بيان
في الآيات كرة أخرى على المشركين بالاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية و أنه لا يصلح لها شركاؤهم و أن الشفاعة التي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلا الله سبحانه و فيها أمور أخر متعلقة بالدعوة من موعظة و إنذار و تبشير.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله» إلى آخر الآية شروع في إقامة الحجة و قد قدم لها مقدمة تبتني الحجة عليها و هي مسلمة عند الخصم و هي أن خالق العالم هو الله سبحانه فإن الخصم لا نزاع له في أن الخالق هو الله وحده لا شريك له و إنما يدعي لشركائه التدبير دون الخلق.
و إذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات و الأرض من عين و لا أثر إلا و ينتهي وجوده إليه تعالى فما يصيب كل شيء من خير أو شر كان وجوده منه تعالى و ليس لأحد أن يمسك خيرا يريده تعالى له أو يكشف شرا يريده تعالى له لأنه من الخلق و الإيجاد و لا شريك له تعالى في الخلق و الإيجاد حتى يزاحمه في خلق شيء أو يمنعه من خلق شيء أو يسبقه إلى خلق شيء و التدبير نظم الأمور و ترتيب بعضها على بعض خلق و إيجاد فالله الخالق لكل شيء كاف في تدبير أمر العالم لأنه الخالق لكل شيء و ليس وراء الخلق شيء حتى يتوهم استناده إلى غيره فهو الله رب كل شيء و إلهه لا رب سواه و لا إله غيره.
فقوله: «قل أ فرأيتم ما تدعون من دون الله» أي أقم الحجة عليهم بانيا لها على هذه المقدمة المسلمة عندهم أن الله خالق كل شيء و قل مفرعا عليه أخبروني عما تدعون من دون الله، و التعبير عن آلهتهم بلفظة «ما» دون «من» و نحوه يفيد تعميم البيان للأصنام و أربابها جميعا فإن الخواص منهم و إن قصروا العبادة على الأرباب من الملائكة و غيرهم و اتخذوا الأصنام قبلة و ذريعة إلى التوجه إلى أربابها لكن عامتهم ربما أخذوا الأصنام نفسها أربابا و آلهة يعبدونها و نتيجة الحجة عامة تشمل الجميع.
و قوله: «إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته» الضر كالمرض و الشدة و نحوهما و ظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكل مصيبة، و إضافة الضر و الرحمة إلى ضميره تعالى في «كاشفات ضره» و «ممسكات رحمته» لحفظ النسبة لأن المانع من كشف الضر و إمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى.
و تخصيص الضر و الرحمة به (صلى الله عليه وآله وسلم) من عموم الحجة له و لغيره لكونه المخاصم الأصيل لهم و قد خوفوه بآلهتهم من دون الله.
و إرجاع ضمير الجمع المؤنث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير أولي العقل من الأصنام و هو يؤيد ما قدمناه في قوله: «أ فرأيتم ما تدعون من دون الله» أن التعبير بما لتعميم الحجة للأصنام و أربابها.
و قوله: «قل حسبي الله» أمر بالتوكل عليه تعالى كما يدل عليه قوله بعده: «عليه يتوكل المتوكلون» و هو موضوع موضع نتيجة الحجة كأنه قيل: قل لهم: إني اتخذت الله وكيلا لأن أمر تدبيري إليه كما أن أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلت الحجة على ربوبيته و صدقت ذلك عملا باتخاذه وكيلا في أموري.
و قوله: «عليه يتوكل المتوكلون» تقديم الظرف على متعلقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكلون لا على غيره، و إسناد الفعل إلى الوصف من مادته للدلالة على كون المراد المتوكلين بحقيقة معنى التوكل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنه الأهل للتوكل عليه يتوكل أهل البصيرة في التوكل فلا لوم علي أن توكلت عليه و قلت: حسبي الله.
قوله تعالى: «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل - إلى قوله - عذاب مقيم» المكانة هي المنزلة و القدر و هي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمروا على الحالة التي هم عليها من الكفر و العناد و الصد عن سبيل الله.
و قوله: «فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه» الظاهر أن «من» استفهامية لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلق بالجملة لا بالمفرد.
