بيان
حكاية استهزائهم بآيات الله و بعض أقاويلهم المبنية على الكفر و إنكار المعاد و الرد عليهم بتقرير أمر البعث و ما يجري عليهم فيه من الشدة و ألوان العذاب و ما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة و الكرامة.
و فيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، و ذكر محادثة بين أهل الجنة و أخرى بين بعضهم و بعض أهل النار.
قوله تعالى: «بل عجبت و يسخرون و إذا ذكروا لا يذكرون» أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، و هم يسخرون و يهزءون من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، و إذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد و دين الحق لا يذكرون و لا يتنبهون.
قوله تعالى: «و إذا رأوا آية يستسخرون» في مجمع البيان،: سخر و استسخر بمعنى واحد.
انتهى.
و المعنى: و إذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن و شق القمر يستهزءون بها.
قوله تعالى: «و قالوا إن هذا إلا سحر مبين» في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شيء ما من غير زيادة و هو من أقوى الإهانة و الاستسخار.
قوله تعالى: «أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون» إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه و يعود ترابا و عظاما ثم يعود إلى صورته الأولى.
و من الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم و قد انمحت رسومهم و لم يبق منهم إلا أحاديث أشد و أقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم.
و لو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم و في آبائهم على نهج واحد و لم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم.
قوله تعالى: «قل نعم و أنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون» أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون.
و قوله: «و أنتم داخرون» أي صاغرون مهانون أذلاء، و هذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة و نفوذ الإرادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و لذا عقبه بقوله: «فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون» و قد قال تعالى: «و لله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير:» النحل - 77.
و قوله: «فإنما هي زجرة واحدة» إلخ الفاء لإفادة التعليل و الجملة تعليل لقوله: «و أنتم داخرون» و في التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم.
قوله تعالى: «و قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون» معطوف على قوله: «ينظرون» المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين و الجزاء و هم يحذرون منه بما كفروا و كذبوا و لذا قالوا: يوم الدين، و لم يقولوا يوم البعث، و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع.
و قوله: «هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون» قيل هو كلام بعضهم لبعض و قيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، و يؤيده الآية التالية، و الفصل هو التمييز بين الشيئين و سمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق و الباطل بقضائه و حكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين و المتقين قال تعالى: «و امتازوا اليوم أيها المجرمون:» يس: - 59.
قوله تعالى: «احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم» من كلامه تعالى للملائكة و المعنى و قلنا للملائكة: احشروهم و قيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.
و الحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.
و المراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون و لا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:» الأعراف: - 44 45، و التعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما و لو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، و في كلامه تعالى من ذلك شيء كثير كقوله تعالى: «و سيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا:» الزمر: - 73: «و قوله و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا:» الزمر: - 71 و قوله: «للذين أحسنوا الحسنى و زيادة:» يونس - 26.
و قوله: «و أزواجهم» الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: «و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين:» الزخرف: - 38.
و قيل: المراد بالأزواج الأشباه و النظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا و أصحاب الخمر مع أصحاب الخمر و هكذا.
و فيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية و اللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه.
و قيل: المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات و هو ضعيف كسابقه.
و قوله: «و ما كانوا يعبدون من دون الله» الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة «ما» فالآية نظيرة قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم:» الأنبياء: - 98.
و يمكن أن يكون المراد بلفظة «ما» ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة و النماردة، و أما الملائكة المعبودون و المسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون:» الأنبياء: - 101.
و قوله: «فاهدوهم إلى صراط الجحيم» الجحيم من أسماء جهنم في القرآن و هو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب.
و المراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه و إيقاعهم فيه بالسوق، و قيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، و قال في مجمع البيان،: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: «فبشرهم بعذاب أليم» من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم.
انتهى.
قوله تعالى: «و قفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون» قال في المجمع، يقال: وقفت أنا و وقفت غيري - أي يعدى و لا يعدى - و بعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة و الدار.
انتهى.
فقوله: «و قفوهم إنهم مسئولون» أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم.
و السياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف و السؤال إنما يقع في صراط الجحيم.
و اختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، و قيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، و قيل: عن ولاية علي (عليه السلام).
و هذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه و السياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: «ما لكم لا تناصرون» أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم و مقاصدكم، و ما يتلوه من قوله: «بل هم اليوم مستسلمون» أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: «ما لكم لا تناصرون» السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا.
فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر.
قوله تعالى: «و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - إنا كنا غاوين» تخاصم واقع بين الأتباع و المتبوعين يوم القيامة، و التعبير عنه بالتساؤل لأنه في معنى سؤال بعضهم بعضا تلاوما و تعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا و لا سلطان لنا عليكم؟.
فقوله: «و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون» البعض الأول هم المعترضون و البعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل و تساؤلهم تخاصمهم.
و قوله: «قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين» أي من جهة الخير و السعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: «و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين:» الواقعة: - 27 و المعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير و السعادة فتقطعون الطريق و تحولون بيننا و بين الخير و السعادة و تضلوننا.
و قيل: المراد باليمين الدين و هو قريب من الوجه السابق، و قيل: المراد باليمين القهر و القوة كما في قوله تعالى: «فراغ عليهم ضربا باليمين:» الصافات: - 93 و لا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين.
و قوله: «قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان - إلى قوله - غاوين» جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين و أن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم.
فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لإجرامكم و هلاككم بخلوكم عن الإيمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الإيمان.
ثم قالوا: «و ما كان لنا عليكم من سلطان» و هو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: و لو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم و نجردكم منه.
على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة و القوة فيتسلطون عليهم أنفسهم.
ثم قالوا: «بل كنتم قوما طاغين» و الطغيان هو التجاوز عن الحد و هو إضراب عن قوله: «لم تكونوا مؤمنين» كأنه قيل: و لم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الإيمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد و اتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى: «إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا:» النبأ: - 22 و قال: «فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى:» النازعات: - 39.
و لهذا المعنى عقب قوله: «بل كنتم قوما طاغين» بقوله: «فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون» أي لذائقون العذاب.
ثم قالوا: «فأغويناكم إنا كنا غاوين» و هو متفرع على ثبوت كلمة العذاب و آخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لإبليس «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:» الحجر: - 43.
فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا و اتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة و هي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية و الإناء لا يترشح منه إلا ما فيه، و بالجملة إنكم لم تجبروا و لم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته و هي الغواية فحق عليكم القول.
قوله تعالى: «فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - إلى قوله - يستكبرون» ضمير «فإنهم» للتابعين و المتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم و تعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض.
و استظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا و ذلك في مقابلة أوزارهم و أوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة و الحق أن الآيات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم و الجرم و العذاب اللاحق بهم من قبله، و يمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين و التابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم:» العنكبوت: - 13، و قال: «ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون:» الأعراف: - 38.
و قوله: «إنا كذلك نفعل بالمجرمين» تأكيد لتحقيق العذاب، و المراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: «إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون» أي إذا عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الإخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم و لم يقبلوا.
قوله تعالى: «و يقولون أ إنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق و صدق المرسلين» قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد و إنكارهم له.
و قوله: «بل جاء بالحق و صدق المرسلين» رد لقولهم: «لشاعر مجنون» حيث رموه (عليه السلام) بالشعر و الجنون و فيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا و من هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق و فيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر و هفوة الجنون و ليس ببدع غير مسبوق في معناه.
قوله تعالى: «إنكم لذائقوا العذاب الأليم» تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم و رميهم الحق بالباطل.
قوله تعالى: «و ما تجزون إلا ما كنتم تعملون» أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم.
قوله تعالى: «إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون» استثناء منقطع من ضمير «لذائقوا» أو من ضمير «ما تجزون» و لكل وجه و المعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم و ليسوا بذائقي العذاب الأليم و المعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم و سيجيء الإشارة إلى معناه.
و احتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.
و قد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه و العبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة و لا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يعملون إلا له.
ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا و لا من نعم العقبى و ليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.
و من المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه و تنعمه غير ما يلتذ و يتنعم غيره و ارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه و إن شاركهم في ضروريات المأكل و المشرب و من هنا يتأيد أن المراد بقوله: «أولئك لهم رزق معلوم» الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة - و هم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم و لا يختلط بما يتمتع به من دونهم و إن اشتركا في الاسم.
