بيان
في السورة احتجاج على التوحيد، و إنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، و بيان ما يئول إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم و قضى أن ينصرهم على عدوهم، و في خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها و هو تنزيهه و السلام على عباده المرسلين و تحميده تعالى فيما فعل و السورة مكية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: «و الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا» الصافات - على ما قيل - جمع صافة و هي جمع صاف، و المراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها و الزاجرات من الزجر و هو الصرف عن الشيء بالتخويف بذم أو عقاب و التاليات من التلاوة بمعنى القراءة.
و قد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات و الزاجرات و التاليات و قد اختلفت كلماتهم في المراد بها: فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، و قيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الأرض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، و قيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين.
و أما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، و قيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها و تسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، و قيل: هي زواجر القرآن و هي آياته الناهية عن القبائح، و قيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات.
و أما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، و قيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله و فيها ذكر الحوادث، و قيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة.
و يحتمل - و الله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الآيات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و إيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد من قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم:» الجن: - 28.
و عليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر و هو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.
و يؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الآيات، و كذا قوله بعد: «فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا» الآية كما سنشير إليه.
و لا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبرئيل وحده في قوله: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك:» البقرة: - 97 و قوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك:» الشعراء: - 194 لأن الملائكة المذكورين أعوان جبرئيل فنزولهم به نزوله به و قد قال تعالى: «في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة:» عبس: - 16، و قال حكاية عنهم: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك:» مريم: - 64، و قال: «و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون:» الصافات: - 166 و هذا كنسبة التوفي إلى الرسل من الملائكة في قوله: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا:» الأنعام: - 61 و إلى ملك الموت و هو رئيسهم في قوله: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:» السجدة: - 11.
و لا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث: الصافات و الزاجرات و التاليات لأن موصوفها الجماعة، و التأنيث لفظي.
و هذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم و قد أقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجم و الليل و النهار و الملائكة و الناس و البلاد و الأثمار، و ليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى و هو قيومها المنبع لكل شرف و بهاء.
قوله تعالى: «إن إلهكم لواحد» الخطاب لعامة الناس و هو مقسم به، و هو كلام مسوق بدليل كما سيأتي.
قوله تعالى: «رب السماوات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق» خبر بعد خبر لأن، أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو رب السماوات «إلخ» أو بدل من واحد.
و في سوق الأوصاف إشعار بعلة كون الإله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات و الأرض و ما بينهما.
كأنه قيل إن إلهكم لواحد لأن الملاك في ألوهية الإله و هي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الأمر على ما تعترفون و هو سبحانه رب السماوات و الأرض و ما بينهما الذي يدبر أمرها و يتصرف في جميعها.
و كيف لا؟ و هو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء و سكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها و بين الأرض و هناك مجال الشياطين فيزجرونهم و هو تصرف منه فيما بين السماء و الأرض و في الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه و فيه تكميل للناس و تربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات و الأرض و ما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لأمرها و الإله الواحد.
و قوله: «و رب المشارق» أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، و في تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء و قد قال تعالى: «و لقد رآه بالأفق المبين:» التكوير - 23، و قال: «و هو بالأفق الأعلى:» النجم: - 7.
قوله تعالى: «إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب» المراد بالزينة ما يزين به، و الكواكب بيان أو بدل من الزينة و قد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: «و زينا السماء الدنيا بمصابيح:» حم السجدة: - 12 و قوله: «و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح:» الملك: - 5، و قوله: «أ و لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها:» ق: - 6.
و لا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الأرض و إن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.
قوله تعالى: «و حفظا من كل شيطان مارد» حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير و حفظناها حفظا من كل شيطان مارد، و المراد بالشيطان الشرير من الجن و المارد الخبيث العاري من الخير.
قوله تعالى: «لا يسمعون إلى الملإ الأعلى و يقذفون من كل جانب» أصل «لا يسمعون» لا يتسمعون و التسمع الإصغاء، و هو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين و بهذه العناية صار وصفا لكل شيطان و لو كان بمعنى الإصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم.
و الملأ من الناس الأشراف منهم الذين يملئون العيون، و الملأ الأعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم و هم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: «لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا:» الإسراء: - 95.
و قصدهم من التسمع إلى الملإ الأعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الأرضي كالحوادث المستقبلة و الأسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: «و ما تنزلت به الشياطين و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون:» الشعراء: - 212، و قوله حكاية عن الجن: «و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا:» الجن: - 9.
و قوله: «و يقذفون من كل جانب» القذف الرمي و الجانب الجهة.
قوله تعالى: «دحورا و لهم عذاب واصب» الدحور الطرد و الدفع، و هو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، و الواصب الواجب اللازم.
قوله تعالى: «إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب» الخطفة الاختلاس و الاستلاب، و الشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، و الثقوب الركوز و سمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطىء هدفه و غرضه.
و المراد بالخطفة اختلاس السمع و قد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: «إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين:» الحجر: - 18، و الاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: «لا يسمعون» و جوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا.
و معنى الآيات الخمس: أنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم - أو السماء السفلى بزينة و هي الكواكب، و حفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الإصغاء إلى الملإ الأعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - و يرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين و لهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطىء غرضه.
كلام في معنى الشهب
أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين و رميهم بالشهب و هي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الآيات و الأخبار أن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات الملائكة و لها أبواب لا يلج فيها شيء إلا منها و أن في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.
و قد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء و يتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب و هي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير، للرازي و روح المعاني، للآلوسي و غيرهما.
و يحتمل - و الله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس و هو القائل عز و جل: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:» العنكبوت: - 43.
و هو كثير في كلامه تعالى و منه العرش و الكرسي و اللوح و الكتاب و قد تقدمت الإشارة إليها و سيجيء بعض منها.
و على هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد باقتراب الشياطين من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه و رمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم.
و إيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع و رميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي و حفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه و الله أعلم.
قوله تعالى: «فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب» اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، و قال في مجمع البيان،: اللازب و اللازم بمعنى.
انتهى.
و المراد بقوله: «من خلقنا» إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة و هم حفظة الوحي و رماة الشهب، و إما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات و الأرض و الملائكة، و التعبير بلفظ أولي العقل للتغليب.
و المعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما و الملائكة فاسألهم أن يفتوا أ هم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و الصافات صفا» قال: الملائكة و الأنبياء.
و فيه، عن أبيه و يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.
الحديث.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «عذاب واصب» أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم.
و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل: «إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب» و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.
الحديث.
أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: «إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين:» الحجر: - 18 و سيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك و الجن إن شاء الله تعالى.
و في نهج البلاغة،: ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت و لاطها بالبلة حتى لزبت.
|