و قوله: «و يحل عليه عذاب مقيم» أي دائم و هو المناسب للحلول، و تفكيك أمر العذابين يشهد أن المراد بالأول عذاب الدنيا و بالثاني عذاب الآخرة، و في الكلام أشد التهديد.
و المعنى قل مخاطبا للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرين - على حالتكم التي أنتم عليها من الكفر و العناد إني عامل - كما أومر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يذله؟ و هو عذاب الدنيا كما في يوم بدر و يحل عليه و لا يفارقه عذاب دائم و هو عذاب الآخرة.
قوله تعالى: «إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق» إلى آخر الآية.
في مقام التعليل للأمر الذي في الآية السابقة، و اللام في قوله: «للناس» للتعليل أي لأجل الناس أن تتلوه عليهم و تبلغهم ما فيه، و الباء في قوله: «بالحق» للملابسة أي ملابسا للحق لا يشوبه باطل.
و قوله: «فمن اهتدى فلنفسه و من ضل فإنما يضل عليها» أي يتفرع على هذا الإنزال أن من اهتدى فإنما يعود نفعه من سعادة الحياة و ثواب الدار الآخرة إلى نفسه، و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود شقاؤه و وباله من عقاب الدار الآخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجل من أن ينتفع بهداهم أو يتضرر بضلالهم.
و قوله: «و ما أنت عليهم بوكيل» أي مفوضا إليه أمرهم قائما بتدبير شئونهم حتى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم.
و المعنى إنما أمرناك أن تهددهم بما قلنا لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لأجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنما يعود نفعه إلى نفسه و من ضل و لم يهتد به فإنما يعود ضرره إلى نفسه و ما أنت وكيلا من قبلنا عليهم تدبر شئونهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الأمر شيء.
قوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» إلى آخر الآية، قال في المجمع،: التوفي قبض الشيء على الإيفاء و الإتمام يقال: توفيت حقي من فلان و استوفيته بمعنى.
انتهى.
تقديم المسند إليه في الآية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفي لها لا غير و إذا انضمت الآية إلى مثل قوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:» السجدة: - 11، و قوله: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا:» الأنعام: - 61 أفادت معنى الأصالة و التبعية أي إنه تعالى هو المتوفي بالحقيقة و ملك الموت و الملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره.
و قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» المراد بالأنفس الأرواح المتعلقة بالأبدان لا مجموع الأرواح و الأبدان لأن المجموع غير مقبوض عند الموت و إنما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلقه بالبدن تعلق التصرف و التدبير و المراد بموتها موت أبدانها إما بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقلي، و كذا المراد بمنامها.
و قوله: «و التي لم تمت في منامها» معطوف على الأنفس في الجملة السابقة، و الظاهر أن المنام اسم زمان و في منامها متعلق بيتوفى و التقدير و يتوفى الأنفس التي لم تمت في وقت نومها.
ثم فصل تعالى في القول في الأنفس المتوفاة في وقت النوم فقال: «فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى» أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها و لا يردها إلى بدنها، و يرسل النفس الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى تنتهي إليه الحياة.
و جعل الأجل المسمى غاية للإرسال دليل على أن المراد بالإرسال جنسه بمعنى أنه يرسل بعض الأنفس إرسالا واحدا و بعضها إرسالا بعد إرسال حتى ينتهي إلى الأجل المسمى.
و يستفاد من الآية أولا: أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه و تستقل عنه و تبقى بحيالها.
و ثانيا: أن الموت و النوم كلاهما توف و إن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده و النوم توف ربما كان بعده إرسال.
ثم تمم الآية بقوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» فيتذكرون أن الله سبحانه هو المدبر لأمرهم و أنهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا.
قوله تعالى: «أم اتخذوا من دون الله شفعاء» إلخ «أم» منقطعة أي بل اتخذ المشركون من دون الله شفعاء و هم آلهتهم الذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه كما قال في أول السورة: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» و قال: «يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله:» يونس: - 18.
