بيان
بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، و الإشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول و أن كتابه ذكر و قرآن و ليس بشاعر و لا كتابه بشعر، و الإشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، و الاحتجاج على الميعاد.
قوله تعالى: «و لو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون» قال في مجمع البيان،: الطمس محو الشيء حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب و مثله الطمس على المال و هو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، و أعمى مطموس و طميس و هو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى.
فقوله: «و لو نشاء لطمسنا على أعينهم» أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم و بطل أبصارهم.
و قوله: «فاستبقوا الصراط» أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطىء قاصده و لا يظل سالكه فلم يبصروه و لن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: «فأنى يبصرون» كناية عن الامتناع.
و قول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق و عدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: «و لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا و لا يرجعون» قال في المجمع،: و المسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة و خنازير و قال: و المكانة و المكان واحد.
انتهى.
و المراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم و هم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج و تكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة.
و قوله: «فما استطاعوا مضيا و لا يرجعون» أي مضيا في العذاب و لا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب و المسخ فالمضي و الرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة و البقاء على حال العذاب و المسخ.
و قيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم و رجوعهم إلى منازلهم و أهليهم و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: «و من نعمره ننكسه في الخلق أ فلا يعقلون» التعمير التطويل في العمر، و التنكيس تقليب الشيء بحيث يعود أعلاه أسفله و يتبدل قوته ضعفا و زيادته نقصا و الإنسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا و علمه جهلا و ذكره نسيانا.
و الآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين و المراد أن الذي ينكس خلق الإنسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم و على أن يمسخهم على مكانتهم.
و في قوله: «أ فلا يعقلون» توبيخهم على عدم التعقل و حثهم على التدبر في هذه الأمور و الاعتبار بها.
قوله تعالى: «و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين عطف و رجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كون كتابه تنزيلا من عنده تعالى.
فقوله: «و ما علمناه الشعر» نفى أن يكون علمه الشعر و لازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه و يمتنع من قوله للنهي من الله متوجه إليه، و لا أن النازل من القرآن ليس بشعر و إن أمكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله.
و به يظهر أن قوله: «و ما ينبغي له» في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل و المحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه و لا أنه تعجيز له بل لرفع درجته و تنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، و تنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول الشعر و هو رسول من الله و آية رسالته و متن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر و قرآن مبين.
و قوله: «إن هو إلا ذكر و قرآن مبين» تفسير و توضيح لقوله: «و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له» بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من قوله: «إن هو إلا ذكر» إلخ من قصر القلب و المعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر و قرآن مبين.
و معنى كونه ذكرا و قرآنا أنه ذكر مقروء من الله ظاهر ذلك.
قوله تعالى: «لينذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين» تعليل متعلق بقوله: «و ما علمناه الشعر» و المعنى و لم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا «إلخ» أو متعلق بقوله: «إن هو إلا ذكر» إلخ و المعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا و قرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا «إلخ» و مآل الوجهين واحد.
و الآية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول و إنزال القرآن إنذار من كان حيا - و هو كناية عن كونه يعقل الحق و يسمعه - و حقيقة القول و وجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «أ و لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون» ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى و تدبيره للعالم الإنساني و هي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحب و الثمرات و تفجير العيون.
و المراد بكون الأنعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها و اختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص.
و قوله: «فهم لها مالكون» تفريع على قوله: «خلقنا لهم» فإن المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإنسان و لازمه اختصاصها به و ينتهي الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: «فهم لها مالكون» على قوله: «خلقنا لهم» خفاء، و الظاهر تفرعها على مقدر و التقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، و أنت خبير بعدم خفاء تفرعها على «خلقنا لهم» و عدم الحاجة إلى تقدير.
و قيل: الملك بمعنى القدرة و القهر، و فيه أنه مفهوم من قوله بعد: «و ذللناها لهم» و التأسيس خير من التأكيد.
قوله تعالى: «و ذللناها لهم فمنها ركوبهم و منها يأكلون» تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية و هو تسخيرها لهم، و الركوب بفتح الراء الحمولة كالإبل و البقر، و قوله: «و منها يأكلون» أي من لحمها يأكلون.
قوله تعالى: «و لهم فيها منافع و مشارب أ فلا يشكرون» المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و المشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - و المراد بها الألبان، و الكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: «و ما عملته أيديهم أ فلا يشكرون».
و معنى الآيات الثلاث: أ و لم يعلموا أنا خلقنا لأجلهم و لتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الإبل و البقر و الغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، و ذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، و منها أي من لحومها يأكلون، و لهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها و أوبارها و جلودها و مشروبات من ألبانها يشربونها أ فلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذي يكشف عن ربوبيته لهم؟ أ و لا يعبدونه شكرا لأنعمه؟.
