بيان
ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح و من الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، و قد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا» الآية: آل عمران - 64، من حيث تاريخ النزول.
و ربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، و لا يزال موجها إليهم، و محصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم و لومهم على حب الدنيا و إيثار المال و المنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه و أنبيائه و أنكم أهل البر و التقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم و تبخلون في بذلها و لا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله و فقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، و لا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: و فيه تمحل ظاهر!.
و أما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.
قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، النيل هو الوصول، و البر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر خلاف البحر، و تصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، انتهى.
و مراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق و النية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله و الإنفاق في سبيل الله تعالى، و قد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلوة و آتى الزكوة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس» الآية: البقرة - 177.
و من انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البر الآية، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية و الاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، و عده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات و الأعمال التي لا يظهر معها فوت و لا زوال منه.
و من هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، و كان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، و نحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية.
و يتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية و العملية، و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله و إنعامه، و ما في قول آخرين: إن المراد به الجنة.
قوله تعالى: و ما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم، تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم و ما ينفقونه.
قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، الطعام كل ما يطعم و يتغذى به و كان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة و ينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق، و الحل مقابل الحرمة، و كأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد و العقل فيفيد معنى الإطلاق، و إسرائيل هو يعقوب النبي (عليه السلام) سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، و يقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه على ما في التوراة و هو مما يكذبه القرآن و يحيله العقل.
و قوله: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفا، و قوله: من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى، و المعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.
و في قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و يدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع و يحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها» الآية: البقرة - 106، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم»: النساء - 160.
و كذا يدل قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و كون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، و الاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، و هي ملة فطرية لا إفراط فيها و لا تفريط، كيف؟ و هم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، و النسخ غير جائز؟.
فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، و يظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: «و قالت اليهود يد الله مغلولة»: المائدة - 64، و قوله: «و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة»: البقرة - 80، و قوله «و قالوا قلوبنا غلف»: البقرة - 88 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و كذا قوله تعالى بعد عدة آيات: «قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات «: آل عمران» 98100.
و بالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون و يتحاورون.
و حاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا و هو يخبر بالنسخ، و أن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، و هذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، و حاصل الجواب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة و اتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، و هو قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.
فإن أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب و أنكم الظالمون، و ذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله الظالمون.
و قد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي و هي ملة إبراهيم حنيفا، و ذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم إلى آخر الآية.
و للمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.
و أعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ، و تقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم و النبيين بعده - كما تدعي - فكيف تستحل ما كان محرما عليه و عليهم كلحم الإبل؟ أما و قد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، و موافق في الدين، و لا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به.
و محصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس و منهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، و السيئات كما قال تعالى: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» الآية: النساء - 160، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، و معنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم و اجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، و قوله: من قبل أن تنزل التورية متعلق بقوله: حرم إسرائيل، و لو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزل التورية لغوا زائدا من الكلام لبداهه أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره.
هذا محصل ما ذكره و ذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال: إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.
و قد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه، و عمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزل التورية على أنه متعلق بقوله: حرم إسرائيل، مع كونه متعلقا بقوله: كان حلا، في صدر الكلام و قوله إلا ما حرم، استثناء معترض.
و من ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.
على أن إطلاق إسرائيل و إرادة بني إسرائيل و إن كان جائزا على حد قولهم: بكر و تغلب و نزار و عدنان يريدون بني بكر و بني تغلب و بني نزار و بني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، و لا أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة في غير هذا المورد الذي يدعيانه مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، و من جملتها نفس هذه الآية: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: إسرائيل، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، و ناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.
و من أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل و لو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.
قوله تعالى: قل فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صادقين أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، و هذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و على هذا ففيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، و تعريض لليهود، و الكلام يجري مجرى الكناية.
و أما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك، و على هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية و الستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: «إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين»: سبأ - 24، و المشار إليه بذلك هو البيان و الحجة.
و إنما قال: من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، و القصر في قوله: فأولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال.
قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا «الخ» أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به و دعوتكم إليه فاتبعوا ديني و اعترفوا بحلية لحم الإبل و غيره من الطيبات التي أحلها الله، و إنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم و ظلمكم كما أخبر تعالى به.
فقوله: فاتبعوا «الخ» كالكناية عن اتباع دينه، و إنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم و سائر الرزق.
بحث روائي
في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله.
أقول: و ما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة و الجماعة.
و قوله في الرواية: لم يحرمه و لم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه، و المعنى لم يحرمه موسى و لم يأكله، و يحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل، و يظهر من التاج، أن التفعيل و المفاعلة فيه بمعنى واحد.
|