بيان
تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم و تكذيبهم بآيات الله و تهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الأولين ضلوا كضلالهم و كذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم و يستشهد بقصص نوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس (عليهما السلام) و ما في الآيات المنقولة إشارة إلى قصة نوح و خلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام).
قوله تعالى: «و لقد ضل قبلهم أكثر الأولين - إلى قوله - المخلصين» كلام مسوق لإنذار مشركي هذه الأمة بتنظيرهم للأمم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء و أرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.
و اللام في «لقد ضل» للقسم و كذا في «لقد أرسلنا» و المنذرين الأول بكسر الذال المعجمة و هم الرسل و الثاني بفتح الذال المعجمة و هم الأمم الأولون، و «إلا عباد الله» إن كان المراد بهم من في الأمم من المخلصين كان استثناء متصلا و إن عم الأنبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الأنبياء عليهم و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون» اللامان للقسم و هو يدل على كمال العناية بنداء نوح و إجابته تعالى، و قد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، و جمع المجيب لإفادة التعظيم و قد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه و استغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى: «و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا:» نوح: - 26، و في قوله تعالى: «فدعا ربه أني مغلوب فانتصر:» القمر: - 10.
قوله تعالى: «و نجيناه و أهله من الكرب العظيم» الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد و المراد به الطوفان أو أذى قومه، و المراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه و قد قال تعالى في سورة هود: «قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول و من آمن:» هود: - 40 و الأهل كما يطلق على زوج الرجل و بنيه يطلق على كل من هو من خاصته.
قوله تعالى: «و جعلنا ذريته هم الباقين» أي الباقين من الناس بعد قرنهم و قد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود.
قوله تعالى: «و تركنا عليه في الآخرين» المراد بالترك الإبقاء و بالآخرين الأمم الغابرة غير الأولين، و قد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) أيضا في هذه السورة و قد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله: «و اجعل لي لسان صدق في الآخرين:» الشعراء: - 84 و استفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته و يدعو إلى ملته و هي دين التوحيد.
فيتأيد بذلك أن المراد بالإبقاء في الآخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح (عليه السلام) إلى التوحيد و مجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر و جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: «سلام على نوح في العالمين» المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، و الظاهر أن المراد به عالمو البشر و أممهم و جماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية ما جرى فيها شيء من الخيرات اعتقادا أو عملا فإنه (عليه السلام) أول من انتهض لدعوة التوحيد و دحض الشرك و ما يتبعه من العمل و قاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، و لا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه.
و قيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة و الثقلين من الجن و الإنس.
قوله تعالى: «إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه و تنجيته و أهله من الكرب العظيم و إبقاء ذريته و تركه عليه في الآخرين و السلام عليه في العالمين، و تشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به (عليه السلام) و هو ظاهر.
قوله تعالى: «إنه من عبادنا المؤمنين» تعليل لإحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة و ذلك لأنه (عليه السلام) لكونه عبدا لله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد و لا يفعل إلا ما يريده الله، و لكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق و سرى ذلك إلى جميع أركان وجوده و من كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين.
قوله تعالى: «ثم أغرقنا الآخرين» ثم للتراخي الكلامي دون الزماني و المراد بالآخرين قومه المشركون.
قوله تعالى: «و إن من شيعته لإبراهيم» الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم و بالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى: «و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل:» سبأ: - 54.
و ظاهر السياق أن ضمير «شيعته» لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه و هو دين التوحيد، و قيل: الضمير لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا دليل عليه من جهة اللفظ.
قيل: و من حسن الإرداف في نظم الآيات تعقيب قصة نوح (عليه السلام) و هو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم (عليه السلام) و هو أبو الأنبياء إليه تنتهي أنساب جل الأنبياء بعده و على دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أيضا نوح (عليه السلام) نجاه الله من الغرق و إبراهيم (عليه السلام) نجاه الله من الحرق.
قوله تعالى: «إذ جاء ربه بقلب سليم» مجيئه ربه كناية عن تصديقه له و إيمانه به، و يؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق و الإيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي و الخفي و مساوىء الأخلاق و آثار المعاصي و أي تعلق بغيره ينجذب إليه الإنسان و يختل به صفاء توجهه إليه سبحانه.
و بذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث و سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.
و قيل: المراد به السالم من الشرك، و يمكن أن يوجه بما يرجع إلى الأول و قيل: المراد به القلب الحزين، و هو كما ترى.
و الظرف في الآية متعلق بقوله سابقا «من شيعته» و الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، و قيل متعلق باذكر المقدر.
قوله تعالى: «إذ قال لأبيه و قومه ما ذا تعبدون» أي أي شيء تعبدون؟ و إنما سألهم عن معبودهم و هو يرى أنهم يعبدون الأصنام تعجبا و استغرابا.
قوله تعالى: «أ إفكا آلهة دون الله تريدون» أي تقصدون آلهة دون الله إفكا و افتراء، إنما قدم الإفك و الآلهة لتعلق عنايته بذلك.