قوله تعالى: «و اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون» ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين و فراعنة البشر دون الملائكة المقربين و الأولياء من الإنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: «و هم لهم جند محضرون» لذلك.
و إنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لأن عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.
قوله تعالى: «لا يستطيعون نصرهم و هم لهم جند محضرون» أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئا من خير أو شر.
و قوله: «و هم لهم جند محضرون» الظاهر أن أول الضميرين للمشركين و ثانيهما للآلهة من دون الله و المراد أن المشركين جند للآلهة و ذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية و الملازمة و المشركون هم المعدودون أتباعا لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس.
و المراد بالإحضار في قوله: «محضرون» الإحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى: «و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا و لقد علمت الجنة إنهم لمحضرون:» الصافات: - 158 و قال: «و لو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين:» الصافات: - 57.
و محصل المعنى لا يستطيع الآلهة المتخذون نصر المشركين و هم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.
و أما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لآلهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو إن المعنى و هم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لإقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.
قوله تعالى: «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون» الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا و أنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم و ما يعلنون، و في تركيب الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.
قوله تعالى: «أ و لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين» رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث و الاحتجاج عليه إثر إنكارهم، و لا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: «فلا يحزنك قولهم» إلخ و المراد بالرؤية العلم القطعي أي أ و لم يعلم الإنسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، و تنكير نطفة للتحقير و الخصيم المصر على خصومته و جداله.
و الاستفهام للتعجب و المعنى من العجيب أن الإنسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجئه أنه خصيم مجادل مبين.
قوله تعالى: «و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم» الرميم البالي من العظام، و «نسي خلقه» حال من فاعل ضرب، و قوله: «قال من يحيي العظام و هي رميم» بيان للمثل الذي ضربه الإنسان، و لذلك جيء به مفصولا من غير عطف لأن الكلام في معنى أن يقال: فما ذا ضرب مثلا؟ فقيل قال من يحيي العظام و هي رميم.
و المعنى و ضرب الإنسان لنا مثلا و قد نسي خلقه من نطفة لأول مرة، و لو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه و هو قوله: «من يحيي العظام و هي بالية؟» لأنه كان يرد على نفسه و يجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الأول كما لقنه الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) جوابا عنه.
قوله تعالى: «قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم» تلقين الجواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
الإنشاء هو الإيجاد الابتدائي و تقييده بقوله ««أول مرة» للتأكيد، و قوله: «و هو بكل خلق عليم» إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى و لا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأول مرة و هو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت و بعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الإمكان لثبوت القدرة و انتفاء الجهل و النسيان.
قوله تعالى: «الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون» بيان لقوله: «الذي أنشأها أول مرة» و الإيقاد إشعال النار.
و الآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشيء الموات شيئا ذا حياة و الحياة و الموت متنافيان و الجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون و تشعلون النار، و المراد به على المشهور بين المفسرين شجر 1 المرخ و العفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل و يجعل المرخ زندا أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء و هما متضادان.
قوله تعالى: «أ و ليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى و هو الخلاق العليم» الاستفهام للإنكار و الآية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله: «قل يحييها الذي أنشأها أول مرة» إلخ.
ببيان أقرب إلى الذهن و ذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات و الأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان كما قال تعالى: «لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس:» المؤمن: - 57.
فالآية في معنى قولنا: و كيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات و الأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة و عجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للألباب و العالم الإنساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى و إنه خلاق عليم.
و المراد بمثلهم قيل: هم و أمثالهم و فيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة و العرف.
و قيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، و فيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم و المشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه.
و قيل: ضمير «مثلهم» للسماوات و الأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.
و فيه أن المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض.
على أن الكلام في الإعادة و خلق مثل الشيء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.
فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان،.
بيانه أن الإنسان مركب من نفس و بدن، و البدن في هذه النشأة في معرض التحلل و التبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الآن السابق بشخصه و شخصية الإنسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة و التغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت و الفساد.
و المتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن و أنها محفوظة حتى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:» الم السجدة: - 11.
فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأن الشخصية بالنفس و هي واحدة بعينها.
و لما كان استبعاد المشركين في قولهم: «من يحيي العظام و هي رميم» راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم و أما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس و الأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديدا، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: «أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى:» الأحقاف - 33 فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى و لم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.
قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» الآية من غرر الآيات القرآنية تصف كلمة الإيجاد و تبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شيء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه.
و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون:» النحل: - 40، و قال: «و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون:» البقرة: - 117.