فقوله: «أولئك لهم رزق معلوم» أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله: «و ما منا إلا له مقام معلوم:» الصافات: - 164 و الإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم.
و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع و لا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله: «و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا:» مريم: - 62 و كذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة.
و من هنا يظهر أن أخذ قوله: «إلا عباد الله المخلصين» استثناء من ضمير «و ما تجزون» لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه.
و قوله: «فواكه و هم مكرمون في جنات النعيم» الفواكه جمع فاكهة و هي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: «و هم مكرمون» للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه و كونه لهم لا يشاركهم فيه شيء.
و في إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله: «فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم» الآية: النساء: - 69، و قوله: «و أتممت عليكم نعمتي:» المائدة: - 3 و غيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية و هي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده.
و قوله: «على سرر متقابلين» السرر جمع سرير و هو معروف و كونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض.
و قوله: «يطاف عليهم بكأس من معين» الكأس إناء الشراب و نقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا و فيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر و جرى على وجه الأرض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها و لذا عقبه بقوله: «بيضاء».
و قوله: «بيضاء لذة للشاربين» أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل.
و قوله: «لا فيها غول و لا هم عنها ينزفون» الغول الإضرار و الإفساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به انتهى.
فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الإنزاف فسر بالسكر المذهب للعقل و أصله إذهاب الشيء تدريجا.
و محصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا و لا إسكارها بإذهاب العقل.
و قوله: «و عندهم قاصرات الطرف عين» وصف للحور التي يرزقونها و قصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج و الدلال و يؤيده ذكر العين بعده و هو جمع عيناء مؤنث أعين و هي الواسعة العين في جمال.
و قيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، و بالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها.
و قوله: «كأنهن بيض مكنون» البيض معروف و هو اسم جنس واحدته بيضة و المكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي و لم يصبه الغبار، و قيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر و قبل أن تمسه الأيدي.
قوله تعالى: «فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - فليعمل العاملون» حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض و يحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا و تنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار و هو في سواء الجحيم.
فقوله: «فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله المخلصين و تساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض و ما جرى عليه.
و قوله: «قال قائل منهم إني كان لي قرين» أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس.
كذا يعطي السياق.
و قيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين و فيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله و المخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين و كذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين:» ص: - 83 نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين.
و قوله: «يقول أ إنك لمن المصدقين أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمدينون» ضمير «يقول» للقرين، و مفعول «المصدقين» البعث للجزاء و قد قام مقامه قوله: «أ إذا متنا» إلخ و المدينون المجزيون.
و المعنى: كأن يقول لي قريني مستبعدا منكرا أ إنك لمن المصدقين للبعث للجزاء أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما فتلاشت أبداننا و تغيرت صورها أ إنا لمجزيون بالإحياء و الإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق.
و قوله: «قال هل أنتم مطلعون» ضمير «قال» للقائل المذكور قبلا، و الاطلاع الإشراف و المعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني و الحال التي هو فيها؟.
و قوله: «فاطلع فرآه في سواء الجحيم» السواء الوسط و منه سواء الطريق أي وسطه و المعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم.
و قوله: «قال تالله إن كدت لتردين» «إن» مخففة من الثقيلة، و الإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق و يكنى به عن الهلاك و المعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني و تسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.
و قوله: «و لو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين» المراد بالنعمة التوفيق و الهداية الإلهية، و الإحضار الإشخاص للعذاب قال في مجمع البيان،: و لا يستعمل «أحضر» مطلقا إلا في الشر.
و المعنى و لو لا توفيق ربي و هدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك.
و قوله: «أ فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين» الاستفهام للتقرير و التعجيب، و المراد بالموتة الأولى هي الموتة عن الحياة الدنيا و أما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله: «ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين:» المؤمن: - 11 فلم يعبأ بها لأن الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء و البطلان هو الموت الدنيوي.
و المعنى - على ما في الكلام من الحذف و الإيجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه و أصحابه فيقول متعجبا أ نحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الأولى و ما نحن بمعذبين؟.
قال في مجمع البيان،: و يريدون به التحقيق لا الشك و إنما قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا و فرحا مضاعفا و إن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة و هذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي؟ و هو يعلم أن ذلك له و هذا كقوله: أ بطحاء مكة هذا الذي.