قوله تعالى: «فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم» لا شك أن ظاهر الآيتين أن إخباره (عليه السلام) بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم و مبني عليه و نظرته في النجوم إما لتشخيص الساعة و خصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم و إما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الأوضاع الفلكية تدل عليها، و قد كان الصابئون مبالغين فيها و كان في عهده (عليه السلام) منهم جم غفير.
فعلى الوجه الأول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم و أخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم.
و على الوجه الثاني نظر (عليه السلام) حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم.
و أول الوجهين أنسب لحاله (عليه السلام) و هو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، و لا دليل لنا قويا يدل على أنه (عليه السلام) لم يكن به في تلك الأيام سقم أصلا، و قد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم و ذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب و لا لغو من القول.
و لهم في الآيتين وجوه أخر أوجهها أن نظرته في النجوم و إخباره بالسقم من المعاريض في الكلام و المعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره و يفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر (عليه السلام) في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى و على وحدانيته و هم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الإنسان لا يخلو في حياته من سقم ما و مرض ما كما قال: «و إذا مرضت فهو يشفين:» الشعراء: - 80 و هم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، و المرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم و كسرها.
لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، و قد سمعت أن لا دليل يدل عليه.
على أن المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.
قوله تعالى: «فتولوا عنه مدبرين» ضمير الجمع للقوم و ضمير الإفراد لإبراهيم (عليه السلام) أي خرجوا من المدينة و خلفوه.
قوله تعالى: «فراغ إلى آلهتهم فقال أ لا تأكلون ما لكم لا تنطقون» الروغ و الرواغ و الروغان الحياد و الميل، و قيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده.
و في قوله: «أ لا تأكلون»؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم.
و قوله: «أ لا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون»؟ تكليم منه لآلهتهم و هي جماد و هو يعلم أنها جماد لا تأكل و لا تنطق لكن الوجد و شدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين.
فنظر إليها و هي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى و يأكل و عندها شيء من الطعام فامتلأ غيظا و جاش وجدا فقال: أ لا تأكلون؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: «ما لكم لا تنطقون»؟ و أنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لأمورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين.
قوله تعالى: «فراغ عليهم ضربا باليمين» أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.
و قول بعضهم: إن المراد باليمين القسم و المعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه و هو قوله: «تالله لأكيدن أصنامكم:» الأنبياء: - 57 بعيد.
قوله تعالى: «فأقبلوا إليه يزفون» الزف و الزفيف الإسراع في المشي أي فجاءوا إلى إبراهيم و الحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها.
و في الكلام إيجاز و حذف من خبر رجوعهم إلى المدينة و وقوفهم على ما فعل بالأصنام و تحقيقهم الأمر و ظنهم به (عليه السلام) مذكور في سورة الأنبياء.
قوله تعالى: «قال أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون» فيه إيجاز و حذف من حديث القبض عليه و الإتيان به على أعين الناس و مسألته و غيرها.
و الاستفهام للتوبيخ و فيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإنسان بيده أن يكون ربا للإنسان معبودا له و الله سبحانه خلق الإنسان و ما يعمله و الخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإنسان و من السفه أن يترك هذا و يعبد ذاك.
و قد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: «ما تنحتون» موصولة و التقدير ما تنحتونه، و كذا في قوله: «و ما تعملون» و جوز بعضهم كون «ما» فيها مصدرية و هو في أولهما بعيد جدا.
و لا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإنسان و يعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإنسان و اختياره و لا يوجب هذا النوع من تعلق الإرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإنسان و خروج الفعل عن الاختيار و صيرورته مجبرا عليه، و هو ظاهر.
و لو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم و أفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا و تقبيحا، و كانت الحجة لهم لا عليهم.
قوله تعالى: «قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» البنيان مصدر بنى يبني و المراد به المبني، و الجحيم النار في شدة تأججها.
قوله تعالى: «فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين» الكيد الحيلة و المراد احتيالهم إلى إهلاكه و إحراقه بالنار.
و قوله: «فجعلناهم الأسفلين» كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم شيئا إذ قال سبحانه: «يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم:» الأنبياء: - 69.
و قد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم (عليه السلام) و هو انتهاضه أولا على عبادة الأوثان و اختصامه لعبادها و انتهاء أمره إلى إلقائه النار و إبطاله تعالى كيدهم.
قوله تعالى: «و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين» فصل آخر من قصصه (عليه السلام) يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه و استيهابه من الله ولدا صالحا و إجابته إلى ذلك و قصة ذبحه و نزول الفداء.
فقوله: «و قال إني ذاهب إلى ربي» إلخ كالإنجاز لما وعدهم به مخاطبا لآزر: «و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا:» مريم: - 48 و منه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى و دعائه و هو الأرض المقدسة.
و قول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه.
و كذا قول بعضهم: إن المراد أني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت و ألقى ربي سيهديني إلى الجنة.
و فيه - كما قيل - إن ذيل الآية لا يناسبه و هو قوله: «رب هب لي من الصالحين» و كذا قوله بعده: «فبشرناه بغلام حليم».