و قوله: «قل أ و لو كانوا لا يملكون شيئا و لا يعقلون» أمر بأن يرده عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإن من البديهي أن الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد؟ و ممن يريد؟ و لمن يريد؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الذي لا شعور له و كذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة و يكون له حق أن يشفع و لا ملك لغير الله إلا أن يملكه الله شيئا و يأذن له في التصرف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقا الشامل لما لا يملكونه و لا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرص.
فالاستفهام في «أ و لو كانوا» إلخ للإنكار و المعنى قل لهم هل تتخذونهم شفعاء لكم و لو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئا كالملائكة و لا يعقلون شيئا كالأصنام؟ فإنه سفه.
قوله تعالى: «قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات و الأرض» إلخ توضيح و تأكيد لما مر من قوله: «قل أ و لو كانوا لا يملكون شيئا» و اللام في «لله» للملك، و قوله: «له ملك السموات و الأرض» في مقام التعليل للجملة السابقة، و المعنى كل شفاعة فإنها مملوكة لله فإنه المالك لكل شيء إلا أن يأذن لأحد في شيء منها فيملكه إياها، و أما استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقا كما يقولون فمما لا يكون قال تعالى: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه:» يونس: - 3.
و للآية معنى آخر أدق إذا انضمت إلى مثل قوله تعالى: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع:» الأنعام: - 51 و هو أن الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه و غيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدم في بحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن الشفاعة ينتهي إلى توسط بعض صفاته تعالى بينه و بين المشفوع له لإصلاح حاله كتوسط الرحمة و المغفرة بينه و بين عبده المذنب لإنجائه من وبال الذنب و تخليصه من العذاب.
و الفرق بين هذا الملك و ما في الوجه السابق أن المالك لا يتصف بمملوكه في الوجه السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإن المالك فيه يتصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته.
و قوله: «ثم إليه ترجعون» تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعا الدال على الحصر و ذلك أن الشفاعة إنما يملكها الذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها و أصلح حال المشفوع له و أما غيره فإنما يملكها إذا رضي بها و أذن فيها و الله سبحانه هو الذي يرجع إليه العباد دون الذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعا فقولهم بكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقا ثم عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبنى يعتمد عليه.
و قيل: قوله: «ثم إليه ترجعون» تهديد لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم و يخيب سعيكم في عبادتهم.
و قيل: يحتمل أن يكون تنصيصا على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة و إيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه تعالى، و الوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: «و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة» إلخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفردا بالذكر من غير ذكر آلهتهم و من مصاديقه قول لا إله إلا الله، و الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشيء.
و إنما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالآخرة لأن ذلك هو الأصل في اشمئزازهم و لو كانوا مؤمنين بالآخرة و أنهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم و لم يرغبوا عن ذكره وحده.
و قوله: «و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون» المراد بالذين من دونه آلهتهم، و الاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه.
قوله تعالى: «قل اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم» إلخ لما بلغ الكلام مبلغا لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الآخرة و إنكارهم الرجوع إليه تعالى حتى كانوا يشمئزون من ذكره تعالى وحده أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكره تعالى وحده و يذكرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الإقرار بالبعث و قد وصف الله تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض أي مخرجها من كتم العدم إلى ساحة الوجود، و عالم الغيب و الشهادة فلا يخفى عليه شيء، و لازمه أن يحكم بالحق و ينفذ حكمه.
قوله تعالى: «و لو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة» إلخ المراد بالذين ظلموا هم الذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، و الظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال: «أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:» الأعراف: - 45.
و المعنى: و لو أن للظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الأرض من أموال و ذخائر و كنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب.
و قوله: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون» البداء و البدو بمعنى الظهور و الحساب و الحسبان العد، و الاحتساب الاعتداد بالشيء بمعنى البناء على عده شيئا و كثيرا ما يستعمل الحسبان و الاحتساب بمعنى الظن كما قيل و منه قوله: «ما لم يكونوا يحتسبون» أي ما لم يكونوا يظنون لكن فرق الراغب بين الحسبان و الظن حيث قال: و الحسبان أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله و يكون بعرض أن يعتريه فيه شك، و يقارب ذلك الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر.
