم، و المراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلى فيه أو ميضاة يتوضأ فيها، أو شر يعمل به كوضع سنة مبتدعة يستن بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها.
و ربما قيل: إن المراد بما قدموا النيات و بآثارهم الأعمال المترتبة المتفرعة عليها و هو بعيد من السياق.
و المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم و ضبطها فيها بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة و هذه الكتابة غير كتابة الأعمال و إحصائها في الإمام المبين الذي هو اللوح المحفوظ و إن توهم بعضهم أن المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين و ذلك أنه تعالى يثبت في كلامه كتابا يحصي كل شيء ثم لكل أمة كتابا يحصي أعمالهم ثم لكل إنسان كتابا يحصي أعماله كما قال: «و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين:» الأنعام: - 59، و قال: «كل أمة تدعى إلى كتابها:» الجاثية: - 28، و قال: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا:» الإسراء: - 13، و ظاهر الآية أيضا يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الأعمال و الإمام المبين حيث فرق بينهما بالخصوص و العموم و اختلاف التعبير بالكتابة و الإحصاء.
و قوله: «و كل شيء أحصيناه في إمام مبين» هو اللوح المحفوظ من التغيير الذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كل شيء و قد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللوح المحفوظ و أم الكتاب و الكتاب المبين و الإمام المبين كل منها بعناية خاصة.
و لعل العناية في تسميته إماما مبينا أنه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم و كتب الأعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون:» الجاثية: - 29.
و قيل: المراد بالإمام المبين صحف الأعمال و ليس بشيء، و قيل: علمه تعالى و هو كسابقه نعم لو أريد به العلم الفعلي كان له وجه.
و من عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الآبدين و ذلك أن اللوح عند المسلمين جسم و كل جسم متناهي الأبعاد كما يشهد به الأدلة و بيان كل شيء فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي و هو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كل شيء و القول بأن المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا.
و هو تحكم و سنتعرض له تفصيلا.
و الآية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدمها كأنه تعالى يقول: ما أخبرنا به و وصفناه من حال أولئك الذين حق عليهم القول و هؤلاء الذين يتبعون الذكر و يخشون ربهم بالغيب هو كذلك لأن أمر حياة الكل إلينا و أعمالهم و آثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم و خبرة بما تئول إليه حال كل من الفريقين.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فهم مقمحون» قال: قد رفعوا رءوسهم.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا - فأغشيناهم فهم لا يبصرون» الهدى، أخذ الله سمعهم و أبصارهم و قلوبهم و أعمالهم عن الهدى. نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام يصلي و قد حلف أبو جهل لعنه الله لئن رآه يصلي ليدمغه 1 فجاءه و معه حجر و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي فجعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عز و جل يده إلى عنقه و لا يدور الحجر بيده فلما رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده. ثم قام رجل آخر و هو رهطه أيضا فقال أنا أقتله فلما دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم. و قوله تعالى: «و سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون» فلم يؤمن من أولئك الرهط من بني مخزوم أحد.
أقول: و روي نحو منه في الدر المنثور، عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و فيه: أن ناسا من بني مخزوم تواطئوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقتلوه منهم أبو جهل و الوليد بن المغيرة فبينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته و لا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضا من خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: «و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا» الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه و إذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم و إذا هم لا يبصرون فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: ننشدك الله و الرحم يا محمد و لم يكن بطن من بطون قريش إلا و للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم قرابة فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: «يس و القرآن الحكيم إلى قوله أم لم تنذرهم لا يؤمنون». قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
أقول: و قد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ الآيات فاحتجب منهم فلم يروه و دفع الله عنه شرهم و كيدهم، و في بعضها أن الآيات - من أول السورة إلى قوله: «فهم لا يؤمنون» - نزلت في القصة فقوله: «إنا جعلنا» إلى آخر الآيتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أبصارهم و قوله: «و سواء عليهم» إلخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر.
و أنت خبير بأن سياق الآيات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس و هم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون و الذين يتبعون الذكر و يخشون ربهم بالغيب.
و أين ذلك من حمل قوله: «لقد حق القول على أكثرهم» على الناس المنذرين و حمل قوله: «إنا جعلنا في أعناقهم» و «جعلنا من بين أيديهم سدا» الآيتين على قصة أبي جهل و رهطه، و حمل قوله: «و سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم» على رهطه و أضف إلى ذلك حمل قوله: «و نكتب ما قدموا و آثارهم» على قصة قوم من الأنصار بالمدينة و سيوافيك خبره فيختل بذلك السياق و تنثلم وحدة النظم.
فالحق أن الآيات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس و تفرقهم عند بلوغ الدعوة و وقوع الإنذار على فرقتين، و لا مانع من وقوع القصة و احتجاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعدائه بالآيات.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و الترمذي و حسنه و البزار و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: «إنا نحن نحيي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم» فدعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنه يكتب آثاركم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا.
و فيه، أخرج الفاريابي و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت «و نكتب ما قدموا و آثارهم» فقالوا: بل نمكث مكاننا.
أقول: و الكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدمهما.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء. و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيء. ثم تلا هذه الآية «و نكتب ما قدموا و آثارهم».
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و كل شيء أحصيناه في إمام مبين» أي في كتاب مبين و هو محكم، و ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا و الله الإمام المبين أبين الحق من الباطل ورثته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في معاني الأخبار، بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جده (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: أنه قال في علي (عليه السلام) إنه الإمام الذي أحصى الله تبارك و تعالى فيه علم كل شيء.
أقول: الحديثان لو صحا لم يكونا من التفسير في شيء بل مضمونهما من بطن القرآن و إشاراته، و لا مانع من أن يرزق الله عبدا وحده و أخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين و هو (عليه السلام) سيد الموحدين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
|