أراه عيانا و هذا أنا؟.
قال: و لهذا عقبه بقوله: «إن هذا لهو الفوز العظيم» انتهى.
و قوله: «إن هذا لهو الفوز العظيم» هو من تمام قول القائل المذكور و فيه إعظام لموهبة الخلود و ارتفاع العذاب و شكر للنعمة.
و قوله: «لمثل هذا فليعمل العاملون» ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور و الإشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، و قيل: هو من قول الله سبحانه و قيل: من قول أهل الجنة.
و اعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور و الذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.
قوله تعالى: «أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - إلى قوله - يهرعون» مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لأهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم و بين ما أعده نزلا لأهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين و شراب من حميم.
فقوله: «أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم» الإشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة و النزل بضمتين ما يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه و نحوها.
و الزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة و البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الآية من الأوصاف، و قيل: إن قريشا ما كانت تعرفه و سيأتي ذلك في البحث الروائي.
و لفظة خير في الآية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: «ما عند الله خير من اللهو:» الجمعة: - 11 و الآية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى.
و قوله: «إنا جعلناها فتنة للظالمين» الضمير لشجرة الزقوم، و الفتنة المحنة و العذاب.
و قوله: «إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم» وصف لشجرة الزقوم، و أصل الجحيم قعرها، و لا عجب في نبات شجرة في النار و بقائها فيها فحياة الإنسان و بقاؤه خالدا فيها أعجب و الله يفعل ما يشاء.
و قوله: «طلعها كأنه رءوس الشياطين» الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، و تشبيه ثمرة الزقوم برءوس الشياطين بعناية أن الأوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة و أجملها قال تعالى: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم:» يوسف: - 31، و بذلك يندفع ما قيل: إن الشيء إنما يشبه بما يعرف و لا معرفة لأحد برءوس الشياطين.
و قوله: «فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون» الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، و في قوله: «فمالئون منها البطون» إشارة إلى تسلط جوع شديد عليهم يحرصون به على الأكل كيفما كان.
و قوله: «ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم» الشوب المزيج و الخليط، و الحميم الماء الحار البالغ في حرارته، و المعنى ثم إن لأولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملئوا منه البطون من الزقوم.
و قوله: «ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم» أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها و يعذبون، و في الآية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم.
و قوله: «إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون» ألفيت كذا أي وجدته و صادفته، و الإهراع الإسراع و المعنى أن سبب أكلهم و شربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين - و هم مقلدون و أتباع لهم و هم أصلهم و مرجعهم - فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك و الرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: «بل عجبت» قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عجبت بالقرآن حين أنزل و يسخر منه ضلال بني آدم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «احشروا الذين ظلموا» قال: الذين ظلموا آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقهم «و أزواجهم» قال: أشباههم.
أقول: صدر الرواية من الجري.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و قفوهم إنهم مسئولون» قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري:. أقول: و رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في العيون، عن علي و عن الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في تفسير القمي، عن الإمام (عليه السلام).
و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و شبابه فيما أبلاه، و عن ماله من أين كسبه و فيما أنفقه، و عن حبنا أهل البيت:. أقول: و روي في العلل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.
و في نهج البلاغة،: اتقوا الله في عباده و بلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع و البهائم.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تأريخه و الترمذي و الدارمي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه و إن دعا رجل رجلا ثم قرأ «و قفوهم إنهم مسئولون».
و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: و أما قوله: «أولئك لهم رزق معلوم» قال: يعلمه 1 الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: «فواكه و هم مكرمون» قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): «فاطلع فرآه في سواء الجحيم» يقول: في وسط الجحيم.
و فيه،: في قوله تعالى: «أ فما نحن بميتين»: إلخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار و الحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار جيء بالموت و يذبح كالكبش بين الجنة و النار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: «أ فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين - إن هذا لهو الفوز العظيم - لمثل هذا فليعمل العاملون».
أقول: و حديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة و أهل السنة، و هو تمثل الخلود يومئذ.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «شجرة الزقوم» روي أن قريشا لما سمعت هذه الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر و الزبد و في رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر و زبد فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر و النار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه «إنا جعلناها فتنة للظالمين».
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق عديدة.
|