انتهى.
و مقتضى سياق الآية أن المراد بيان أنهم سيواجهون يوم القيامة أمورا على صفة هي فوق ما تصوروه و أعظم و أهول مما خطر ببالهم لا أنهم يشاهدون أمورا ما كانوا يعتقدونها و يذعنون بها و بالجملة كانوا يسمعون أن لله حسابا و وزنا للأعمال و قضاء و نارا و ألوانا من العذاب فيقيسون ما سمعوه - على إنكار منهم له - على ما عهدوه من هذه الأمور في الدنيا فلما شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم مما كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الآية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنة: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين:» السجدة: - 17.
و أيضا مقتضى السياق أن البدو المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء و الانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق: - 22.
قوله تعالى: «و بدا لهم سيئات ما كسبوا» إلى آخر الآية أي ظهر لهم سيئات أعمالهم بعد ما كانت خفية عليهم فهو كقوله: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء:» آل عمران: - 30.
و قوله: «و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» أي و نزل عليهم و أصابهم ما كانوا يستهزءون به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة و أهواله و أنواع عذابه.
قوله تعالى: «فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم» إلخ الآية في مقام التعليل البياني لما تقدم من وصف الظالمين و لذا صدرت بالفاء لتتفرع على ما تقدم تفرع البيان على المبين.
فهو تعالى لما ذكر من حالهم أنهم أعرضوا عن كل آية دالة على الحق و لم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم و لم يسمعوا موعظة و لم يعتدوا بعبرة فجحدوا ربوبيته تعالى و أنكروا البعث و الحساب و بلغ بهم ذلك أن اشمأزت قلوبهم إذا ذكر الله وحده.
بين أن ذلك مما يستدعيه طبع الإنسان المائل إلى اتباع هوى نفسه و الاغترار بما زين له من نعم الدنيا و الأسباب الظاهرية الحافة بها فالإنسان حليف النسيان إذا مسه الضر أقبل إلى ربه و أخلص له و دعاه ثم إذا خوله ربه نعمة نسبه إلى علم نفسه و خبرته و نسي ربه و جهل أنها فتنة فتن بها.
فقوله: «فإذا مس الإنسان ضر» أي مرض أو شدة «دعانا» أي خصنا بالدعاء و انقطع عن غيرنا.
و قوله: «ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم» التخويل الإعطاء على نحو الهبة، و تقييد النعمة بقوله: «منا» للدلالة على كون وصف النعمة محفوظا لها و المعنى خولناه نعمة ظاهرا كونها نعمة.
و ضمير «أوتيته» للنعمة بما أنه شيء أو مال و العناية في ذلك بالإشارة إلى أنه لا يعترف بكونها نعمة منا بل يقطعها عنا فيسميها شيئا أو مالا و نحوه و لا يسميها نعمة حتى يضطره ذلك إلى الاعتراف بمنعم و الإشارة إليه كما قال: «أوتيته» فصفح عن الفاعل لذلك و التعبيران أعني «نعمة منا» «إنما أوتيته» من لطيف تعبير القرآن، و قد وجهوا تذكير الضمير في «أوتيته» بوجوه أخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصلات.
و الملائم لسياق الآية أن يكون معنى «على علم» على علم مني أي أوتيت هذا الذي أوتيت على علم مني و خبرة بطرق كسب المعاش و اقتناء الثروة و جمع المال.
و قيل: المراد إنما أوتيته على علم من الله بخير عندي أستحق به أن يؤتيني النعمة، و قيل: المراد على علم مني برضا الله عني، و أنت خبير بأن ما تقدم من معنى قوله: «ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته» لا يلائم شيئا من القولين.
و قوله: «بل هي فتنة و لكن أكثرهم لا يعلمون» أي بل النعمة التي خولناه منا فتنة أي ابتلاء و امتحان نمتحنه بذلك و لكن أكثرهم لا يعلمون بذلك.
و قيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، و قيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها و الوجهان بعيدان سيما الأخير.
قوله تعالى: «قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا» ضمير «قد قالها» راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة.