قوله تعالى: «رب هب لي من الصالحين» حكاية دعاء إبراهيم (عليه السلام) و مسألته الولد أي قال: رب هب لي «إلخ» و قد قيده بكونه من الصالحين.
قوله تعالى: «فبشرناه بغلام حليم» أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما و فيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا و يبلغ حد الغلمان، و أخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله و صفاء ذاته و هو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين».
و لم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية و أبوه في قوله تعالى: «إن إبراهيم لحليم أواه منيب:» هود: - 75.
قوله تعالى: «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى» إلخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف و التقدير فلما ولد له و نشأ و بلغ معه السعي، و المراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة و هو سن الرهاق، و المعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني «إلخ».
و قوله: «قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك» هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، و قوله: «إني أرى» يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله: «و قال الملك إني أرى» إلخ: يوسف: - 33.
و قوله: «فانظر ما ذا ترى» هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت و عين ما هو رأيك فيه، و هذه الجملة دليل على أن إبراهيم (عليه السلام) فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر و لذا طلب من ابنه الرأي فيه و هو يختبره بما ذا يجيبه؟.
و قوله: «قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» جواب ابنه، و قوله: «يا أبت افعل ما تؤمر» إظهار رضا بالذبح في صورة الأمر و قد قال: افعل ما تؤمر و لم يقل اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره و طاعته.
و قوله: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه و لا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، و قد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: «إن شاء الله» فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه و لا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله و مننه إن يشأ تلبس به و له أن لا يشاء فينزعه منه.
قوله تعالى: «فلما أسلما و تله للجبين» الإسلام الرضا و الاستسلام: و التل الصرع و الجبين أحد جانبي الجبهة و اللام في «للجبين» لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله: «يخرون للأذقان سجدا:» الإسراء: - 107، و المعنى فلما استسلما إبراهيم و ابنه لأمر الله و رضيا به و صرعه إبراهيم على جبينه.
و جواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة و مرارة الواقعة.
قوله تعالى: «و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» معطوف على جواب لما المحذوف، و قوله: «قد صدقت الرؤيا» أي أوردتها مورد الصدق و جعلتها صادقة و امتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل و إشرافه عليه فحسب.
قوله تعالى: «إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين» الإشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة و ابتلاء شديد و الإشارة بهذا إليها أيضا و هو تعليل لشدة الأمر.
و المعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا و الآخرة، و ذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين.
قوله تعالى: «و فديناه بذبح عظيم» أي و فدينا ابنه بذبح عظيم و كان كبشا أتى به جبرئيل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار، و المراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه و هو الذي فدى به الذبيح.
قوله تعالى: «و تركنا عليه في الآخرين» تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: «سلام على إبراهيم» تحية منه تعالى عليه، و في تنكير سلام تفخيم له.
قوله تعالى: «كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين» تقدم تفسير الآيتين.
قوله تعالى: «و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» الضمير لإبراهيم (عليه السلام).
و اعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: «فبشرناه بغلام حليم» المتعقبة بقوله: «فلما بلغ معه السعي» إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق و هو إسماعيل (عليه السلام) و قد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم (عليه السلام) من سورة الأنعام.
قوله تعالى: «و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين» المباركة على شيء جعل الخير و النماء و الثبات فيه أي و جعلنا فيما أعطينا إبراهيم و إسحاق الخير الثابت و النماء.
و يمكن أن يكون قوله: «و من ذريتهما» إلخ قرينة على أن المراد بقوله: «باركنا» إعطاء البركة و الكثرة في أولاده و أولاد إسحاق، و الباقي ظاهر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «بقلب سليم» قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز و جل و ليس فيه أحد سواه.
و فيه، قال: القلب السليم من الشك.
و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال أبو جعفر (عليه السلام): عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله ما كان سقيما و ما كذب.
أقول: و في معناه روايات أخر و في بعضها: ما كان إبراهيم سقيما و ما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا.
و قد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم (عليه السلام) قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء.
و في التوحيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله عز و جل تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله. من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام): «إني ذاهب إلى ربي سيهدين» فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى الله عز و جل أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله؟.
و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: يا فتح إن لله إرادتين و مشيئتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو لا يشاء أ و ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز و جل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك.
و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا علي بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: الذبيح إسماعيل (عليه السلام): أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و بهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق و هو مطروح لمخالفة الكتاب.
و عن الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: «و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين.
أقول: هذا ما تقدم في بيان الآية أن الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.
و في المجمع، عن ابن إسحاق: أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة و يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن 1 يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل و المدية 2 ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب و اكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فتراه أمي و اشحذ شفرتك و أسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. ثم ساق القصة و فيها ثم انحنى إليه بالمدية و قلب جبرئيل المدية على قفاها و اجتر الكبش من قبل ثبير و اجتر الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
أقول: و الروايات في القصة كثيرة و لا تخلو من اختلاف.
و فيه،: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاق (عليه السلام)؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل و هي أول بشارة بشر الله به إبراهيم (عليه السلام) في الولد.
|