فقوله: «إنما أمره» الظاهر أن المراد بالأمر الشأن، و قوله في آية النحل المنقولة آنفا: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه» إن كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول و هو الأمر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الآيات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الإلهي عند إرادة خلق شيء من الأشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شيء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنه جيء به لكونه مصداقا للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي.
و قوله: «إذا أراد شيئا» أي إذا أراد إيجاد شيء كما يعطيه سياق الآية و قد ورد في عدة من الآيات القضاء مكان الإرادة كقوله: «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 1» و لا ضير فالقضاء هو الحكم و القضاء و الحكم و الإرادة من الله شيء واحد و هو كون 2 الشيء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الإرادة.
و قوله: «أن يقول له كن» خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن و من المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به و إلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر و هلم جرا فيتسلسل و لا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لأدائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإفاضته تعالى وجود الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته المتعالية و من غير تخلف و لا مهل.
و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن و إليه ذهب معظم السلف و شئون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام و الخصام.
انتهى.
و ذلك أن ما ذكره من كون شئونه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شيء آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أولا فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و من المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه و الشيء الذي يوجد لا ثالث بينهما و إسناد العلية و السببية إلى - إرادته دونه تعالى و الإرادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدس.
و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا و وجودا ثم يتصل بالشيء فيصير به موجودا و هو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشيء فحسب.
و من هنا يظهر أن كلمة الإيجاد و هي كلمة كن هي وجود الشيء الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به و أما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد و مخلوق لا خلق.
و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة و لا يتحمل تبدلا و لا تغيرا، و لا يتلبس بتدريج و ما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه و هذا باب ينفتح منه ألف باب.
و في الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: «كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون:» آل عمران: - 59، و قوله تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر:» القمر: 50، و قوله تعالى: «و كان أمر الله قدرا مقدورا:» الأحزاب: - 38 إلى غير ذلك.
و قوله في آخر الآية: «فيكون» بيان لطاعة الشيء المراد له تعالى و امتثاله لأمر «كن» و لبسه الوجود.
قوله تعالى: «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء و إليه ترجعون» الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت و الرهبوت في معنى الرحمة و الرهبة.
و انضمام الآية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الأشياء، و بالملك الجهة التالية للخلق أو الأعم الشامل للوجهين.
و عليه يحمل قوله تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين:» الأنعام: - 75.
و قوله: «أ و لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض:» الأعراف: - 185: و قوله: «قل من بيده ملكوت كل شيء:» المؤمنون: - 88.
و جعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره.
و مآل المعنى قوله: «فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء» تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شيء بيده و في قبضته.
و قوله: «و إليه ترجعون» خطاب لعامة الناس من مؤمن و مشرك، و بيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له» الآية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: «و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له - إن هو إلا ذكر و قرآن مبين» و لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا قط.
و في المجمع، روي عن الحسن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا و أشهد أنك رسول الله و ما علمك الله الشعر و ما ينبغي لك.
و فيه، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمثل ببيت أخي بني قيس: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا. و يأتيك بالأخبار من لم تزود. فجعل يقول: و يأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر و لا ينبغي لي:. أقول: و روي في الدر المنثور، الخبرين عن الحسن و عائشة كما رواه و روي في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قال في المجمع، فأما قوله: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، و قال آخرون: إنما هو اتفاق منه و ليس يقصد إلى شعر انتهى.
و البيت منقول عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أكثروا من البحث فيه و طرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه.
و فيه،: في قوله تعالى: «لينذر من كان حيا» الآية و يجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا: و روي ذلك عن علي (عليه السلام).
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «و اتخذوا من دون الله إلى قوله محضرون» يقول: لا تستطيع الآلهة لهم نصرا و هم للآلهة جند محضرون.
و عن تفسير العياشي، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما و رفاتا أ إنا لمبعثون خلقا؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام و هي رميم - قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم:. أقول: و روي مثله في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن ابن عباس و عروة بن الزبير و عن قتادة و السدي و عكرمة و روي أيضا عن ابن عباس: أن القائل هو العاص بن وائل و بطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي.
و في الإحتجاج،: في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): قال السائل: أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء و تنفى فلا حس و لا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها و ذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق و ذلك بين النفختين. قال: و أنى له بالبعث و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها و عضو بأخرى تمزقه هوامها و عضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الذي أنشأه من غير شيء و صوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه. قال: أوضح لي ذلك. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق و ظلمة و البدن يصير ترابا كما منه خلق و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها فما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض و يعلم عدد الأشياء و وزنها و إن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها و يلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.
و في نهج البلاغة،: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع و لا نداء يسمع و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا.
و فيه،: يقول و لا يلفظ و يريد و لا يضمر.
و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال:. قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق. فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.
أقول: و الروايات عنهم (عليهم السلام) في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.
|