و الآية رد لقولهم و إثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنهم لو أوتوها على علم منهم و اكتسبوها بحولهم و قوتهم لأغنى عنهم كسبهم و لم يصبهم سيئات ما كسبوا و حفظوها لأنفسهم و تنعموا بها و لم يهلكوا دونها و ليس كذلك فهؤلاء الذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم و أصابهم سيئات ما كسبوا.
و الظاهر أن الآية تشير بقوله: «قد قالها الذين من قبلهم» إلى قارون و أمثاله و قد حكي عنه قول «إنما أوتيته على علم عندي» في قصته من سورة القصص.
قوله تعالى: «و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين» الإشارة بهؤلاء إلى قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيئات كسبهم و وبالات عملهم و ما هم بمعجزين لله.
قوله تعالى: «أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر» إلخ جواب آخر عن قول القائل منهم: «إنما أوتيته على علم» و قد كان الجواب الأول «قد قالها الذين من قبلهم» إلخ جوابا من طريق النقض و هذا جواب من طريق المعارضة بالإشارة إلى دلالة الدليل على أن الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق و يقدر.
بيان ذلك: أن سعي الإنسان عن علم و إرادة لتحصيل الرزق ليس سببا تاما موجبا لحصول الرزق و إلا لم يتخلف و من البين خلافه فكم من طالب رجع آيسا و ساع خاب سعيه.
فهناك علل و شرائط زمانية و مكانية و موانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حد الإحصاء إذا اجتمعت و توافقت أنتج ذلك حصول الرزق.
و ليس اجتماع هذه العلل و الشرائط على ما فيها من الاختلاف و التشتت و التفرق من مادة و زمان و مكان و مقتضيات أخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدمة و علل العلل و مقدماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعا و توافقا على سبيل الاتفاق فإن الاتفاق لا يكون دائميا و لا أكثريا و قانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحية بل المنبسط على أقطار العالم المشهود و أرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة و الانبساط و لو انقطع لهلكت الأشياء لأول لحظة و من فورها.
و هذا النظام الجاري بوحدته و تناسب أجزائه و تلاؤمها يكشف عن وحدانية ناظمه و فردانية مدبره و مديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به و هو الله عز اسمه.
على أن النظام من التدبير و التدبير من الخلق كما مر مرارا فخالق العالم مدبره و مدبره رازقه و هو الله تعالى شأنه.
و يشير إلى هذا البرهان في الآية قوله: «لمن يشاء» فإنه إذا كان بسط الرزق و قدره بمشيئته تعالى لم يكن بمشيئة الإنسان الذي يتبجح بعلمه و سعيه و لا بمشيئة شيء من العلل و الأسباب و إيجابه كما هو ظاهر و ليس من قبيل الاتفاق بل هو على نظام جار فهو بمشيئة جاعل النظام و مجريه و هو الله سبحانه.
و قد تقدم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى: «و ترزق من تشاء بغير حساب:» آل عمران: - 27 و سيأتي كلام فيه في تفسير قوله: «فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون:» الذاريات: - 23 إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في التوحيد، عن علي (عليه السلام) في حديث: و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و أما قوله: «يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم» و قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» و قوله: «توفته رسلنا و هم لا يفرطون» و قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» و قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم» فإن الله تبارك و تعالى يدبر الأمر كيف يشاء و يوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه و يوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه. و ليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن فيهم القوي و الضعيف، و لأن منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله و أعانه عليه من خاصة أوليائه. و إنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، و أنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم.
و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم و هو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسده.
و في المجمع،: روى العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس و إن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح و هو قوله سبحانه: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» الآية. فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو مما يخيله الشيطان و لا تأويل له.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد و يرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا. فقال علي بن أبي طالب: أ فلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها - فيمسك التي قضى عليها الموت - و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى» فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت و هي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، و ما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقيها الشياطين في الهواء فكذبتها و أخبرتها بالأباطيل فعجب عمر من قوله.
أقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف و الرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، و قد أطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأعظم و ما بين السماء و الأرض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأصغر فتبصر.
|